قراءة لتداعيات الاتفاق النووي في المشهد الأميركي
الاتفاق النووي مع إيران كان الموضوع الأبرز في اهتمامات النخب السياسية والفكرية الأميركية، وما يرافقه من اصطفافات واستقطابات حادة.
سيستعرض قسم التحليل الاتفاق المبرم من زاوية البعد السياسي الأميركي، والتوتر القائم بين السلطة التشريعية في الكونغرس والبيت الأبيض، وتهديد الأولى بإسقاط الاتفاق بعد ان نالت «تنازلاً» من قبل الرئيس أوباما يتيح لها بموجبه حق مراجعة وإقرار أيّ اتفاق يعقد. يزداد الأمر تعقيداً عند النظر الى الاستحقاقات الانتخابية المقبلة للحزبين، وتخلّف عدد من أعضاء الحزب الديمقراطي في مجلس الشيوخ عن دعم الاتفاق وما سينجم عنه من تعديل في موازين القوى في الدورة المقبلة للكونغرس، خاصة في ظلّ ترجيح بروز السيناتور المؤيد بشدة لـ«إسرائيل»، شاك شومر، في منصب زعيم ممثلي الحزب الديمقراطي. ايضاً، أصدرت المرشحة الأقوى عن الحزب الديمقراطي، هيلاري كلينتون، تأييداً حذراً للاتفاق الذي جاء تتويجاً للجهود الديبلوماسية الأخيرة التي بدأت ابان فترة ولايتها في وزارة الخارجية.
الاتفاق النووي
استعرض معهد المشروع الأميركي ما أسماه «النتائج غير المقصودة» للاتفاق، معتبراً انه يشكل «بداية النهاية لاتفاقية عدم انتشار الأسلحة»، نظراً إلى قدرة إيران على «الاحتماء بالاتفاقية بغية التنكر لضوابط الاتفاقيات والمضيّ في جهودها لإنتاج أسلحة نووية». وأضاف انّ إيران استغلت ثغرات الاتفاقية الدولية «لتطوير برنامج الأسلحة النووية، ثمنه إصدار المجتمع الدولي عفواً عن ماضيها، وأعاد تأهيلها وسمح لها الاحتفاظ ببنيتها النووية التحتية».
اعتبر معهد كاتو الاتفاق تتويجاً لعدم فاعلية سياسة «تغيير الأنظمة التي فاحت رائحتها في هذه الايام، وعلينا الالتفات الى انّ عدداً من الأصوات الصاخبة المناهضة للاتفاق النووي مع إيران كان لها ضلع في تسويق الحرب على العراق للشعب الأميركي في عقد التسعينيات». واضاف انّ اولئك أثبتوا «عدم قدرتهم استيعاب الدروس، بينما توصّل معظم الأميركيين الى نتائج مغايرة»، لا سيما الكلفة الباهظة للإطاحة بالنظام القائم، «فضلاً عن عدم توفر الضمان لأفضلية النظام الجديد عن سالفه». واستشهد المعهد بالتحوّل الذي طرأ على موقف الرئيس السابق جورج بوش الابن الذي «عمّد إيران عام 2002 كعضو مؤسّس في محور الشر، أضحى مؤيداً لمفاوضات 5+1 التي أسفرت عن التوصل إلى الاتفاق الراهن».
رحب معهد كارنيغي بالاتفاق النووي لما سيتركه من اجواء تعزز «السلام الاقليمي»، مستدركاً انّ نصوص الاتفاق تخلو من تطمينات باتجاه كيف للترحيب بانخراط إيران في المعادلة الاقليمية والدولية «ان يسهم في كبح جماح سلوكها الخطر». وأعرب عن أمله بتحقيق نبوءة أحد المسؤولين السعوديين بقوله عام 2007 انّ المطلوب إقليمياً من إيران «الانخراط في شؤون الخليج، واحتواء العراق، وتراجع نفوذها في الشرق الأدنى».
عمد معهد واشنطن لنقل وجهة النظر «الإسرائيلية» مباشرة في هذا الشأن، على لسان قائد عسكري متقاعد رفيع المستوى، مناشداً أقرانه المناهضين للاتفاق النووي «ألا يصيبهم اليأس والإحباط، رغم ما يشكله من نقطة تحوّل دراماتيكية» في المنطقة، مطمئناً انّ «الكلمة الأخيرة لم تقل بعد » إذ لا يزال أمام الولايات المتحدة وشركائها الدوليين مهمة التحقق «من تفعيل تدابير مناسبة ضدّ ايّ انتهاكات» قد تقدم عليها إيران. علاوة على «تفعيل تدابير تردع سياسات إيران الخطرة خارج نطاق الاتفاق النووي». واوضح انّ المطلوب من واشنطن وحلفائها «مواجهة إيران عوضاً عن ادارة الظهر لسياساتها خشية إفشال الاتفاق النووي».
سورية
ناشد معهد كارنيغي الدول الغربية توفير التسهيلات المطلوبة لقوى المعارضة السورية «لتسلم إدارة المرافق الضرورية التي لا تزال تحت سيطرة الحكومة السورية، والتي تراهن على دعم قطاعات الشعب السوري لها كطرف لا يمكن الاستغناء عنه لتوفير الخدمات العامة الضرورية». واضاف ان بروز «داعش» كطرف يوفر بعض الخدمات الأساسية «قد صبّ في صالح النظام لتسليط الضوء على عجز المعارضة المعتدلة القيام بالمثل».
أجرى معهد الدراسات الحربية مناورات عسكرية نظرية مطلع العام الجاري بغية «تلمّس أدق للفرص الديبلوماسية والعسكرية، وكذلك للثغرات المرئية لجهود مكافحة داعش في غضون الشهور المقبلة». واوضح انّ بعض تنبّؤاته واستنتاجاته في هذا الصدد قد تحققت بالفعل، أبرزها انّ «التغاضي عن او تأجيل العمل ضدّ داعش لن يؤدّي بالضرورة الى صون الخيارات الاستراتيجية في المسقبل». وحذر انّ ذلك قد يؤدّي الى «تضييق الخيارات الاستراتيجية المتوفرة للولايات المتحدة، بينما تتنامى قوة الطرف المقابل وتحمل القوى الحليفة بعض الخسائر مما يحفزها طلب الحماية من اطراف اخرى». كما حذر مُعدّو المناورات من أن تؤدّي تلك الجهود الى «تأجيج الصراعات الطائفية دون قصد».
الوجود الأميركي في الخليج
اعتبر مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية «الشراكة الاستراتيجية الأميركية مع الدول الخليجية تمتدّ الى ما هو أبعد من التوصل إلى توازن عسكري» في المنطقة. واستعرض المركز تأثير «التطورات القسرية في الإقليم على إدارة الحرب غير المتماثلة المشتركة، والصواريخ، ومنشآت الدفاع الصاروخي، والقوات النووية، وكذلك شؤون الإرهاب، ودور الأطراف العاملة خارج نطاق الدولة، والقوى الخارجية ايضا».
ثروة غاز المتوسط
استعرض صندوق مارشال الألماني شؤون تسويق الثروة الغازية في البحر المتوسط «على الشواطئ القبرصية والاسرائيلية والمصرية». معرباً عن اعتقاده انّ السوق المصرية مقبلة على معاناة تدني معدلات الغاز الطبيعي المتوفرة «للعقد المقبل على الرغم من الاستثمارات الكبيرة» الموعودة في هذا القطاع. واضاف انّ حاجة مصر إلى «تصدير سائل الغاز الطبيعي لأسواق آسيوية وأوروبية من منشأتيها الراهنتين قد تعزز جاذبية تسويق الصادرات الغازية من اسرائيل».
السياسة الخارجية مادة مزاد في الانتخابات
تناول معهد أبحاث السياسة الخارجية ملامح توجهات المرشحين عن الحزب الجمهوري في مجال السياسة الخارجية لأميركا، لا سيما في نطاق الشرق الاوسط. واوضح انّ معظم المرشحين يسعى إلى استمالة الرأي العام عبر الولوج الى التخلي عن سياسة غزو واحتلال العراق عام 2003، واعتبار الاغلبية انها كانت «خطأً»، بينما لا تزال اقلية من المرشحين، لا سيما انصار معسكر الحرب، تعتبرها من الضرورات. بعض المرشحين بدّل مواقفه أكثر من مرة، من التأييد للمعارضة وما بينهما، مثل المرشح ماركو روبيو، الذي يحظى بعضوية لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي. واضاف انّ مرشح آل بوش، جيب، أعطى إجابات متعدّدة متناقضة قبل ان يرسو على رأي الأغلبية «بعدم الذهاب إلى الحرب في العراق». اما في مسألة إرسال مزيد من القوات العسكرية الأميركية والانخراط المباشر في الحرب ضد «داعش»، فقد أوضح المعهد أنّ «أكثر من نصف المرشحين يؤيدون إرسال قوات أميركية، مقابل أقلية من أربعة مرشحين يعتبرونه خياراً يمكن اللجوء اليه في المستقبل». واوضح انّ مسألة التفاوض مع إيران حول برنامجها النووي لقيت إجماعاً بالمعارضة والدعوة الى «تعزيز العلاقات مع اسرائيل». اما في مسألة «حلّ الدولتين» الذي تدعمة رسمياً الادارة الأميركية فهناك انقسام واضح بين المرشحين و«إجماع على ضرورة التشدّد في التعامل مع السلطة الفلسطينية».
استدارة أميركية للانفراج والاحتواء
في أوج الحرب الباردة أدرك العالم مخاطر الحرب النووية عقب استخدام الولايات المتحدة السلاح النووي مرتين ضدّ اليابان، شكل نداء الثنائي الشهير «بيرتراند راسل البرت اينشتاين»، 9 تموز 1955، صرخة مدوية لقادة الولايات المتحدة والدول الغربية للإقلاع عن تطوير وإنتاج الأسلحة النووية، واعتماد الحلول السلمية وسيلة لحلّ النزاعات القائمة. تبلور النداء الى حملة وحركة عالمية للحدّ من انتشار الأسلحة النووية، سجل وعياً أفضل وأشمل لنزعة القادة الغربيين إبادة الحضارات الانسانية عند «الآخر».
في الذكرى الستين للبيان الشهير انفرجت أسارير العالم قاطبة لتخلي الولايات المتحدة عن خيار المواجهة والحرب ضدّ إيران، باستثناء الثنائي الكيان الصهيوني والمملكة السعودية، بالإعلان عن اتفاق شامل ينظم العلاقة للحدّ من انتشار الأسلحة بضمانات دولية جماعية بين الدول الغربية المدجّجة بالأسلحة النووية، بالإضافة إلى روسيا والصين، وإيران التي «يعتقد» بلوغها تخطي المرحلة النووية.
اتفاق جاء ثمرة اتصالات «سرية» احياناً بين واشنطن وطهران ومفاوضات امتدّت لنحو عقدين من الزمن، توّجت بمكالمة هاتفية مباشرة بين الرئيس الإيراني حسن روحاني والرئيس الأميركي باراك أوباما، ايلول 2013، كانت الأولى بين البلدين بشكل رسمي منذ انتصار الثورة الإيرانية عام 1979. وترقب العالم لمدة 17 يوماً من المفاوضات المكثفة في فيينا بين إيران والدول النووية كافة، وتجاوزها عدداً من المواعيد المحدّدة. حقيقة الأمر انّ المفاوضات كانت ثنائية بين إيران والولايات المتحدة، ليس الا. الأطراف الأوروبية وفرت الغطاء السياسي والديبلوماسي المطلوب لموقف واشنطن، بينما فاعليتها كانت أدنى من درجة الحسم.
إعلان الاتفاق جاء على لسان قمة السلطة السياسية في واشنطن، بتصريح للرئيس أوباما في وقت مبكر من صبيحة 14 تموز الجاري قائلاً: «اليوم وبعد انقضاء عامين من المفاوضات، حققت الولايات المتحدة وشركاؤها الدوليين إنجازاً عجزنا عن بلوغه طيلة عقود من العداء اتفاق شامل طويل الأجل مع إيران من شأنه كبح قدرتها للحصول على سلاح نووي». مستطرداً للردّ على خصومه «ببساطة، عدم التوصل إلى اتفاق يعني تعاظم فرص مزيد من الحروب في الشرق الاوسط».
سارع خصوم الاتفاق للتنديد به، فور اطلاع البيت الابيض لهم في جلسات مغلقة على تفاصيله، وبرز السيناتور المتشدّد ليندسي غراهام في مقدّمة المعارضين قائلاً: «ان الاتفاق يعد بمثابة اعلان حرب على العرب السنة واسرائيل من قبل اطراف 5+1». اللافت انّ غراهام أقرّ في مقابلة متلفزة مع شبكة سي ان ان لاحقاً صباح يوم الإعلان بأنه لم يطلع او يقرأ نصوص الاتفاق الذي تمتدّ اهمّ بنوده واشدّها حساسية بالنسبة إلى المعارضين على نحو 20 صفحة.
اهمية توقيت الاتفاق
المجتمع الأميركي مولع باستطلاعات الرأي التي استند اليها البيت الابيض في تعديل المؤشرات الشعبية لصالحه. وقد أشار استطلاع أجري قبل أسبوع من اعلان الاتفاق الى تأييد 51 في المئة من الأميركيين انخراط بلادهم في المفاوضات الديبلوماسية مع إيران وأعرب 45 في المئة منهم عن رغبته باستمرار العقوبات الجارية في مستوياتها الراهنة، مقابل 32 في المئة طالبوا بفرض مزيد من العقوبات.
يجمع المراقبون ان أحد أهمّ دوافع الإدارة الأميركية لبلوغ الاتفاق هو الأجواء الانتخابية الداخلية، والاصطفافات الحادّة بين مرشحي الحزب الجمهوري لمناهضته، مقابل «غياب» ردود مناهضة من قبل مرشحي الحزب الديمقراطي الذين ربما لا يجرؤون على تجاوز أعلى سلطة حزبية، قبل الموقع السياسي، في ظلّ ظروف بالغة التعقيد. الأمر الذي يلقي بعض الضوء على النبرة الهجومية للرئيس أوباما وأركان إدارته واتخاذ زمام المبادرة مبكراً لـ«توضيح» آفاق الاتفاق لأعضاء الكونغرس من حزبه بالدرجة الأولى والذين يعوّل عليهم لإفشال ايّ محاولات او تدابير قد يلجأ اليها الحزب الجمهوري لمعارضة الاتفاق.
الحديث والخطاب الإعلامي يراهن على «قدرة الكونغرس بأغلبيته من الجمهوريين» مناهضة مساعي الرئيس أوباما والإطاحة بأيّ بادرة قد تفسّر انتصاراً لسياساته. بل ذهب زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ، ميتش ماكونل، الى التبجّح بأنّ لديه أصواتاً كافية لمعارضة الاتفاق، اكثر من 60 عضواً من مجموع 100.
حقيقة الأمر أنّ ماكونل يحتاج الى نسبة الثلثين، ايّ ما يعادل 67 صوتاً لضمان نجاح جهوده أمام إصرار الرئيس أوباما على استخدام حقه في نقض قرار المجلس. بل يحتاج المعارضون إلى ذات النسبة من الأغلبية المطلقة في كلا المجلسين، النواب والشيوخ، لتشكيل حصانة ضدّ قرار فيتو الرئيس، الأمر الذي يبدو صعب المنال، انْ لم يكن مستحيلاً، في ظلّ المناخ السياسي الراهن.
في هذا الصدد، أوضحت يومية «واشنطن بوست» انّ قراءتها تشير الى ارتياح الرئيس أوباما لتأييد 24 عضواً من مجموع 34 صوتاً مطلوب في مجلس الشيوخ منهم 15 عضواً ديمقراطياً «قد» يصوّت ضدّ الاتفاق، من بينهم السيناتور شاك شومر. أما باقي النواب فيجري التحدّث معهم بشكل منفرد من قبل أركان الإدارة، خاصة نائب الرئيس جو بايدن. النسبة المطلوبة في مجلس النواب لتأييد الاتفاق هي 145 عضواً.
وتلقى الرئيس أوباما دفعة اضافية قبل نهاية الأسبوع الجاري بإعلان نحو 100 ديبلوماسي أميركي سابق تأييد الاتفاق، ويدرك الخصوم انّ هؤلاء لا يمكن تخطيهم او تجاهلهم بسهولة لما يمثلونه من ثقل سياسي معنوي ومصداقية.
المرشحون الديمقراطيون لانتخابات الكونغرس المقبلة، 2016، هم في وضع حرج جماهيرياً: الاصطفاف الى جانب الرئيس في ظلّ مناخ متأزم سياسياً قد يكلفهم الانتخابات، بيد انّ مناهضته قد تحرجهم كثيراً وربما تؤدّي الى عزلة سياسية. البيت الابيض يميل الى الاستناد للممثلين الديمقراطيين في الكونغرس للوقوف بجانبه عند طرح الاتفاق للتصويت، وحرمان الخصوم من الحصول على أغلبية الثلثين لدحض الفيتو الرئاسي المزمع.
موقف السيناتور عن ولاية نيويورك، شاك شومر، يعدّ محورياً للرئيس أوباما لجملة اعتبارات، منها تعويل السيناتور على الفوز بمنصب زعيم الديمقراطيين في المجلس وتعيين من يراه مناسباً لمناصب قيادية، بعد انتخابات 2016 ومن ناحية أخرى سجله المؤيد لـ«إسرائيل» بشدة. شومر لم يحسم أمره بعد، خياره بمناهضة الاتفاق قد يحفز ممثلين آخرين عن الحزب الديمقراطي الاصطفاف لفريقه نظراً للمستقبل السياسي للطرفين بخلاف النجاح الآني في تأييد رئيس في أواخر ولايته الرئاسية.
تقديرات «واشنطن بوست» الأولية لمؤيدي الرئيس أوباما اشارت الى توفر 20 صوتاً، مما يعني انّ الرئيس ينبغي ان يحظى بدعم ما لا يقلّ عن 34 صوتاً، 10 منهم من الحزب الديمقراطي. قرار شومر بالمعارضة من شأنه ان يقوّض الجهود الرامية لتوفير الحصانة الدستورية.
العامل الحاسم يكمن في ميل الرأي الشعبي في ما يتعلق بالاتفاق النووي. اتخاذ الإدارة زمام المبادرة مبكراً للترويج للاتفاق قد يدفع بالممثلين المتردّدين الى تأييد الرئيس، او الاصطفاف الى جانب ضغوط «اللوبي الاسرائيلي»، وانسجام شومر مع هذا التوجه.
النخب الفكرية والسياسية تدرك حقيقة وأبعاد الاتفاق الذي يتمحور حول رؤاها لمستقبل إيران ودورها المنتظر في الاقليم، لا سيما أنّ أولويات واشنطن منصبّة على الاستراتيجية في مواجهة الصين وروسيا.
تأييد النخب للاتفاق يرتكز الى ما هو أبعد من الاتفاق «الذي لن يضع حداً للخلافات حول طموحات إيران النووية»، كما تعتقد، بل يتعلق «بالتحوّلات الاجتماعية والسياسية» في الاقليم، نظراً لقناعاتها مجتمعة بأنّ سياسة الإقصاء والعقوبات لم تحقق سوى مزيد من التشدّد والتقدّم في برنامج إيران النووي، جسّده الرئيس أوباما في تصريحاته الأخيرة بأنّ «سياسة الحفاظ على الوضع الراهن السائدة لنحو عامين من الزمن تعني أننا ذاهبون الى حرب».
أستاذ العلاقات الدولية في جامعة برينستون العريقة، حسين موساويان، اوضح انّ «الاتفاق خطوة ناجحة باتجاه تخفيف حدة التوترات بين طهران وواشنطن ، بيد انّ حائطاً سميكاً من عدم الثقة لا يزال قائماً وتفتيته يحتاج إلى جهود مضنية تستمرّ لبضع سنوات».
آليات التصويت
تأجيل التوصل للاتفاق عن موعده الاولي، نهاية حزيران الماضي، وفرّ للكونغرس فترة زمنية طويلة لمناقشة وتفنيد بنود الاتفاق، 60 يوماً، استناداً الى الاتفاق الذي أبرمه الرئيس أوباما مع قادة الكونغرس في شهر أيار الماضي، تأخذ مفعولها عند تسلم الكونغرس نصوص الاتفاق وملحقاته.
حينئذ تلتئم لجان العلاقات الخارجية، في كلا المجلسين، للبدء في التدقيق بنصوص الاتفاق، يليه طرح الموضوع للتصويت امام كامل أعضاء المجلس وقد يلجأ الى خيار عدم اتخاذ قرار بشأنه. رئيس اللجنة في مجلس الشيوخ، بوب كوركر، اشار الى عزمه طرح المسألة للتصويت في شهر ايلول المقبل، بينما مضى في الإعلان عن معارضته للوثائق.
تنص ملحقات الاتفاق على مبادرة الإدارة الأميركية في التوجّه لمجلس الأمن الدولي لاستصدار قرار يجُبّ ما سبقه من سبعة قرارات دولية لمقاطعة إيران. واعلنت المندوبة الدائمة للولايات المتحدة في الامم المتحدة، سامانثا باور، عن تقديم مسودّة المشروع قبل نهاية الأسبوع. «تطبيق بنود الاتفاق يبدأ خلال 90 يوماً من موافقة مجلس الأمن»، الذي من المتوقع الا يتأخر في تأييده للنصوص المتفق عليها.
خصوم الاتفاق في الكونغرس سارعوا إلى اتهام الإدارة بتقييد حركة النقاش الداخلي بالتوجه لمجلس الأمن. واوضح عضو لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب، إد رويس انه «حث ادارة الرئيس أوباما بعدم الذهاب لمجلس الأمن الدولي لاستصدار قرار بشأن الاتفاق النووي قبل ان يتسنى للكونغرس الفرصة لمراجعته بالتفصيل وخلال المدة القانونية التي أقرّها الكونغرس».
سارع نائب الرئيس جو بايدن الى إحاطة أعضاء الكونغرس بتفاصيل الاتفاق والتحدث مباشرة مع النواب الديمقراطيين في عقر دارهم، والذين لا يزال البعض منهم متوجّساً من نوايا «النظام المارق»، أبرزهم السيناتور بوب منينديز الذي زعم انّ الاتفاق «لا يوقف برنامج إيران النووي، بل يحافظ عليه، كما انه لا يوفر ضمانات بعدم اقتناء إيران سلاح نووي في المستقبل».
جعجعة معارضة الحزبين
أجمع كافة قادة الحزب الجمهوري في الكونغرس على معارضتهم الشديدة للاتفاق، ليس من باب معارضة النصوص والسردية فحسب، بل لمواجهة واعتراض اي مبادرة مصدرها الرئيس أوباما. في الخلفية، يراهن الحزب على نجاحه في الانتخابات الرئاسية المقبلة، إضافة إلى احتفاظه بأغلبية مجلسي الكونغرس، لإبطال مفعول الاتفاق دستورياً. السيناتور المتشدد توم كوتن كان قد ارسل مذكرة إلى الرئيس الإيراني حسن روحاني، مطلع العام الجاري، يحذره من انّ التوصل إلى اتفاق مع الرئيس أوباما لا يحظى بموافقة ومصادقة الكونغرس، سيحيله الى اتفاق موقت وقد يعدّله او يلغيه الرئيس المقبل.
وجدّد كوتون تحذيره عقب توقيع الاتفاق في مقابلة متلفزة مع شبكة ام اس ان بي سي قائلاً: «الاتفاق المقترح يشكل خطأً رهيباً وخطيراً من شأنه تمهيد الطريق لإيران الحصول على سلاح نووي في الوقت الذي يسمح لهم الحصول على سيولة مالية تقدّر بعشرات المليارات من الدولارات نتيجة رفع العقوبات، الشعب الأميركي سيتبرّأ من الاتفاق واعتقد انّ الكونغرس سيبطل مفعوله».
المرشح الجمهوري وفير الثروة، دونالد ترمب، أصدر بياناً يعارض الاتفاق متهماً «إدارة الرئيس أوباما التوصل لاتفاق خطير مع إيران، نشاطات التفتيش لن تنفذ، وإيران لن تقع تحت بند العقوبات بعدئذ. فإيران كسبت كلّ شيء ولم تخسر ايّ شيء».
سعى ترمب إلى خلط الأولويات مذكراً الشعب الأميركي «بنكث الرئيس أوباما لكافة وعوده السابقة، من ضمنها استعادة المعتقلين الأميركيين في إيران، والاتفاق يؤسّس أرضية سباق التسلح النووي في الشرق الاوسط. انه اتفاق مزعج وربما يشكل حدثاً كارثياً لاسرائيل».
الرابح الاكبر بين المرشحين الجمهوريين لمعارضة الاتفاق هو السيناتور ماركو روبيو نظراً إلى عضويته في لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ، التي ستكون المحطة الأولى لتدقيق النصوص وإقرار الاتفاق من عدمه، مما سيخدم مستقبله السياسي بمستويات لم تكن في الحسبان تميّزه عن أقرانه من المرشحين الآخرين.
على الطرف المقابل، أيّدت المرشحة عن الحزب الديمقراطي، هيلاري كلينتون، الاتفاق بحذر، اذ شهدت بدء المفاوضات مع إيران إبان ولايتها في وزارة الخارجية. يُشار الى معارضة كلينتون الشديدة لإيران امتلاك تقنية اليورانيوم، اذ أوضحت العام الماضي انه «على العكس من زعم إيران ، لا يوجد هناك ما يُسمّى حقها في التخصيب، ولا أساس له على الاطلاق».
بذلت كلينتون جهوداً ملحوظة لعدم الظهور العلني بمكانة المعارض لسياسة الإدارة التي عملت معها طيلة ولايتها الأولى وليس في الوارد عندها أيضاً الاصطدام مع قاعدتها الانتخابية ومموّليها من اثرياء اليهود، المناهضين بقوة لإيران.
واصدرت بياناً يؤيد بخجل الاتفاق جاء فيه: «لا زلت منكبّة على دراسة التفاصيل، لكن استناداً الى ما أتيح لي الاطلاع عليه من وثائق ومحادثات خاصة، فانني أؤيد الاتفاق نظراً لأنه يساعدنا في كبح إيران للحصول على سلاح نووي». واضافت انّ «الرسالة التي يتعيّن على إيران ادراكها بوضوح: لن نسمح لك مطلقاً باقتناء سلاح نووي ليس في ما يخصّ المدة المنصوص عليها في هذا الاتفاق بل أبداً، ينبغي تطبيق الشروط المنصوص عليها بقوة دون هوادة».
تشدّد خطاب كلينتون يبطن الحسابات الانتخابية وما يتعيّن عليها فعله. ان نجح الاتفاق والرئيس أوباما، باستطاعتها التمسك بالجزء الأول من الترحيب. اما في حال التردّد والفشل، ستسارع إلى الابتعاد عن سياسات الرئيس أوباما واستخدام «تحذيراتها» كمبرّر متحلية بالرؤية المتشدّدة «وضرورة التدقيق الصارم» طيلة الزمن. ايضاً، ان قرّر السيناتور شومر مناهضة الاتفاق تستطيع كلينتون الاحتماء بتصريحاتها والعمل الجاد مع زعيم الديمقراطيين المقبل في مجلس الشيوخ.
بروز دور نائب الرئيس جو بايدن في تسويق الاتفاق لأقرانه الديمقراطيين يوفر له فرصة فريده في مساره السياسي. في حال نجاح مساعيه بحشد أكبر عدد من الديمقراطيين لتأييد الاتفاق، سينعكس ايجاباً على عدد من الاعضاء الاخرين في الحزب الديمقراطي، لا سيما اولئك المتوجّسين من صعود هيلاري كلينتون والأثقال السياسية المرافقة لها، والذين يرون في بايدن رجل المؤسسة الأمثل لخوض الانتخابات.
المرشح الديمقراطي الآخر للانتخابات الرئاسية، السيناتور بيرني ساندرز، يمثل التيار الأشدّ ليبرالية داخل الحزب، ويعوّل عليه كأحد الاصوات الحاسمة في مجلس الشيوخ تأييداً للاتفاق.
ساندرز كان شديد الوضوح في بيانه المؤيد للاتفاق قائلاً: «أهنّئ الرئيس أوباما، ووزير الخارجية جون كيري وقادة الدول الرئيسة الآخرين لإنجاز اتفاق شامل لكبح إيران من الحصول على سلاح نووي». واضاف انّ ذلك يؤشر على «انتصار الديبلوماسية على قرقعة السلاح وقد يحفظ الولايات المتحدة من الانجرار الى حرب اخرى لا متناهية في الشرق الاوسط. اتطلع بشوق لمعرفة المزيد من التفاصيل المعقدة للاتفاق والتيقن من فعاليته وقوته».
تحلي ساندرز بوضوح الخطاب والمفردات السياسية يميّزه بشدة عن الغموض المقصود للمرشحة كلينتون، وقد يصبّ في صالحه خلال السباق الانتخابي.
للحزب الديمقراطي ايضاً صقوره المعارضة للاتفاق، يتصدّرهم المرشح المحتمل جيمس ويب الذي سارع إلى الإفصاح عن «ريبته الشديدة» من نصوص الاتفاق الذي «يوفر لإيران الكثير من الإنجازات» بينما هو منكبّ على دراسته. وقال في مقابلة صحافية: «لدي تحفظات كثيرة حول هذا الاتفاق، الذي سينجم عنه امتلاك إيران للسلاح النووي»، مطالباً بدور أكبر للكونغرس لمناقشة وإقرار الاتفاق. تصريحات ويب وضعته على مسافة بعيدة ومضادّة لسياسات الرئيس أوباما، وايضاً على نقيض زملائه المرشحين عن الحزب الديمقراطي.
السيناتور ويب يطمع إلى الترشح والفوز بتمثيل الحزب الديمقراطي، لا ريب، ويروّج لنفسه بانه يمثل «الصوت المستقلّ» في قاعدة الحزب الانتخابية وذهب بعيداً في توجيه انتقاداته لأولويات الحزب التاريخية في «القضايا الاجتماعية».
تأكيداً على توجهاته المحافظة، صرّح ويب لشبكة «فوكس نيوز» قبل أسبوع انه قلق لانتقال الحزب الديمقراطي «الى اليسار بشدّة، ذاك ليس الحزب الديمقراطي الذي أؤمن به». ان استطاع ويب البقاء في السباق الانتخابي، وهو أمر مشكوك به، فقد يشكل الفرصة الأمثل للحزب الديمقراطي الفوز بالبيت الأبيض مرة أخرى نظراً إلى توجهاته وسجله لصالح السياسات المحافظة والاصطفاف الى جانب أصحاب رؤوس الأموال.
نظراً إلى العلاقة العدائية للشعب الأميركي حيال إيران، وتكريس التيارات اليمينية جهوداً وموارد كبيرة في هذا الاتجاه، فإنّ الاتفاق النووي «قد» يشكل التهديد الأكبر لمستقبل الحزب الديمقراطي، لا سيما انّ أبرز مرشحيه يعوّل على المصادقة على الاتفاق ويتوجّس من «ايّ تمدّد اقليمي لإيران»، في الوقت نفسه.
تاريخ الانتخابات الرئاسية الأميركية يدلّ بوضوح على الإرهاق الذي يصاب به جمهور الناخبين من الحزب المسيطر على البيت الابيض لولايتين متتاليتين. قد يحالف الحظ الحزب الديمقراطي مرة أخرى انْ توفر لمرشحه بعض المزايا، منها: الابتعاد عن الخطاب السياسي المعتدل طمعاً في كسب القاعدة الانتخابية من البيض والطبقة الاجتماعية الوسطى الذين أحجموا عن تأييد الحزب وتمتع الرئيس أوباما بتأييد شعبي أوسع اضافة إلى ظروف اقتصادية صلبة واختيار مرشح حافظ على مسافة بعيدة نسبياً من الرئيس أوباما وسياساته، والذي من شأنه كسب تأييد أوسع بين قاعدة المستقلين من الناخبين. المواصفات أعلاه تتوفر في السيناتور جيمس ويب بشكل حصري. أما توجه الحزب للذهاب في هذا المجال فهو أمر بعيد المنال.
ابتزاز نتنياهو وتواضع أوباما
لم يخف نتنياهو مناهضته الشديدة لأيّ جهد أميركي للتقارب مع إيران، طيلة تاريخه السياسي، وحثه المتواصل للقوى العالمية لمعارضة «طموحات إيران النووية».
في حيثيات الاتفاق الأخير تحوّل نتنياهو الى عنصر عاجز عن التأثير في المستويات الرئيسة وبين الدول المركزية، الذين يتهموه بالتعجرف ونشود «حلّ مثالي» للملف النووي بالغ التعقيد، لا سيما انّ الجانب الأميركي اوضح مراراً انه لا يوجد حلّ مثالي بالمواصفات التي يطلبها الخصوم. نتنياهو تلقى سلسلة من الصفعات والإخفاقات، لا سيما في نظرته إلى ما يتعيّن على إيران القيام به الذي يمكن إيجازه «بالاستسلام التام لإيران».
الجانب الأميركي، بسياسيّيه وعسكريّيه، أدرك منذ زمن الصعوبة البالغة «لكبح بلد كبير يتمتع بموارد طبيعية جمة ومواهب علمية، من امتلاك التقنية والسلاح النووي».
الرئيس أوباما، من جانبه أقرّ بصعوبة تحقيق السقف الأعلى للشروط الأميركية في المفاوضات قائلاً: «لا نملك القدرة الديبلوماسية الكافية للقضاء على كافة بقايا برنامج نووي سلمي في إيران، بيد اننا نتسلح بالقدرة للتيقن من عدم بلوغها مرحلة السلاح النووي».
في مؤتمره الصحافي المفتوح بعد التوقيع سُئل الرئيس أوباما عن رؤيته المستقبلية للشرق الاوسط بعد إتمام ولايته الرئاسية، لم تحالفه بلاغته الخطابية هذه المرة واقتصر على «التمني بنجاح الحملة الأميركية ضدّ داعش»، مفضلاً عدم التطرّق او المرور على عناصر سياساته في ولايته الأولى، خاصة في خطابه الشهير في جامعة القاهرة وإطلاقه الوعود الوردية لمستقبل الأجيال الصاعدة، وتأكيده على حلّ الدولتين.
وأوضح في معرض إجابته «أعتقد انّ الهدف الرئيس عندما أسلّم مفاتيح الرئاسة للرئيس المقبل هو اننا ماضون قدماً في جهودنا لالحاق الهزيمة بالدولة الاسلامية، ونجحنا في إطلاق مسار لحلّ الحرب الأهلية في سورية». واضاف انّ المهمة بالغة الصعوبة ولا تستطيع الولايات المتحدة بمفردها إيجاد حل لأزمات المنطقة. «محصلة الأمر انه ليس من مسؤولية رئيس الولايات المتحدة إيجاد حلّ لكافة القضايا في الشرق الاوسط».
وبدا كأنه يوجه كلامه للوبي «الاسرائيلي» بالتأكيد على ان انجازات ولايته التي «تشمل توفير ضمانات أمنية اضافية وسبل تعاون لإسرائيل، والإنجازات التي تحققت مع دول مجلس التعاون الخليجي في قمة كامب ديفيد».