الضيافة العربية للحرب الباردة الروسية ـ الأميركية

فهد المهدي

انتهت الحلقة الأولى من الحرب الباردة بين روسيا وأميركا والتي مرت في مراحل كثيرة بين الصعود والهبوط، مذ اشتعلت في منتصف الأربعينات بعد نهاية الحرب العالمية عام 1945.

يشهد العالم عودة جديدة للحرب الباردة منذ عام 2011 فبعد الموقف الروسي من الحوادث في الشرق الأوسط التي مهدت لإطلاق الحلقة الثانية من الحرب الباردة بين روسيا والولايات المتحدة، وخاصة الأزمة السورية التي لعبت دوراً محورياً في تشكيل طبيعة هذه الحرب، أضحى الصراع الروسي ـ الأميركيّ في جميع الجبهات السياسية الحالية والقادمة شديد الارتباط بالأزمة السورية ، فأميركا وروسيا تضعان كامل قوتهما في هذه المعركة لأهمية سورية الاستراتيجية والجيوسياسية، فالأميركي يعطي أمراً لدول الخليج وتركيا ليسلّحوا المرتزقة ويدرّبوهم ويرسلوهم إلى سورية، والروس يدعمون الحكومة السورية بالتعاون مع دول البريكس وإيران، والدعم الأهم هو في أروقة المجتمع الدولي، فروسيا استخدمت حق النقد الفيتو أكثر من مرة لأجل سورية.

هذه الحرب تظهر التباين العميق بين روسيا وأميركا وحجم الصراع بينهما، ففلسفة السياسة الأميركية المولعة بالقتال تحت غطاء التدخل الإنساني، بعيدة تماماً عن فلسفة السياسة الروسية التي تعتمد استراتيجية جديدة للنهوض تقوم على المبدأ البراغماتي، وهي سياسة التوازن بين الطموحات والإمكانات لإصلاح المجتمع الروسي وتعتمد على الأحلاف الإقليمية والدولية المبنية على مبدأ تبادل المصالح المشتركة، لا التبعية، فروسيا اليوم تختلف عما كانت عليه بالأمس، فاستعراض القوة أضحت من الماضي. التجارب السابقة التي خاضتها إبان حقبة الاتحاد السوفياتي أكسبتها خبرة سياسية متوازنة، على عكس أميركا التي ما زالت تعتبر نفسها الإمبراطورية الأوحد في العالم وأدخلها ذلك في تخبط سياسي عميق. فـ»إختلاق العدو» مرتكز مهمّ في سياساتها العدوانية المبطنة بمصطلحات مغرية تجذب تعاطف المجتمع الدولي.

التطوّر النوعي لهذه الحرب تسارع بعد الحوادث في جزيرة القرم الملحقة بروسيا ، إذ ازدادت حدة التصريحات بين البلدين، ما يدل على أن الصراع بين المحوريين يتعاظم ويكبر، وقد تكون أشد من الحرب الباردة في منتصف القرن الماضي. ومع الدخول غير المباشر للصين الصاعدة إلى مرتبة الدول العظمى بفضل نموّها الاقتصادي وتصاعد قوتها العسكرية في البحر والجو، قد تؤدي المحفزات العالية لحرب باردة إلى انفجار الوضع في العالم.

ترى واشنطن أن الوقت مناسب لتصفية حساباتها مع روسيا وتجريدها من مناطق نفوذها وعناصر قوتها وتفوّقها، فهي متخوّفة من مستقبلها الذي يمر في أصعب مراحله وربما آخرها، ومجيء نظام عالمي متعدّد القطب يلغي دورها وينهي إمبراطوريتها. لكن هذا النظام الجديد في نظرها ما زال ضبابيّاً لم تتضح ملامحه وقواعده، ولم يأخذ شكله النهائي، لذلك تستبق جميع الاحتمالات المستقبلية.

روسيا من ناحيتها ضاقت ذرعاً من التحرش الأميركي الذي بات لا يُطاق، خاصة أنه أصبح داخل «غرف البيت الروسي» بعدما كان في «ساحاته الخلفية»، لذلك تصوغ روسيا سياسات خارجية جديدة لأنّ الظروف الدولية الدقيقة الراهنة تفرض في نظرها منظاراً جديداً في التعامل الدولي .

اختبار قوتها الدولية الحقيقية تجلّى من خلال الأزمة السورية التي دخلت فيها بشدة وتفان، فهي تدرك أن سورية أهم وأخطر من أن تترك لعناصر متطرفة تهيمن عليها وتتحكم في مصيرها، فقضية سورية هي أهم معركة لها في البحر المتوسط، فبخروجها من هذه المياه تكون غادرت الشرق الأوسط كله. هذا الاختبار سمح لها بالانتقال سريعاً من موقع التأثير الضعيف إلى موقع التأثير القوي في ملفات العالم، خاصة ما يحصل اليوم في ملف الساحة الأوكرانية، فهي لن تسمح للغرب والولايات المتحدة الأميركية بمحاصرتها وبسحب أوكرانيا من دائرة نفوذها السياسي وستمنع قيام أي حكومة معادية لها في كييف، ما اعتبره البعض عودة إلى النفوذ الروسي من البوابة الأوكرانية فاتحاً الباب لاستخدام أنواع الأسلحة الإقتصادية والدبلوماسية والأمنية كافة.

وضع الدب الروسي واشنطن في مأزق معقد يهدد هيبتها الدولية وصدقيتها مع حلفائها الدوليين والإقليميين، ما يرتّب عليها بناء أجهزة صنع سياسة خارجية جديدة، إذ ظهرت قوى سياسية أميركية تطالب بصوغ منظار جديد للتعامل الدولي، فـ»الهيمنة الاحتكارية» الأميركية على السياسة الدولية والتدخلات العسكرية في البلدان العربية وغيرها المبرّرة بمزاعم جوفاء زعزعت موقعها السياسي الدولي، وبذلك أضحى مخزونها الاستراتيجي في الساحة الدولية والإقليمية بمثابة سلاح تزجّ به تجاه خصومها من الماضي الذي لا يمكن إعادته .

بناءً على ذلك، من الضروري إدراك تبعات وأثار نشوب حرب كهذه، فعودة أجواء الحرب الباردة بين الروس والأميركيين التي لن تنفرج في المدى القريب ولن تشهد مواجهة مباشرة بينهما على المدى البعيد ، وستبقى ميزة هذه الحرب محصورة ضمن ضوابط المنافسة، والتصادم غير المباشر، والضغط المُتبادل وانعدام الثقة ، وستؤثر سلباً في شعوب الدول العربية، ستتلقى هذه الدول الصراع الفعلي لهذه الحرب على أراضيها، وبدلاً من إيجاد حلول سياسية تخفف من سخونة المنطقة سنجد عكس ذلك في زج أوراق جديدة لمضاعفة هذه السخونة وامتدادها لتحرق بلداناً أخرى بدلا من معالجة المشاكل الظاهرة فيها.

من ناحية أخرى، يراهن الكيان الصهيوني على هذه الحرب، رغم أن صحيفة «جيروزاليم بوست» «الإسرائيلية» أعربت عن مخاوف «إسرائيل» من «أن تجدد الحرب الباردة بين الولايات المتحدة وروسيا، قد يضر بالمصالح الإسرائيلية». لكن الأمر مناقض لما ذكرت هذه الصحيفة، فدخول روسيا وأميركا في الرمال المتحركة يفتح للكيان الصهيوني آفاقاً جديدة للعب مع الروس ومع الأميركيين، ويحاول الإفادة من الجميع لفرض خياراته وإيديولوجيته العنصرية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى