سيادة الرئيس… هل نؤذِّن في مالطا؟
دعاء صالح
كأنّ دعوة الرئيس عبد الفتاح السيسي لتجديد الخطاب الديني كانت كمن يؤذِّن في مالطا، فتعبير الأذان بمالطا درج الشعب المصري على استخدامه لوصف من يقول أو يفعل شيئاً غريباً، لا ينسجم مع من يحيطه أو يفهمه من البشر، ومع ما تحيطه من الظروف.
تماماً كحال المؤذن للصلاة في جزيرة مالطا، فلا يفهمه أو يستجيب له أحد من أهلها حيث لا يفهم لغة المؤذِّن هناك أحد.
وبالمثل صار كلام الموكَّل لهم بتجديد الخطاب الديني، فأصبحوا يستخدمون تعابير وخطابات منافية للهدف المرتجى منها، بل أمعنوا في إخفاء الجانب المتسامي والمتسامح للدين الإسلامي الذي أُرسل به النبي محمد ص ، وصار لكلٍّ جزيرته المنعزلة التي يصرخ فيها على هواه من دون أن يكون لصراخه صدى، ليس لعدم فهم اللغة بقدر عجزه عن تصويب مسار المجتمع في سبيل التفاهم مع الآخر، المختلف مذهبياً وطائفياً، بل ومن حيث نوع الجنس أيضاً.
أصبح الخطاب يزدري الأنثى مقابل الذكر، والمسيحي مقابل المسلم، والسني مقابل الشيعي والزيدي والاثنى عشري والعلوي، والعربي مقابل الكردي … إلخ.
إنّ لكلّ مقامٍ مقالاً، وما تواجهه بلادنا في الوقت الحاضر من تدهور ملحوظ يتطلب جدية وشفافية المواجهة من الجهات المعنية بتثقيف الشعب وشرح صحيح الدين وأسماه له، وقد كان للأزهر كمؤسسة تعليمية دينية في السابق دور مهم في التقريب بين المذاهب الدينية في الماضي القريب. من أجل ذلك، فقد كانت الدعوة التي اكتملت ونضجت بجهود مجموعة من كبار علماء الأزهر وعلى رأسهم الإمام عبد المجيد سليم، والإمام محمود شلتوت، كذلك كلّ من الشيخ محمد المدني، والشيخ محمد أبو زهرة حرصاً على وحدة الأمة الإسلامية، وإيمانًا بدور الأزهر المتوجّب عليه في لمّ شتات المسلمين في كلّ أرجاء الأرض، انطلاقاً من الأمر الإلهي في القرآن الكريم:
إنّما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم تُرحَمون ، فالشرط هنا هو الإيمان بالله عزّ وجلّ وليس شيء آخر تشوبه لعبة السياسة التي شرذمت الأمة الإسلامية واستعداء الإنسانية جمعاء ضدّ جماعة تدعي أنها تسير على نهج وسنة النبي محمد. فما كان دين الله، ولا شريعته تابعين لمذهب أو مقصورين على مذهب، فالكلّ مجتهدون مقبولون عند الله، ولا فرق في ذلك بين العبادات والمعاملات.
وكان أن تأسّست جماعة التقريب بين المذاهب الإسلامية ممثلة للمذاهب الأربعة المعروفة عند أهل السنة المذهب الحنفي، والمالكي، والشافعي، والحنبلي ومذهبي الشيعة الإمامية والزيدية، ولذلك أُسّست دار التقريب بين المذاهب في القاهرة عام 1368 هـ / 1948 م، من قبل عدد من كبار علماء السنة والشيعة، برعاية الأزهر الشريف تحت رئاسة العلامة الشيعي الشيخ محمد تقي القمي، الذي أقام في مصر واشترك مع الشيخ عبد المجيد سليم، والشيخ محمود شلتوت، وغيرهما في إجراء دراسة دقيقة في خصوص التقريب بين المذاهب الإسلامية.
ومن أهم إنجازات جماعة التقريب بين المذاهب إصدار مجلة «رسالة الإسلام» كأول مجلة إسلامية عربية متخصِّصة في مسألة التقريب بين أهل السنّة والشيعة. لكنها واجهت هجمات شديدة من العناصر الرجعية في الأمة الإسلامية، ومع الوقت تبين أنّ هذه الهجمات نفسها دليل على ضرورة فكرة التقريب للمجتمع الإسلامي، كي يتخلص من العناصر البغيضة ذات التفكير التكفيري والوهّابي السقيم.
فأين نحن الآن وأين الأزهر الشريف من حملات التمزيق والتقسيم في بنيان الدول العربية والإسلامية، إما على أساس العرق أو الدين أو المذهب أو الجغرافيا؟ وكيف للأزهر بعد التقدم التكنولوجي وضخامة أعداد المتخرجين منه وتعدّد مشاربهم العلمية والتقنية لا يستطيع صدّ تلك الهجمات المستعرة التي تنطلق تحت مسمى «القاعدة» و«جماعة الإخوان»، و«الدولة الإسلامية في العراق والشام ـ داعش» وبين «نداء الكنانة» تارة أخرى؟ إذا لم يتصدّ لها الأزهر وهو الأليق والأقدر فمن يتصدى لها؟
بل من المستغرب أن نجده يغضّ الطرف أحياناً عن ممارسات هذه المجموعات الضالّة المضلّة إما تحت إغراء الدعم المالي من جهات ودول وممالك معينة تسعى إلى حرف مقاصد الدعوة الإسلامية عن وسطيتها باستعداء شركاء الإنسانية جمعاء في الإيمان بالله عز وجلّ، وإما تحت ضغط سياسي بغيض يستبدل أعداء الأمة الطبيعيين والذين ذكرهم الله في كتابه المحكم بعدو آخر متوهم يشاركنا الديانة الإسلامية نفسها وفي شكل عام يشاركنا الجغرافيا والتاريخ الإنساني المشترك.
غير أنّ جمهورية مصر العربية التي باتت محطّ أنظار أقطار العالم لاستلهام نموذج تحرّر القرار السياسي والديني بعد ثورة 30 حزيران 2013، كان الأحرى بها أن تتقدم الصفوف من خلال مؤسساتها الدينية وعلى رأسها الأزهر الشريف ودار إفتائها لتوحيد الرؤى ورصّ الصفوف والعالم كاد ينجرف إلى توحُّش غير مسبوق في التعامل مع الآخر.
بل رأينا الأزهر يمتنع عن تجريم أفعال القتل وتدمير الأرض التي ترتكبها تلك الجماعات ومشتقاتها، ونراه ينأى بنفسه عن القيام بدوره الطبيعي والمحوري، وانشغل في الدخول في صراعات جانبية حول جنس الملائكة، وملاحقة بعض المفكرين، أو الدخول في نزاعات مذهبية بغيضة في وقت حسّاس.
إنّ مصر والإقليم في أمسّ الحاجة إلى رصّ الصفوف في وجه الإرهاب، وهو المؤسّسة التي انبرت لخلق أجنحة تضمّ تحتها شتات الأمة وتركيز جهودها تزامناً مع تشكُّل الكيان الصهيوني في منطقتنا عام 1948، والذي ماثلت جرائمه وارتكاباته ضدّ العرب والمسلمين ممارسات تلك الجماعات، وكأنّ نبعهما الفكري وتوجههما العقيدي العنصري واحد.
وقد يقول قائل إنّ رأس الدولة لم يعط إشارته في بعض البلدان لمواجهة هذا الفكر المتطرف والتكفير المتعمد، وازدراء الآخر المختلف في بعض المناحي العقيدية، بل انشغل بموضوعات أقلّ ما توصف به هو أنها تافهة ورجعية.
فماذا وسيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي قد نادى علماء الأزهر بخاصة، لتجديد طرق التوجه وأساليب الخطاب الديني، كي يزيل عن قامة مصر ما لحق بها من شطط وهمجية ظهرت جلياً في ذلك المناخ المسموم الذي حاولت جماعة الإخوان، التي صنفها القضاء المصري كجماعة إرهابية، إشاعته في مصر من استهداف منظم للمسيحيين والشيعة، كما حصل لدى إحراق الكنائس، وسحل الشيخ حسن شحاتة، في مشهد غريب عن الطبيعة المصرية المتسامحة التي عاشها المجتمع المصري طويلاً.
حتماً كانت دعوة الرئيس السيسي ترجو موقفاً واضحاً ليس من ذلك التطرّف المشؤوم في مصر وحدها، بل في كلّ بلدان المنطقة والعالم، وأن يرسم الأزهر وعلماؤه طريقاً وهدفاً وموقفاً من ارتكابات تلك الجماعات في أي بلد من بلدان العالم بنظرة وفتوى موحّدة تجرِّم وتتبرأ من كلّ أشكال الكراهية والتكفير والتحريض، حتى لا يتحول المستمع العفوي اليوم، إلى إرهابي يفجِّر نفسه غداً بكمين عسكري أو منشأة مدنية أو مسجد أو كنيسة في مصر أو في أي دولة عربية أو إسلامية أخرى.
الاختلاف في الديانات والمذاهب سُنّة الحياة، وإلا كان الخالق عزّ وجل بقادر على خلق البشر جميعاً على نفس الدين والنهج في التفكير والتعبّد بطريقة ومذهب واحد فقط.
يجب أن يكون سبباً في التعارف والتعايش، والتعاون على المشتركات وهي الأكثر والأهم، على قاعدة وحدة الإيمان بالله عزّ وجل، وعلوّ قيمة الوطن والإنسان، لأنّ العدو المشترك لكافة الديانات هم أولئك المحرضون المتطرفون مرتكبو المجازر ضدّ الإنسانية وقاتلو النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحقّ قصاصاً.
أفلا نأخذ العبرة ممّا جرى في العراق ومن بعدها سورية، منطلقاً ضرورياً لحماية مصر من الفوضى وذات المصير؟
إنّ الأزهر سلاحه الفكر والكلمة، وهو ما يجب أن يستخدمه ضدّ التكفيريين، ونظراً لموقعه ودوره التاريخي الريادي، يجب أن يقود مواقف علماء الأمة من كلّ البلدان والمذاهب في هذه المهمّة العظمى، التي سيسأل الجميع عنها أمام الله تعالى. فالإصلاح الديني ومواجهة التيارات المتطرفة ليسا ترفاً، في وقت تثير فيه تلك التيارات الفوضى وتنتهك الحرمات وتسيل الدماء. فلماذا لا يضمّ الأزهر كلّ الأصوات المؤذِّنة بالتسامح وإحكام العقل لخلق جيل على شاكلة أولئك الذين حفظوا لنا الأمة الإسلامية من التشرذم في وقت كان الأولى بها مواجهة أعدائها والاستعمار الغربي والصهيوني لبعض من أرضها؟
أخشى ما أخشاه أن يصبح لكلّ منا «مالطته» المنعزلة والمتفجرة شططاً، يؤذِّن بها فلا يستجيب له حتى صدى صوته…
مدير أطلس الثقافة المصرية