شريعة الغاب… في بلد الإشعاع والنور
د. سلوى الخليل الأمين
لبنان… الوطن الذي أطلق عليه سابقاً وطن الإشعاع والنور، وسويسرا الشرق، بات اليوم مسرحاً للجريمة الرعناء، التي تذكّرنا بشريعة الغاب حين كان الإنسان يعيش مراحل الحياة الأولى البربرية بما فيها من وحشية وصراع وتصارع على البقاء.
لبنان اليوم في هذا الزمن الرديء، وفي فترة خلوّ سدة الرئاسة من رئيس للجمهورية باستطاعته جمع التناقضات السياسية والوطنية، عبر الإمساك بمفاصل الحياة اليومية للمواطن، بما فيها من رخاء وأمن وأمان، تسرح الجريمة والقتل المتعمّد فيه من حيّ إلى حيّ، ومن شارع إلى شارع، ومن بيت إلى بيت، والمجرم واثق من براءة كفيه، لمجرد أنه مدعوم من بعض رجالات السياسة، الذين يحيطون أنفسهم بالمجرمين الضالين، القادرين على حمايتهم وحماية أهوائهم السلوكية والوطنية، التي أودت بالوطن إلى الحضيض.
أزواج بالجملة قتلوا زوجاتهم بدم بارد، وآخرهم قاتل سارة الأمين القابع في السجن بانتظار الفرج القريب ودفع كفالة لا ترجع سارة إلى أهلها وأولادها الذين تمنّوا لوالدهم حبل المشنقة، وبعدها جريمة شقراء وجبيل وقبر شمون، وبالأمس جريمة أخرى لزوج يطلق النار على زوجته التي في السلك العسكري في منطقة نيو روضة في السبتية، ومن ثم ينتحر بعد أن نجت الزوجة ربما لأنها مدرّبة تدريباً عسكرياً أمكنها من تلافي الرصاصات القاتلة، التي ضمنت حياتها وحياة طفليها من زوج ركب الشرّ عقله ورأسه، بسبب الموضة الشائعة في هذه الأيام، التي هي شريعة الغاب، التي تعني أنّ كلّ إنسان يقتصّ من الآخر بأسلوبه الشيطاني، الذي بدا هو الدرس الأول والأخير في بلد تدبّ فيه الفوضى، ويتناتش مسؤولوه خيرات الوطن، بغضّ النظر عن مصالح الناس الذين يتماهون مع تأثيرات العنف الإجرامي القبيح، بسبب عدم ثقتهم بدولة عادلة وقضاء عادل يستطيعون من خلاله وضع الحدّ لكلّ معتد على حق الآخر، ولكلّ مخالف للقوانين المرعية الإجراء…
أعوان بيت بو سياسة وملاحقهم، هم الأكثر تمادياً في العنف وافتعال المشاكل، لاعتبارهم أنّ القانون إلى جانبهم ما دام اتصال هاتفي من مسؤول يحلّ مشكلة المجرم الذي قتل زوجته أو الذي بسكينه قضى على أب لأربعة أولاد هو جورج الريف في منطقة الصيفي في العاصمة بيروت أمام زوجته التي نالت نصيبها من لكماته الشرسة وهي تحاول الدفاع عن زوجها صارخة: «حرام عليك عنده أربع أولاد».
لم يرفّ قلب المجرم طارق يتيم ذي السوابق الإجرامية المتكرّرة، التي جعلته حراً طليقاً بفضل من يدعمه، إلى استغاثة المرأة الملهوفة لنجدة زوجها، ولم يثنه عقله المسكون بالإجرام عن قتل إنسان بريء لخلاف على المرور، بل أضاف إلى جرائمه الشنيعة جريمة جديدة في وضح النهار، وبكلّ برودة أعصاب، أمام أعين الناس، الذين لم يتحرّكوا لإنقاذ الشهيد جورج الريف من ضربات سكين المجرم القاتل، الواثق حتماً من أنه سيكون طليقاً عما قريب، بفضل الدعم السياسي والمالي الذي يمثله أحد عباقرة المال في لبنان، الذي يتخذ من هكذا مجرم، له سوابق إجرامية، مرافقاً شخصياً له.
هذه الجريمة النكراء التي هزت المجتمع اللبناني من أقصاه إلى أقصاه، والتي زرعت الرعب في قلوب اللبنانيين بمختلف طوائفهم ومناطقهم، باتت اليوم تقضّ مضجع العائلات اللبنانية، بحيث أصبح الخوف على تحركات أولادهم يشكل رعباً حقيقياً لهم، وقلقاً دائماً بات يزعج الشباب والشابات الذين باتوا أكثر اندفاعاً لترك الوطن وهجرته طلباً للأمن والأمان على حياتهم أولاً، وعلى حذف الخوف والرعب من نفوس آبائهم وأمهاتهم ثانياً، بمعنى أوضح، هذه الأفعال الإجرامية التي باتت فعلاً قائماً في المسيرة اليومية للمواطن اللبناني، أسقطت ثقة المواطن بالدولة ورجالاتها الذين برعوا في التمديد والتمدّد، وفي الاستئناس بالفراغ الرئاسي، لغايات أصبحت معلومة المصدر والاتجاهات، حيث الحرية ساقطة، والسيادة مخروقة والديمقراطية منحلة العناصر، والمنادون بها هم القائمون على تخريب الوطن، لعلمهم أن لا حرية لمسؤول مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمحاور الخارجية، ولا سيادة لوطن تتناتشه زمرة من الوصوليين أسقطوا هيبة الدولة بحمايتهم للمجرمين والخارجين على القانون، وجعلوا القضاء لعبة في أيديهم ومستراحاً لهم، عوض أن يكون القضاء اللبناني، الذي كان مفخرة للعدالة ولحرية الضمير، التي تنزه القاضي عن كلّ الوساطات والرعايات، هو الحكم والحكم، المترفّع عن كلّ ما يمسّ قوس العدالة من خلل في التوازن.
المؤسف أنّ البعض عمد إلى الادّعاء أنّ طارق يتيم مسلم، وأنّ المسيحي لو قام بعمله الإجرامي في منطقة مسلمة ماذا كان الفعل وردّ الفعل، وأنّ «الكيل قد طفح»، ليتبيّن في ما بعد أنّ المجرم مسيحي أيضاً ومرافق لشخصية مالية مسيحية لها شأن في لبنان، وأنّ الضرب على الوتر الطائفي عمل موبوء وجبان في ظلّ أموال المسلمين الخليجيين التي تغدق عليهم، والتي جعلت زعاماتهم تعلو إلى مصاف الزعامات الوطنية والحزبية العلمانية التي تحركها مواطنية سليمة لا تمتّ بأيّ صلة إلى العنصرية الطائفية والتمذهب أياً كان نوعه ومساره، والتي لم تقل لهم يوماً: «إنّ الكيل قد طفح» من طلباتهم المتكرّرة التي أوردتها وثائق «ويكيليكس».
في ظلّ هذه الأحداث الإجرامية الفردية الشنيعة لا للدولة أن تحزم أمرها بوضع خلافاتها جانباً، وعقد جلسات مفتوحة يطغى عليها الطابع الأمني من أجل استعادة هيبة الدولة المفقودة، واتخاذ القرار بتعليق المشانق أياً كان المعتدي ولأيّ طائفة أو منطقة انتمى، إضافة إلى اتخاذ القرار الحاسم بتحييد القضاء عن تدخلات رجالات السياسية، لأنّ لدينا قضاة موثوقين وأنقياء، على الدولة أن تمنحهم الصلاحيات الكاملة في تطبيق العدالة، بعد دراسة ملفاتهم من لجان حقوقية متخصّصة وأمنية موثوقة لا تمتّ إلى السياسيين بصلة، للتأكد من عدم انتمائهم السياسي لأيّ جهة على الساحة اللبنانية، حيث لا يمكن لدولة أن تستعيد أنفاسها وهيبتها والجسم القضائي فيها مخروق، ومن يعاقب هم البعيدون عن الانتماءات السياسية، لأنّ لبنان كوطن يجب أن يبقى فوق الجميع، ويجب أن يبقى وطن الإشعاع والنور بمثقفيه وفنانيه وإبداعاتهم، التي ما زالت تطفو على السطح مخترقة كلّ المدارات المؤلمة، وبرجال دولة ينبذون انتماءاتهم السياسية لفلان وعلان، عبر إعلان التزامهم الحقيقي الثابت بالوطن، حتى يستعيد لبنان عافيته بإسقاط صفة شريعة الغاب من كراريسه السوداء، لأنّ الوطن باق، وأما بيت بو سياسة فهم الزائلون، تذكيراً بالقول المأثور: لو دامت لغيرك لما وصلت إليك… ترى هل سنجد من سيسعى لإنقاذ الوطن قبل الانهيار التام؟