تعدّدت المحاور والسياسات والجيوبوليتيك واحد ٦
في هذا العدد يتكلّم الدكتور الجعفري عن المرحلة التي تلت الانفصال عام 1961، والاتجاه الذي رسمته الدولة السورية آنذاك نحو المنظومة الاشتراكية وفي مقدمها الاتحاد السوفياتي وكذلك عن مرحلة الصراع بين الشيوعيين والرئيس عبد الناصر وانحياز الاتحاد السوفياتي إلى الشيوعيين وحاكم العراق آنذاك عبد الكريم قاسم. وكل ذلك في ظلّ المشروع الأميركي المسمى بمبدأ آيزنهاور مقابل تدعيم سورية عسكرياً وسياسياً من قبل السوفيات حتى باتت بنظر الغرب على وشك أن تكون قاعدة شيوعية على شاطئ المتوسط الشرقي.
والذي يظهر كمعطى أساسي من خلال العرض الذي قدمه الجعفري هو دور الجيوبوليتيك في رسم مسارات الدول وخياراتها.
بدأت الأزمة بتاريخ 2 آب 1957 عندما قام وزير الدفاع السوري، خالد العظم، بزيارة موسكو لطلب بعض المساعدات العسكرية والاقتصادية. وأسفرت الزيارة عن توقيع عدة اتفاقات فاقت بكثير «الأمنوايا» التي عبر عنها المسؤولون السوريون، إذ أعرب الكرملين عن استعداده للتعاون مع الحكومة السورية في مضمار الخطوط الحديدية والطرق والري وإنشاء المحطات الكهربائية والمنشآت الصناعية وغيرها.
عندها قامت قائمة الصحافة الغربية التي أخذت تتحدث عن وجود انقلاب شيوعي يهدف لإقامة رأس جسر سوفياتي في الشرق الأوسط. وتابعت العواصم العربية الوضع بجزع بالغ. وتفاقم الوضع إلى درجة الخطورة عندما أعلنت السلطات السورية بتاريخ 12 آب أغسطس 1957 عن اكتشاف مؤامرة أميركية لقلب نظام الحكم في سوريا، الأمر الذي حدا بالأميركيين وحلفائهم إلى الزعم بأن الثورة الشيوعية أضحت قاب قوسين أو أدنى من السيطرة على مقدرات الأمور في دمشق، وبأنه ما لم يتم اتخاذ رد فعل سريع للحيلولة دون حدوث ذلك فإن العالم العربي بمجمله سيسقط في قبضة السوفيات.
أسرع السوفيات بتاريخ 3 أيلول إلى إنذار الغربيين بأن أي تدخل في الأزمة السورية سيؤدي إلى مجابهة حتمية. وجدد وزير الخارجية السوفياتي، أندريه غروميكو، نداءه لإعلان بيان عن عدم اللجوء إلى القوة. ثم وجه رئيس الوزراء السوفياتي، بولغانين، رسالة للرئيس التركي عدنان مندريس ينذره فيها بأنه لن يسمح بأي هجوم ضد سوريا. وتصاعدت الحوادث عندما حشد الاتحاد السوفياتي 25 فرقة عسكرية على الحدود التركية، وأرسل وحدتين عسكريتين بحريتين إلى ميناء اللاذقية، فأضحى القوة الكبرى التي تنهض للدفاع عن العرب ضد الروح التآمرية ونزعة المغامرة السائدة لدى الأميركيين، حينها نوه رئيس مجلس الوزراء السوري، صبري العسلي بأن الاتحاد السوفياتي استحق عرفان السوريين له. كما كتبت إحدى الصحف مقالاً بعنوان «معانقة لغروميكو وصفعة لدالاس».
بيد أن الحماس تحول إلى ما يشبه الغليان عندما قام الاتحاد السوفياتي بإطلاق صاروخ فضائي عابر للقارات سبوتنيك . وكتبت الصحف تقول بأن مثل ذلك الصاروخ سوف يضع حدا للتبجحات الأميركية ويدمر أسطورة القوة العسكرية الأميركية. وسوف يفني خلال بضعة أيام الأسطول السادس الأميركي إذا دعت الحاجة ذلك.
وبينما كان وزير الخارجية السوري يهاجم مبدأ آيزنهاور، مؤكداً أنه يقسم صفوف العرب ويخطف منهم استقلالهم ويسلم قيادهم إلى الصهيونية والإمبريالية، بحجة النضال ضد الشيوعية، كان الرئيس الأميركي يشير إلى أن الاتحاد السوفياتي يسعى للتوطين في سوريا بفضل تيار القوى الوطنية. وتحدثت واشنطن عن شكوكها بأن الشيوعيين يقبضون على زمام الأمور الحكومية في دمشق.
لم تكن الولايات المتحدة بعيدة عن ذلك التصور، إذ كانت تعتبر أن وقوع سوريا في قبضة الشيوعيين سوف يجعل مصير الدول العربية الأخرى مماثلاً بما ينعكس سلباً على الأمم الغربية، وبالتالي سيكون ممكناً انتهاء الأمور بكارثة عالمية.
وبغية درء احتمال نشوب مثل تلك المخاطر، صدرت الأوامر بانتقال أسراب جوية من السلاح الجوي الأميركي المتمركز في أوروبا الغربية إلى قواعد تقع في منطقة أضنة في الأراضي التركية المتاخمة للحدود السورية. كما صدرت أوامر مماثلة لقائد الأسطول السادس الأميركي بالتحرك في اتجاه القسم الشرقي للبحر الأبيض المتوسط. ولم تقف الأمور عند ذلك الحد، إذ تم إعداد مخططات لغزو سوريا عند الحاجة. وأنيطت تلك المهمة بالعراق الذي ستساعده قوات أردنية ولبنانية وتركية مع تعهد أميركي بتقديم السلاح اللازم للغزو وجعل الاتحاد السوفياتي يلزم جانبه، والطلب إلى الإسرائيليين الامتناع عن الاستفادة من الوضع المشوش بغية الاستيلاء على أراضي سورية جديدة.
ما من شك بأن الإدارة الأميركية أوعزت للسفير لوي هندرسون بالذهاب إلى أنقرة والاجتماع هناك بالعاهلين العراقي والأردني، ثم الذهاب إلى بيروت لدراسة الوضع عن كثب. ولدى عودته إلى واشنطن بتاريخ 4 أيلول 1957 أشار هندرسون إلى خطورة الأزمة، ونوه في تقريره بأن لبنان لن يبقى حليفاً للغرب لمدة أكثر من 3 إلى 6 أشهر إذا لم يتم التحرك بشكل عاجل لتخليص الحكومة السورية من عناصرها السوفياتية.
كما أشار في تقريره إلى وجود تنافس مثير للغضب بين العرب، وبشكل خاص، كراهية وبغض عميقين بين العائلتين المالكتين في العراق والأردن، وقال إن العرب غير قادرين على ما يبدو على حماية أنفسهم عسكرياً ضد أي حادث حدودي قد يحصل مع سوريا. ويختم هندرسون تقريره بالقول إن الأتراك لا يزالون يرغبون بإزالة النظام السوري وأنهم جاهزون للتحرك في سبيل تحقيق هدفهم. وبالفعل كثفت تركيا حشودها العسكرية على الحدود مع سوريا وزاد عدد الجنود من 32 ألفاً إلى 50 ألفاً.
ساهم التأهب والتحضيرات العسكرية في تعزيز فرصة الاتحاد السوفياتي بالتدخل بشكل قوي في شؤون الأزمة الناشبة وتقديم نفسه كحامٍٍ للقومية العربية الرافضة للهيمنة الغربية التي تهددها بالعدوان. ذلك ما حصل بالفعل إذ أنذرت موسكو بتاريخ 3 أيلول 1957 الدول الغربية الثلاث الكبرى بعدم التدخل في شؤون الشرق الأوسط، وبشكل خاص في الشؤون السورية. وهكذا لم تعد أزمة سورية أميركية فحسب، بل تبطنت بأزمة سورية غربية انفجرت على منابر الأمم المتحدة اعتباراً من تاريخ 19 أيلول 1957 وأخذت طابعاً دولياً منذ تلك اللحظة بعد طلب السلطات السورية من الجمعية العامة معالجة الموضوع. وبدأت الأمم المتحدة مناقشة القضية بتاريخ 18 تشرين الأول 1957، فأيد وزير الخارجية السوفياتي، غروميكو، الموقف السوري، قائلاً إن دولة تدافع عن استقلالها، تواجه في النزاع القائم مشروعاً أميركياً – تركياً للهيمنة عليها تحت غطاء مبدأ أيزنهاور.
أما المندوب التركي فقد اتهم الاتحاد السوفياتي بتحويل سوريا إلى قاعدة عسكرية، ما دفع غروميكو إلى الطلب من الأمم تشكيل لجنة تحقيق لدراسة الوضع على الأرض وتسوية النزاع. ومع أن الفترة التي تلت النقاش في الأمم المتحدة كانت حافلة بالتوتر حيث ألمح السوفيات والأميركيون إلى إمكانية توسع الصراع المحلي إلى صراع عام، فإن الأزمة كانت آخذة بالتراجع، لكنها أسفرت عن علاقة تحالف سورية مصرية لم تنته سوى العام 1977. فقد تقاربت دمشق والقاهرة من بعضهما البعض إلى الحد الذي حدا بمصر لإرسال فرق عسكرية إلى ميناء اللاذقية بتاريخ 15 تشرين الأول لمساعدة القوات السورية في تصديها لأي عدوان تركي أو هاشمي أو إسرائيلي. وهكذا بدأت مسيرة الوحدة السورية المصرية تشق طريقها بسهولة وسرعة مدهشتين. في هذا الوقت، أدركت واشنطن وموسكو عقم الأزمة وبدأتا إعادة النظر في حساباتهما. وجاءت حصيلة الأزمة إيجابية لصالح القومية العربية التي انتصرت على مبدأ أيزنهاور، علماً أن الراديكالية السورية اليسارية والبورجوازية طرحت تحالفاً شدّ السوفيات وأعاقهم عن تحقيق كل مآلهم في سوريا، وكاد أن يؤدي إلى تدخل عسكري غربي في منطقة الشرق الأوسط من شأنه إشعال نيران حرب عالمية ثالثة. ومن إيجابيات الأزمة السورية العام 1957 إظهارها للعالم كله أن ذلك الاحتمال وارد. أما على الصعيد العربي فقد ثبت للجميع أن الجبهة السياسية السورية تتحكم بمستقبل الأنظمة العربية الممالئة للغرب. وقد تأملت العواصم العربية المعنية بعمق في مدى النفوذ السوري ضمن الأوساط اليسارية والقومية العربية الموجودة في تلك العواصم، وبشكل خاص ضمن صفوف الجيوش العربية والأنتلجنسيا العربية.
النقطة السلبية الوحيدة في جردة الحسابات السوفياتية هي أن الدفاع عن سوريا دفعها في اتجاه عبدالناصر الذي أضعف قواعد الشيوعيين العرب في سوريا ومصر ولبنان. وفي خطابه الذي ألقاه في مدينة بور سعيد بتاريخ 23 أيلول 1957 أكد الرئيس ناصر أنه لا يجب على الدول العربية الوقوف إلى جانب هذه الجهة أو تلك، وأن استقلال العرب يمر عبر حيادهم إزاء أي نفوذ للقوى الأجنبية في المنطقة، وفي ذلك إشارة إلى نفوذ الاتحاد السوفياتي المتنامي. غير أن حسرة السوفيات الرئيسية جاءت إزاء محاولة عبدالناصر رفع جدار محكم في وجه الشيوعيين السوريين وسعيه المستمر لتحجيم الهيبة الإيديولوجية للشيوعية في المنطقة. وقد وجد الرئيس المصري لنفسه عوناً سورياً تمثل بحزبي البعث والوطني اللذين كانا يبحثان عن تحالف قومي خارجي لاحتواء المد الشيوعي واليساري الراديكالي. شعر الاتحاد السوفياتي مسبقاً أن توجه سوريا المحابي له من شأنه إخافة القوى الوطنية العربية الأخرى سواء في سوريا أو خارجها… ولكن ما العمل؟
لم يكن بالإمكان عمل شيء آخر، وبالتالي أوصلت حيرة السوفيات سوريا إلى الوحدة السورية المصرية ولو جزئياً على الأقل. وتم إعلان دولة الوحدة في الأول من شباط 1958 باسم الجمهورية العربية المتحدة، وانتخب جمال عبدالناصر رئيساً لها بتاريخ 21 شباط 1958. وقد أدى هذا التطور إلى حسم الأمور في سوريا لصالح القومية العربية والحياد العربي إزاء القوى الكبرى. ولم يكن الأمر سهلاً بالنسبة لموسكو لا سيما أن المشكلات ستبدأ بالظهور بعد قليل في أكثر من عاصمة عربية بسبب إقامة الدولة الوحدوية التي أخافت الجميع. وأولى المشكلات انفجرت في لبنان.
كان لبنان يسعى بشكل تقليدي إلى تبني مواقف حيادية، غير أنه تورط في لعبة الاستقطابات السياسية العربية والدولية اعتباراً من العام 1955. وفي العامين 1955 و1956 انخر في التقارب من موسكو على غرار الخطوات السورية، ووقف اللبنانيون موقفاً قومياً عربياً خلال العدوان الثلاثي على مصر. بيد أن القيادة السياسية اللبنانية سرعان ما مالت في اتجاه الغرب بسبب خوفها من الابتلاع القومي العربي لخصوصيات لبنان الطائفية. وقد انعكس التردد اللبناني بشأن اختيار لبنان معسكره خلال العام 1958 في نشوب حرب أهلية تمحورت حول قضية تجديد ولاية الرئيس اللبناني كميل شمعون خلافاً للدستور اللبناني. إذ نشب صراع مسلح بين أنصار شمعون من جهة، وخصومه من جهة ثانية. فالخصوم يريدون حفاظ لبنان على مواقفه الحيادية، أما الأنصار فيريدون من الرئيس الانخراط إلى جانب الغرب بشكل حاسم ونهائي. وما جعل الأمور تزداد غموضاً وبلبلة هو وجود العديد من اللاجئين السوريين والمصريين في بيروت، حيث أبدت القاهرة امتعاضها الشديد من النفوذ الذي يمارسه هؤلاء السياسيون في لبنان. بينما اعتبر الرئيس شمعون وحاشيته المحيطة به أنهم ضحايا مؤامرة تحبكها مصر وسوريا بغية استجرار لبنان إلى طرفهما. وأدت الاضطرابات التي حدثت في أيار 1958 في لبنان إلى نشوب حركة تمرد وعصيان مدني أخذت شكل حرب شوارع شملت كلاً من بيروت وطرابلس والشوف. وعندها قدم لبنان شكوى أمام مجلس الأمن ضد الجمهورية العربية المتحدة متهما إياها بحبك المؤامرات ضده وإثارة القلاقل والاضطرابات فيه. ودعا الولايات المتحدة إلى حماية استقلاله والدفاع عنه. ولم يكن مبدأ أيزنهاور قد أثار حينها سوى انتفاضات معادية له في العواصم العربية. وخشيت الحكومة الأميركية من تشكل حلف معادٍ لها في المنطقة إذا وضعت مبدأ آيزنهاور في لبنان قيد التنفيذ، كما خشيت من إعطاء الاتحاد السوفياتي ذريعة للتدخل مجدداً في شؤون المنطقة عبر التنديد بالتدخل الأميركي المباشر فيها.
بيد أن تسارع الأمور وانتصار ثورة 14 تموز 1958 في العراق التي قضت على النظام الملكي فيه جعلت الإدارة الأميركية تقرر التدخل العسكري في لبنان، مخافة انتقال عدوى الثورة القومية إلى لبنان والأردن. وقد نشأ التشاؤم الأميركي من الترحيب الشعبي والحكومي الواسع في الجمهورية العربية المتحدة بانتصار الثورة في العراق، وتوجيه التحية لاتساع الحركة التقدمية والحيادية العربية. وازداد التشاؤم عندما انتقلت العدوى إلى عمان حيث أضحى العرش الهاشمي الثاني مهدداً بالسقوط. عند ذلك الحد طلب كل من الرئيس شمعون والملك حسين مساعدة الغرب لإنقاذ نظامي حكمهما. ولم تتردد واشنطن هذه المرة، فأرسلت قوات عسكرية أميركية إلى بيروت بتاريخ 15 تموز1958، في حين أرسلت لندن بعد يومين، أي بتاريخ 17 تموز قوات مظلية بريطانية إلى عمان.
أثار هذا التحرك مجدداً ردود فعل عنيفة لكن متفاوتة في دمشق والقاهرة وبغداد والرياض. كما أعاد تسليط الأضواء على دور الاتحاد السوفياتي كمدافع عن مصالح العرب. وبعد يوم واحد على نزول القوات الأميركية في بيروت قام الرئيس ناصر بزيارة موسكو بشكل عاجل 16 تموز. ولم يطل انتظار رد الفعل السوفياتي إذ حشدوا قواتهم على الحدود التركية، واقترحوا على مجلس الأمن قراراً يدعو إلى سحب القوات الأميركية فورً من لبنان 15 تموز. وبتاريخ 19 تموز اقترح خروتشوف نقل النقاش من مجلس الأمن المشلول الحركة إلى مؤتمر القوى الكبرى: الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والهند. غير أن الدول الغربية رفضت الاقتراح باستثناء الجنرال ديغول. وبدا أن محنة السوفيات تكررت مجدداً فهم يسعون إلى الدفاع عن القضية العربية لكي تزداد أسهمهم في المنطقة من جهة، ويعانون من ضعف قدرتهم على المناورة والتحرك بسبب رفض الغرب للمساومة معهم حول مصالحهم في المنطقة من جهة ثانية. وقد أدركت الولايات المتحدة التطور الذي حدث في العالم العربي منذ تجربة السويس، والرافض لأي هيمنة مهما كانت، فأعلن الرئيس أيزنهاور بتاريخ 18 آب 1958 أنه يعود إلى دول المنطقة أمر حل مشكلاتها، وهو موقف يعني تراجعاً عن تطبيق مبدئه التدخلي كما حصل في لبنان والأردن. ورد العرب على ذلك الموقف باعتدال فلم يطلبوا إدانة التدخل بشكل واضح ولم يحددوا جدولاً زمنياً لانسحاب القوات الأميركية والبريطانية من المنطقة. ويمكن تفسير الاعتدال بالتطور السريع للأحداث في تلك الآونة، إذ خلف الجنرال شهاب الرئيس شمعون على سدة الحكم في لبنان، وانسحبت القوات الأميركية منه في الخريف، ثم أكد لبنان ميوله الحيادية من دون أن يغير من علاقته الجيدة مع الغرب.
إن مشهد العام 1958 لا يكتمل إلّا بالحديث عن العلاقات المتدهورة بين الاتحاد السوفياتي والجمهورية العربية المتحدة بسبب موقف ناصر من الحزب الشيوعي السوري وموقف الكرملين من القومية الثورية العربية. وقبل قيام الوحدة، عقد الحزبان الشيوعيان السوري واللبناني اجتماعاً لتدارس انعكاسات قيامها، وقررا رفض حل الأحزاب السياسية في سوريا بموجب الشروط التي فرضها ناصر على القيادات السورية السياسية. وهكذا انقطع الحوار بين الشيوعيين العرب وقيادة الجمهورية العربية المتحدة. وغادر خالد بكداش دمشق هارباً إلى صوفياً حيث حضر أعمال المؤتمر الحادي والعشرين للحزب الشيوعي البلغاري وألقى خطابا هاجم فيه الدولة الوحدوية الجديدة معتبراً أن الوسيلة الوحيدة الكفيلة بتقوية الدولة الجديدة، لكي تكون القلعة القادرة على التصدي لقوى الإمبريالية وقاعدة الوحدة العربية، هي ممارسة سياسة خارجية استقلالية وسياسة داخلية ديمقراطية. ولذلك فالمطلوب هو السهر على مراقبة رؤوس الأموال الإمبريالية التي تتوغل في سوريا ومصر، ومواصلة النضال إلى جانب الكتلة الاشتراكية ضد محاولات الإمبرياليين الأميركيين الراغبين بإرغام الجمهورية العربية المتحدة على تعديل سياستها الخارجية بذريعة أن الولايات المتحدة غيرت موقفها وأضحت مستعدة لتبني خط جديد تجاه الشرق العربي.
أما الاتحاد السوفياتي فقد اكتفى بالإصرار على المظهر التهديدي الدائم للإمبريالية وعلى واقع كون الحياد يعني معاداة الولايات المتحدة وحدها دون غيرها. وتركت القيادة السوفياتية للشيوعيين السوريين حرية الحركة للتأكيد على المظهر الرجعي للنظام الجديد الذي نشأ في الجمهورية العربية المتحدة. وقد شكل هذا التنسيق محطة نوعية فريدة في طبيعة العلاقات القائمة بين دولة عربية والاتحاد السوفياتي. إذ للمرة الأولى نجد أن تحرك حزب شيوعي عربي يكمل التحرك السوفياتي رسمياً. والأمر الذي شجع السوفيات على الإقدام على تلك الخطوة هو ارتفاع أسهم الشيوعيين العرب في العراق بعد الثورة التي أطاحت بالنظام الملكي، إذ شارك الشيوعيون العراقيون في الثورة مشاركة واسعة. ومع أن السلطة السياسية العراقية الجديدة لم تتضمن أي شيوعي، فإنها لم تعاد الحزب الشيوعي بل تحالفت معه تحالفاً موضوعياً وسعت إلى التقارب مع موسكو. وقد فوجئ عبدالناصر بهذا التحرك، وهو يعمل على ضم العراق إلى الجمهورية العربية المتحدة بغية تشكيل جبهة قومية عربية بزعامته ووقف المدّ الشيوعي في الأقطار العربية. أما في العراق فكان الاتحاد مع الجمهورية العربية المتحدة يعني أن استقلال الأحزاب السياسية سوف يتآكل.
من جهته أظهر الاتحاد السوفياتي عداءً واضحاً لمشروع الاتحاد العربي بالرغم من تأكيده المستمر على عدم التدخل في الشؤون الداخلية العربية. وأظهرت الصحافة السوفياتية التي صمتت نسبيًا إزاء الوحدة السورية المصرية اهتماماً متعاظماً بسلطة «قاسم» في بغداد الذي أضحى، يمثل برأيها رمز التقدم السياسي في الشرق الأوسط. عندها أخذت القاهرة تصب جام غضبها على المشير قاسم، وربما كان بمقدور الرئيس عبدالناصر الانتصار عليه لولا التدخل السوفياتي المفاجئ إلى جانب الأخير بشكل عرّض العلاقات العربية – السوفياتية للخطر، وأظهر الأرضية الهشة التي أقيمت عليها منذ قمة «باندونغ».
إن وقوف موسكو إلى جانب بغداد الرافضة للانضمام إلى الوحدة السورية المصرية عكس بوضوح هشاشة سياسة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز التي تشكل العمود الفقري لسياسة الرئيس جمال عبدالناصر. إذ أدت إرادة الكرملين بإبعاد العراق عن مصر إلى قيام السوفيات بتعديل تحليلهم للأوضاع العربية الذي لم يطرأ عليه أي تغيير منذ العام 1956. ومع أن تطور الموقف السوفياتي لم ينضج كلياً إلّا بعد المؤتمر الحادي والعشرين للحزب الشيوعي الذي انعقد في بداية العام 1959، فقد وقع حدثان في الفترة الفاصلة بين الثورة العراقية وانعقاد المؤتمر، وبشرا بحدوث تبدل في السياسة الخارجية السوفياتية إزاء الشرق الأوسط، وهما: رفض السوفيات اتحاد العراق مع الجمهورية العربية المتحدة، ومحاولتهم خلق ند لناصر في شخص عبدالكريم قاسم كي يحافظوا على مواقعهم من دون الوقوع تحت رحمة التحالف مع مصر فقط. وقد التقت السياسة السوفياتية في تصديها لمقولة الوحدة العربية مع منطلقات السياسة الغربية تجاه العرب، ووقفت موسكو وواشنطن موقف المعارض لتوسيع الجبهة القومية الوحدوية العربية. الأولى للأسباب التي سبق ذكرها. والثانية بسبب خوفها من تعزيز سيطرة العرب اليساريين على الدول العربية. وكان ناصر يرى أن غرض السوفيات من معارضة خططه هو دعمهم لحاكم العراق ضده، وتلاقي مصالحهم مع مصالح الولايات المتحدة للحيلولة دون كسر ميزان القوى في المنطقة لصالح العرب. وقد عزز قناعته تلك بإرادة قوية لشطب الشيوعية من الخارطة السياسية العربية. وانتقل في عدائه للشيوعية إلى الهجوم العلني عليها، فشن العام 1958 حملة قوية على الشيوعيين في الإقليم الشمالي تحالف فيها المدّان الإسلامي والعروبي ضد المد الشيوعي. وترافق ذلك مع موجة اعتقالات واسعة شملت القيادات الشيوعية. وما زاد في حدة الحملة المقاومة الشرسة التي أبداها الشيوعيون السوريون. ووصلت الحملة إلى ذروتها عندما قرن القادة المصريون والسوريون الشيوعية بالصهيونية معتبرين إياها سلاحاً تدميريا ًبيد الصهيونية. وعلاوة على اضطهاد ناصر للشيوعيين السوريين، سعى إلى تعديل الوضع في العراق، نظراً لأن رفضه الانضمام إلى الدولة الوحدوية العربية يمثل، برأيه نتيجة مباشرة للضغط الشيوعي على قاسم، وبالتالي فإن الاستراتيجية المصرية أخذت في الاعتبار أمرين اثنين مرتبطين ببعضهما البعض: محاربة قاسم في بغداد والقضاء على الشيوعية العربية.
إزاء تصاعد الحملة الناصرية ضد العراق اعتباراً من نهاية كانون الأول 1958، انبرت الصحافة السوفياتية والإذاعة والتلفزيون السوفياتين إلى الإعراب عن أسفها للحملة التي تشنها وسائل الإعلام في كل من القاهرة ودمشق ضد الشيوعية وشيوعيي العراق وسوريا تحديداً.
غير أن الموقف السوفياتي بقي حذراً ويتعامل مع الرئيس ناصر على أساس جعله يعدل عن مواقفه ويعود إلى جادة الحوار بدلاً من القطيعة الشاملة معه. وطالبت موسكو بتقديم القرائن على الاتهامات الموجهة للشيوعيين العرب. ثم حاولت إفهام الرئيس ناصر بأن نضاله ضد الإمبريالية لم ينته بعد، وبأن رغبته في وضع سياسة توازن في علاقاته بين الدولتين العظميين، إنما تجعله يخلط بين أعدائه وأصدقائه ويضعهم في سلة واحدة، وتدفع به إلى إحياء النفوذ الغربي في المنطقة من دون أن يدري، وبالتالي تجعله صديقاً للرجعية العربية وعدوا لكل المكتسبات التي تم إحرازها بفضل النضال ضد الإمبريالية، أي صديقاً للصهيونية… ذلك باختصار ما تضمنته كلمة رئيس مجلس رئاسة هيئة السوفيات الأعلى أمام المؤتمر الواحد والعشرين للحزب الشيوعي السوفياتي الذي عُقد في موسكو بين كانون الثاني و5 شباط 1959. وفي تلك الكلمة لم يعد الرئيس ناصر القائد العربي البارز الوحيد لنضال الشعوب العربية، بل صار إلى جانبه قائد عربي آخر هو عبدالكريم قاسم الذي يعود إليه فضل قلب النظام الرجعي، الخادم لمصالح الإمبرياليين في بغداد وإعلان جمهورية مستقلة. وأما الاتهامات التي يوجهها رئيس الجمهورية العربية المتحدة بحق الشيوعيين فقد اعتبرها رئيس مجلس رئاسة هيئة السوفيات الأعلى غير عادلة. كما وجد من السذاجة بمكان وضع الشيوعية والصهيونية على المستوى نفسه.
ويمكن القول إن السياسة السوفياتية كانت ثلاثية الأبعاد في تلك الآونة:
أعمال وتحركات صديقة تهدف إلى تحسين العلاقات المصرية ـ السوفياتية.
أعمال وتحركات ذرائعية غرضها إعاقة استقطاب الجمهورية العربية المتحدة للقوى العربية التقدمية.
محاولات لفهم تطور العالم العربي وتحديد التحرك الواجب القيام به على ضوء ذلك التطور.
لذلك فإن موسكو تستمر في تنفيذ تعهداتها الاقتصادية تجاه الإقليمين المصري والسوري. وحتى في ذروة الأزمة، وقّع الجانبان السوفياتي والعربي على اتفاق لإنشاء سد أسوان بتاريخ 27 كانون الأول 1958، ولم يفكر السوفيات في أي لحظة، ولغاية انفصال سوريا عن الجمهورية العربية المتحدة في أيلول 1961 بوقف مساعداتهم الاقتصادية والتقنية العسكرية المقدمة لمصر وسوريا، متجنبين بذلك الوقوع في الخطيئة نفسها التي ارتكبتها الولايات المتحدة العام 1956 عندما أوقفت عروضها لإنشاء السد العالي بعد رفض ناصر الشروط السياسية المفروضة عليه. وهكذا تم الاحتفال بتاريخ 9 كانون الثاني 1960 بتدشين أول شريحة من أعمال إنشاء السد العالي على نهر النيل بحضور الوزير السوفياتي «نوفيكوف». وبعد ذلك بأيام عدة تم التوقيع على اتفاق آخر بين الاتحاد السوفياتي والجمهورية العربية المتحدة لإقامة العديد من المشاريع الاقتصادية المشتركة. وفي أيلول 1958 قدم الاتحاد السوفياتي مساعدة تقنية لسوريا، بقيمة 275 مليون روبل لإنشاء خط حديدي بين اللاذقية وحلب والقامشلي، وإقامة مصنعين للسماد الآزوتي والزيوت المعدنية. وخلال زيارة المشير «عامر» إلى موسكو بعد ذلك بشهرين، تم الاتفاق مع السوفيات على مشاركة المهندسين في تنفيذ مشروع التصنيع الثاني في الجمهورية العربية المتحدة. ثم ازداد معدل قدوم الوفود التجارية والثقافية والفنية السوفياتية والاشتراكية إلى إقليمي الجمهورية العربية المتحدة. وكان الجهد السوفياتي يرمي للبرهنة لكل الدول التقدمية في أفريقيا وآسيا على أن الدعم السوفياتي لها غير مقرون باعتناقها الشيوعية. وسارت تهدئة الأمور شوطاً نحو الأمام عندما التقى الرئيسان ناصر وخروتشوف في الجمعية العامة للأمم المتحدة في تشرين الأول 1960، وقررا معاً العودة إلى روح التفاهم المتبادل. وما من شك في أن المصالحة لم تكن سهلة، إذ إن الخصام ترك بصماته العميقة في ذاكرة البلدين.