من احتلال الإسلام العربي إلى احتلال العروبة ٦
يتكلم الدكتور سماره في هذا الفصل «من احتلال الإسلام العربي إلى احتلال العروبة» عن حالة التراجع والتهاوي التي عاشتها الأمة بعيد هزيمة 1967، وكيف أن ثقافة التدجين قد طاولت الأنظمة والأحزاب والنخب، ما أدّى إلى تراجع الأنظمة والقوى السياسية ذات البعد القومي والعلماني لمصلحة الإسلام السياسي، ما أتاح للمال النفطي بقيادة المملكة السعودية أن يحتل مساحات واسعة من الفكر والقرارات السياسية على مدى العالم العربي. كما أشار الكاتب إلى دور عزمي بشارة في هذا الاتجاه.
منذ هزيمة المشروع القومي العربي في مواجهة الثورة المضادة 1967 وتورط بقاياه في مساومة تلك الثورة، لم تتوقف الثورة المضادة في توسيع مساحاتها.
إثر الهزيمة ومع التضامن العربي توقفت القوى التقدمية عن نقد القوى والأنظمة الرجعية وكشف عيوبها وخياناتها مما غيَّب الشارع العربي عن رؤية عيوب هؤلاء وخطرهم والتعبئة ضدهم. ومما أطلق لهم حرية ضخ إيدولوجيا الدين السياسي سواء بالدعوة او المنشورات أو الكاسيتات ولاحقاً الفضائيات… الخ. فتكوَّن دين سياسي باسم الإسلام يقوم على ركيزتين:
التبعية للمركز الرأسمالي الغربي وضمنها عدم المساس بالصهيونية.
قراءة الدين بما هو نقيض العروبة.
وفي الوقت نفسه قامت أنظمة الخليج الرجعية بدفع بعض المساعدات للأنظمة العربية ذات العجز الاقتصادي «معادلة دول الفائض ودول العجز» وهي مساعدات استهلاكية خدماتية لا تطويرية. وخطورة هذه المساعدات أنها وسعت سوق استهلاك المنتجات الغربية من جهة، والجهة الأهم أنها عرضت الأنظمة الرجعية وكأنها ذات بعد عروبي عبر تقديم مساعدات بدل كشف حقيقة أن هذه الأنظمة تحتل النفط العربي وتحصل منه على حصة الحارس على شكل «اقتصاد التساقط/الفتات Trickle-down economy، وهو ما يتضح من قول الغربيين: «كيف حصل أن وُجد نفطنا في أرضهم»؟ وقول عبد العزيز آل سعود حينما طُلب منه استخدام النفط في الحرب عام 1948 حيث قال: «النفط هم اكتشفوه وأخرجوه وشكراً لهم أنهم يعطوننا بعضا منه». طبعاً كل هذا هروب من الحقيقة الأساسية بأن النفط لكل العرب.
واكب ذلك أو تبعه بدء خروج انظمة عربية ورثت الأنظمة القومية حالة مصر إثر رحيل ناصر ومجيء السادات بخروجها من معسكر مواجهة الصهيونية إلى التصالح العلني معها. وهو التصالح الذي لم تقم به أنظمة الدين السياسي في الخليج من حيث العلانية بينما مارسته سرا، وتبع ذلك خروج منظمة التحرير الفلسطينية من الصراع، وهو ما نقل النظام الأردني من العلاقة السرية الحميمة مع الكيان إلى علاقة علنية وحميمية بالطبع.
ترافق أو تبع خروج معظم الأنظمة العربية من الصراع، خروج الكثير من الأحزاب السياسية من النضال الاجتماعي الداخلي الطبقي فأصبحت أحزاباً مدجنة داخلياً وبالطبع تجاه الصراع العربي الصهيوني. ولمهادنة الكيان كان هناك تأسيس من قبل أحزاب شيوعية اعترفت بالكيان الصهيوني.
وبهذا أصبح الوطن العربي في وضعية تطبيعية بامتياز:
أنظمة تطبع مع العدو وفي أحسن الأحوال لا تخاصمه.
وقوى سياسية تابعة لنفس الأنظمة لا تناضل ضدها اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً وقومياً ولا تناضل ضد الاستعمار والصهيونية.
كان من توليدات هذا السقوط تدهور أنظمة قومية الاتجاه وقريبة من العلمانية، تورطها باتجاه الدين السياسي ما وضع المشايخ على الشاشات وليس في المساجد فقط. هذا رغم أن المؤسسة الإكليركية لا تقدم للدين شيئاً طالما هو علاقة بين الفرد والله ناهيك عن أن أسهل فهم هو فهم الدين فلسنا بحاجة ليفرض هذا أو ذاك تفسيره الخاص بالدين والذي انتهى إلى تبرير الذبح الجماعي والجماع الجماعي!
زاد الثورة المضادة قوة تفكك المعسكر الاشتراكي والذي إحدى تجلياته مفارقة هائلة في الوطن العربي وهي:
تغول الإمبريالية والصهيونية ضد الوطن والشعب العربي
وفي الوقت نفسه توفير مناخ هائل لأنظمة وقوى الدين السياسي التي هي حليفة للصهيونية وأدوات للإمبريالية!
في تلك الفترة هرب البعث العراقي إلى الدين وهرب البعث السوري إلى السياسات النيولبرالية. وتدفق حكام الخليج النفطي والعثمانيي إلى سوريا على شكل صداقة مسمومة اتضح أنها كانت لقراءة البيت السوري من داخله وتفجيره.
وهذا يشير إلى أكثر من خلل قاتل في الأنظمة قومية الاتجاه:
فهي من جهة لم تتحد مما يؤكد أنها كانت في مأزق أو برزخ بين القومية والقطرية.
وكانت في برزخ بين العلمانية وعدم العلمانية.
وكانت في برزخ بين مشروعها في التنمية وبين غياب الديمقراطية كضرورة في التنمية.
وكانت في برزخ مقاومة الاستعمار والصهيونية دون أن تبين للشعب أنها حاربت المركز الرأسمالي الغربي وليس الكيان وحده.
هذا الحال أبقى الشعب في حالة هشة مما سمح لقوى الدين السياسي أن تلوث عقله الجمعي وتأخذه باتجاه الدين السياسي. والذي تجلى في ظاهرة الاستشراق الإرهابي.
احتلال القومية العربية
رغم تسخير كافة إمكاناتها ضد الأمة العربية والقومية العربية، فإن أنظمة الدين السياسي بل وكافة الطبقات الرجعية الحاكمة والشريكة معها في الحكم لم تعلن قط أنها ضد العروبة.
أما قوى الدين السياسي فهي مبدئياً وعلانية ضد القومية العربية، وهذا بالطبع مثبت في شعاراتها ومنشوراتها حتى خلال فترة المد العروبي.
هذا التركيب الجديد، تركيب الفكرة القومية بدأ عملياً عبر الاعتراف بالكيان الصهيوني أي عبر المصالح المادية للكمبرادور العربي الذي نضجت بنيته للانخراط في تبعية مفتوحة بالنظام الرأسمالي العالمي بقيادة مصر السادات. وهذا الانخراط مختلف عن العلاقات التحتية السرية التي اتصفت بها أنظمة الرجعية والدين السياسي التي لم تكن قد نضجت فيها طبقات برجوازية لا إنتاجية ولا كمبرادورية بقدر ما أن علاقتها بالكيان وتبعيتها للمركز الرأسمالي كانت ولا زال على أرضية سايكس-بيكو أي خلق وتعيين الحكام هناك. بل إن القطاع الخاص في كيانات النفط لم يتكون بعد بشكل مناسب أو طبيعي.
يمكننا القول بأن جميع الأنظمة العربية تطرح نفسها كمؤمنة بالقومية العربية، ولكن من ناحية عملية هناك مفهومين وبرنامجين عربيين للمسألة القومية العربية:
القومية الحاكمة وهي فئتان:
فئة الأنظمة المعادية والخائنة للأمة العربية وهي انظمة الخليج والممالك.
وفئة الجمهوريات التي هي عروبية ولكنها لم تنجح في حمل المشروع القومي الوحدوي.
والقومية الكامنة وهي قومية الطبقات الشعبية التي هي وحدوية واشتراكية.
والطريف أن كثيرين كانوا ولا يزالون يعتبرون عضوية الكنيست إنجازاً نضالياً وهذا أفظع استدخال للهزيمة. أي باسم العروبة يقسم عربي يمين الولاء للدولة اليهودية. وفي هذا يحقق للصهيونية أمران:
الأول: تطويع القومية العربية إلى قابلة ومعترفة بالكيان الصهيوني على أرض عربية وهو موقف يقع حتى على يمين أنظمة القومية الرجعية الحاكمة.
والثاني: التأسيس الفكري والنظري لتقسيم الوطن العربي لدويلات على أسس طائفية ومذهبية بما هو اعتراف بيهودية الكيان وهو ما نرى محاولات تجسيده اليوم في الوطن العربي.
من هنا كان خروج بشارة من تل أبيب إلى الدوحة بعد أن جسد في المحتل 1948 تياراً تعاقدياً ثالثاً. أما الموقع الجديد فوفر له استئناف مشروعه التطبيعي باسم العروبة.
أما التيارات المتعاقدة الثلاثة فهي:
الحزب الشيوعي الإسرائيلي
والحركة الإسلامية
وحزب بشارة التجمع الوطني الديمقراطي
لقد تابعت، بالنقد المكتوب، بشارة وحزبه منذ عام 1994، ولكن الغريب أن أحداً من المثقفين العروبيين لم يتنبه لذلك، بل طالما هوجمت من بعضهم/ن. وكأن الموقف كقول الشاعر:
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى… فلم يستبينوا الرشد إلا في ضحى الغدِ.
لم يتورط بشارة في كشف نفسه بناء على خطأ. وإنما كان لا بد لبشارة أن يكشف نفسه طبقاً للمخطط المعادي ونضوج مرحلة دور جديد علني.
جاءت تطورات حرب الربيع العربي لتفرز حالة جديدة من اصطفاف القوى يمكننا تسميتها احتلال القومية العربية من قبل أنظمة القومية الحاكمة، وخاصة إثر الحرب على اليمن.
حرب يتجسد فيها الدور الإمبريالي وبخاصة الأميركي في تشغيل مصانعها للسلاح، واللوجستيات، وتمويل الخليج لمنظمات الإرهاب في مجمل الوطن العربي. هي حرب المصارف والشركات الغربية من جهة وتنفيذ ذلك من انظمة عربية ضد الأمة العربية. وقودها مجموعات تكفيرية متخلفة وتمويلها من أنظمة الخليج خاصة، وتسلحها غربي وكاسب نتائجها الكيان الصهيوني. ناهيك عن دوره السري بالطبع.
معسكر المقاومة
لم يمر الوطن العربي بأشد خطرأ مما هو فيه اليوم. ولم يتم تظهير التناقض التناحري من قبل أعداء العروبة كما هي اليوم. والخطورة أن الهجمة آتية من العدو أي الثورة المضادة بينما قوى المقاومة لا تزال مترددة في إعلان حالة التعبئة العامة والطوارئ وبالتالي الحرب المفتوحة بهدف الهجوم المضاد الذي يجب أن يكون الهجوم المبادئ وأن يمتد في حرب دائمة لتحرير الوطن العربي.
كما أشرنا أعلاه، فإن أنظمة وقوى الدين السياسي قد اغتصبت الشارع مما حوله وحولته إلى ثلاثة كتل:
الأكثرية الساحقة من الشعب العربي غدت ساكنة تراقب ما يجري أو حتى لا تهمتم، بعد أن كانت حتى 1991 تنتفض ضد أي عدوان على الوطن العربي.
أقلية من الإرهابيين من قوى الدين السياسي يديرها تحالف المخابرت الغربية وقيادات طائفية ومذهبية.
وأقلية عروبية لا تزال في وضعية الدفاع عن الفكرة فما بالك بالانتقال إلى المشروع.
مع تبلور معسكر المقاومة والممانعة كتحالف عربي إيراني شددت الثورة المضادة من هجمتها في محاولة لا تردد فيها علماً منها بأن هذا المعسكر هو نقيضها الحتمي.
لقد اتضح في هذه الحرب الضروس والتي تزداد اشتعالاً بأن الثورة المضادة لم تكتف بأن أنجزت:
خروج معظم الأنظمة العربية من الصراع مع الإمبريالي والصهيوني
وخروج كثير من الحركات السياسية من الصراع حتى ببعده الاجتماعي الطبقي.
ولم تكتف بحياد الأكثرية الساحقة من الشارع العربي، بل نشطت في الشغل عليه بمستوين:
التطبيع مع العدو الصهيوني والعدو الغربي.
وتحييد الشارع تجاه ما تقوم به من خيانات ومجازر وخاصة في احتلالها كل من الإسلام والعروبة.
لو حاولنا وصف الحالة الراهنة لقوى الثورة لقلنا بأنها وصلت وضعية التصاق الظهر للحائط. وبأن ما تشتغل من أجله الثورة المضادة هو التصاق وجه حركة الثورة للحائط. وخلال هذا التراجع تجري تصفية الجمهوريات العربية وجيوش الحواضر العربية الرئيسية كي لا تتحول إلى معسكر المقاومة والممانعة. وهذا يشترط الصد والرد.