هل الحياة فعلاً. «مسرح»!؟
نصّار إبراهيم
نستخدم في خطابنا اليومي في بعض الأحيان، مفهوم «الحياة مسرح». وما نقصده عادةً بهذا التعبير، الجانب المجازي لا حقيقةً وفعلاً. ولكن يبدو أن البعض يتعاملون مع مفهوم «الحياة مسرح» باعتباره حقيقة لا مجازاً، أي أنّ الحياة هي فعلاً مجرّد مسرح للتمثيل. وتأسيساً على ذلك، يجري التعامل مع تحدّيات الحياة والعلاقات والمواقف باعتبارها مجرد أدوار تمثيلية.
وهكذا يتصرّف ويمارس هؤلاء «الممثلون» في علاقاتهم وعملهم ومواقفهم كعملية تمثيل ليس إلا. وبالطبع يعتقدون أن ما يقومون به، ذروة الذكاء والواقعية والمهارة.
المأساة، أنّ بعض هذا النوع من الناس، أي من يتعامل مع الحياة كخشبة المسرح، يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك. حين لا يكتفون بالمستوى الأول من التمثيل. أي التعامل مع علاقاتهم ومواقفهم وسلوكهم كعملية تمثيل على مسرح الحياة. إنما يطوّرون هذه العملية حين يقومون أيضاً بتمثيل التمثيل. أي أنهم يمثّلون ما يمثّلونه في المستوى الأول. وبهذا، لا تعود الحياة مجرد مسرح، إنما هي مسرح المسرح. وهكذا تتحول حتى أكثر العمليات التمثيلية اتقاناً، إلى مهزلة أو مأساة اجتماعية وثقافية وسلوكية في الواقع.
فأن يصبح التمثيل نمط حياة سائد. فهذا يؤسس للنفاق الاجتماعي والانتهازية والوصولية والتلفيق. قد يبدو هذا الأمر سهلاً في البداية. وقد يحقّق بعض النجاح. ولكن ذلك وهم. ذلك أن تفاصيل الحياة ومفاجآتها وحيويتها ستجبر الشخص على تقمّص ألف شخصية وألف دور في وحدة الزمن المتاح. ومع الوقت، تتحوّل هذه العملية إلى استنزاف داخلي. سرعان ما تصل بالممثل المفترض إلى حالة يأس وانهيار نتيجة التوتر والجهد المبذول في محاولاته التي لا تتوقف لطمس الأبعاد والمواقف الحقيقية أو تمويهها. فقد ينجح الممثل في إقناعنا لمئة مرّة بأنه هكذا في الحقيقة. ولكن يكفي أن يفشل مرّة واحدة لتنهار منظومة التمثيل بكاملها. لتنكشف بعدها «الحبكة» المسرحية، إنما في هذه المرّة بصورة تنكشف معها الحبكة الحقيقية.
فأن يواصل الإنسان التمثيل على مدار الساعة وفي مختلف الميادين، أي أن يتقمّص الدور ونقيضه في كل ساعة. فإن ذلك يحوّل كلّ حياة الإنسان إلى عملية تمثيل متواصلة. ذلك لأن الانطلاق من فرضية أن الواقع هو مجرّد مسرح، يستدعي بالضرورة أن يطوّع الإنسان نفسه ويروّضها لدور الممثل طوال الحياة، ما يعني أنه لا يعود هو هو. هذه العملية بكل تداعياتها وتناقضاتها المتراكمة تؤدّي إلى تراكم الضغط والأزمات اليومية والنفسية. والتوتر القلق. وفي النهاية الانهيار.
ذلك لأن الممثل مهما كان عبقرياً وبارعاً في تمثيل الأدوار وتقمّصها، بكل ما تشترطه هذه العملية المضنية من جهد وتوتر وضبط هائل للنفس، فإن الواقع سيتفوّق عليه في النهاية ومن دون أيّ جهد يذكر، لأن الواقع هو هكذا، أي يؤدّي دوره ويفرض ذاته من دون تمثيل.
خلاصة القول أن لا داعي لكلّ ذلك. ليتصرّف المرء بشكل عادي، أقصد بشكل عاديّ تماماً. ليكتشف روحه وذاته، فالحياة هي الحياة كما هي عليه، لا نسختها البديلة. وأيّ محاولة لاستبدال الأصل بالبديل مهما كانت بارعة ومتقنة، فإنها ستفشل عند مواجهة الأصل. فالحياة بكلّ تفاصيلها الهائلة وتحوّلاتها هي واقع ووعي وارتجال وعفوية وعمق وتحوّلات لا تتوقف، ومعها نتحوّل نحن أيضاً. المهم، كيف يمكننا أن نحافظ في سياقات هذه العملية على ذاتنا وعفويتنا وبساطتنا ووضوحنا. هذا هو التحدّي. أما التمثيل فيبقى في النهاية وفي كل الأحوال مجرّد تمثيل، سواء كان جيداً أو فاشلاً.