صفحة الدراسات في «البناء»، أنشئت لتكون مساحة للأبحاث العلمية المتعلقة بشتى المواضيع ذات الصلة في قضايا الأمة والعالم العربي.
صفحة الدراسات في «البناء»، أنشئت لتكون مساحة للأبحاث العلمية المتعلقة بشتى المواضيع ذات الصلة في قضايا الأمة والعالم العربي.
وهي إذ تتسع لمثل هذه الدراسات تبقى مجالاً مفتوحاً للحوار وطرح الإشكاليات الفكرية والسياسية وغيرها، تنشيطاً لدور الثقافة في الصيرورة الاجتماعية. علماً أن الآراء التي ترد على مساحة الصفحة تعبر عن رأي أصحابها وليست بالضرورة مطابقة لقناعات الصحيفة.
إلا أنه انطلاقاً من القناعة الراسخة بضرورة خلق حوار فكري حول القضايا والإشكاليات كافة وما أكثرها، والتي تفرض نفسها على صاحب القرار والمثقف وقادة الرأي والمواطن في أي موقع كان، كانت صفحة الدراسات في «البناء» هي الترجمة العملية لهذه القناعة. آملين أن تشكل هذه الصفحة مساحة فكرية ـ سياسية تعنى بهموم الوطن والمواطن، تدرس الحاضر لترسم المستقبل.
قراءة في كتاب «تحت خط 48 ـ عزمي بشارة وتخريب دور النخبة الثقافية» للدكتور عادل سماره
مثقفون للتطبيع… والضحية الانتماء القومي ٢/١
إعداد: د. نسيب بو ضرغم
بعد أن تمّ نشر فصول من كتاب الدكتور عادل سماره في أعداد سابقة، ونظراً إلى أن الكتاب المذكور قد ناقش دور بعض المثقفين الفلسطينيين في نشر ثقافة التطبيع مع كيان العدو، وعلى رأسهم عزمي بشارة وإميل حبيبي وإدوار سعيد وسواهم، ونظراً إلى ما يحدثه ذلك من انهيارات فكرية لمصلحة العدو اليهودي، وما يعكسه من خطر شديد على بقاء الحق القومي في فلسطين، لذلك سوف ننشر على حلقتين قراءة لهذا الكتاب مستهدفين منها إبراز خطر هؤلاء «المفكرين» على جوهر المسألة الفلسطينية.
إن كتاب د. عادل سماره «تحت خط 48 ـــــ عزمي بشارة وتخريب دور «النخبة» الثقافية» يتضمّن الكثير من العناوين ذات الصلة بقضايا الصراع مع المغتصب اليهودي في فلسطين. الحقيقة هي أن كل عنوان من هذه العناوين يستلزم مقاربة موسّعة ومتشعّبة، ذلك أنها جميعاً مستوحاة من وسط الصراع المضني الذي يواجه به شعبنا هذا الأخطبوط الخبيث والمقتدر، والذي هو اليهودية العالمية.
ومع تأكيد أهمية العناوين كافة، إلا أننا سنتوقف عند مجموعة منها، نعتقد أن مقاربتها وتحليلها يقدّمان خدمة لقضية شعبنا في صراعه الدهري مع هؤلاء الصهاينة.
من هذه العناوين:
1 – تخلّي الفلسطينيين عن شخصيتهم القومية لمصلحة المواطنة في «دولة إسرائيل».
2 – اليسار الصهيوني.
3 – الصهيونية العربية.
4 – التطبيع.
5 – دور عضوية الكنيست في «استدخال الهزيمة».
6 – فتى الموساد.
في البداية، نود التأكيد، ومن خلال مضمون مواد الكتاب، أن المسار المدمر الذي سار عليه الكثيرون من العرب حيال القضية الفلسطينية، هو أن هؤلاء جميعاً، لم يعتقدوا أن جوهر الصراع مع اليهود في فلسطين، هو صراع على الأرض كل الأرض، ولمن تكون الأرض. إن غياب الجوهر القومي للصراع عن قناعة هؤلاء المنحرفين هو أساس المأساة، ومنه يبدأ تقويم الانحراف. وعلى أساسه تقوم المُساءلة.
النقطة الأولى: المواطنة بديل الشخصية القومية
إن أخطر ما في الموضوع هو تجزئة المسألة الفلسطينية إلى أراضي 48، حيث يقرّ هؤلاء المنحرفون بشرعية «دولة إسرائيل» وبصفتها اليهودية، وبأن العرب الذين يعيشون على تلك الأرض ليسوا في أحسن حالاتهم سوى مواطنين عرب في «دولة إسرائيل». وأما أراضي 1967 فهي في دويلة فلسطينية تحت الحماية الإسرائيلية. والحقيقة أن هذا الانحراف لم ينشأ صدفة، بل جرى العمل عليه عبر رموز فلسطينية عديدة، منها إميل حبيبي وعزمي بشارة… وكانت الخطة من الخبث بحيث أن أربابها الصهاينة دأبوا على إحلال الهوية الثقافية محل الهوية القومية، كأن يُترك لفلسطينيي الـ48 أن يعبّروا عن نمط حياتهم وثقافتهم ولكن كـ»مواطنين إسرائيليين». القومية لليهود والمواطنة الثقافية للفلسطينيين.
يقول عزمي بشارة في الصفحة 52 من الكتاب المذكور آنفاً: «إن هدفي هو دولة لكل مواطنيها. استقلال ذاتي ثقافي، ومن دون هذا فإن الأمور سوف تؤول إلى المطالبة بتحرير المقاطعات ودمجها في وحدة طبيعية Irredentism ستقود إلى الصراعات. ولكن إذا ما تجذر الحكم الذاتي في دولة لكل مواطنيها فإنه سيكون «أساساً للاندماج».
واضح كلام بشارة. نصيحة تفضي إلى عدم نشوء الوعي القومي عند الفلسطينيين.
وأيضاً ما ورد في الصفحة 47-48: «عزمي بشارة: لا نطالب بمناطق بل بحكم ذاتي ثقافي». ويقول بشارة في الصفحة 53: «إن مشروع الدولة الديمقراطية العلمانية لا تأخذ في الاعتبار وجود أمة يهودية هنا ذات ثقافة عبرية شكلت كيانها. هذه الأمة ليست حقيقة فحسب، إنها أمة لها حق الكيانية وتقرير المصير».
كلام واضح ووقح، يعترف فيه «المفكر العربي» بالوجود الحقيقي والتاريخي «للأمة اليهودية». ألا يفضي هذا الكلام إلى التسليم بيهودية فلسطين واعتبار الفلسطينيين مجرد مقيمين، في أحسن أحوالهم يتمتعون بحقوق إنسانية؟! لو أُعطي لجايوتنسكي أن يتكلم عن «الأمة اليهودية» لما كان أبلغ من «المفكر العربي» أبداً.
ويقول في ص49 من الكتاب نفسه: «تعوّدت أن أراها الصهيونية كحركة استعمارية بذاتها أو جوهرياً، ولكن من خلال قراءاتي للأدبيات الصهيونية فأنا متأكد من أنها أكثر تعقيداً من ذلك، فهي تنظر إلى نفسها كحركة نهضة، كحركة تحرير، لذلك فإنها كانت في حالة توتر بين تصوّرها لنفسها وبين ممارستها».
عندما تكون الصهيونية حركة تحرّر وتحرير، فماذا يكون الفلسطيني على أرض فلسطين؟! ألا يكون، سنداً إلى هذا المنطق، محتلاً لأرض صهيونية؟ ويصبح الفلسطيني «إسرائيلياً» بالمواطنة؟
بهذا المنطق يكون «المفكر العربي» قد أسقط حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني. وكذلك أسقط الانتماء القومي للفلسطينيين، وأصبح دفاعه عن حق تقرير المصير يختص باليهود فقط. يصبح الفلسطينيون بذلك سكاناً وليسوا وجوداً قومياً.
ويقول بشارة: «إن المشروع الكبير، المنظور المستقبلي، هو تحويل «إسرائيل» إلى دولة لكل مواطنيها. هذا هو المنظور، يمكنك حتى أن تسمّيه إيديولوجيا مدنية، نظام تفكير لا قومي، إنه يبدأ من نقطة المواطنة المشتركة. ص 59
وهكذا يعلن عزمي بشارة المصالحة التامة مع المشروع الصهيوني، ويلغي أي واجبات حيال النضال ضد الاحتلال، وكأن الاحتلال غير موجود، ويعلن انتهاء أي مطلب لفلسطينيي 1948 في الأرض وحق تقرير المصير.
بمعنى أن بشارة يرتكب الجريمة العظمى، وذلك بفصل الإنسان الفلسطيني عن أرضه، فتسقط قوميته وحقه في تقرير المصير، لتبقى له حقوق مدنية يقرّرها المحتل. واضح أن كل «ثقافة» «المفكر العربي» لا تقف عند الأرض، فالأرض غائبة عن هذه «الثقافة».
حول نقده للسلطة الفلسطينية، يقول: «إن نقد السلطة الفلسطينية مسألة مبدئية لشخص يساري…». ص 59
النقطة الثانية: اليسار الصهيوني
هنا تظهر إسرائيلية «المفكر العربي»، فمشكلته مع السلطة الفلسطينية كامنة في كونها لدى «جيران» وفي كونه يسارياً، فلا يستطيع كيساري «ألا ينتقد هذه السلطة الديكتاتورية».
تظهر المتاهة التي يدور فيها عزمي بشارة، وقد رسمتها له اليهودية العالمية، فتكون كل القضية بالنسبة إليه قضية ديكتاتورية السلطة الفلسطينية، ورأيه اليساري، وكأنه لا يوجد شعب شُرّد من أرضه بالقوة وأُقيمت عليها دولة مغتصبة، وقد أزالت كل ثقافته تقريباً.
إنها نتيجة الخروج على الجوهر القومي للمسألة الفلسطينية. فالجوهر ليس في ثقافة «أقلية» أو في «حقوق مدنية»، بل في أن الأرض لمن تكون. خارج الأرض وملكيتها، كل الأفكار البرّاقة، إنْ هي إلا احتيال وإشراك. وهذا ما يقوله عادل سماره في ردّه على دعوة عزمي بشارة الفلسطينيين لتأسيس حزب «سوسيال ديمقراط».
كان بشارة في كل مرة يزور فيها المحيط، الأردن، الشام، لبنان، مصر، تواليه عملية تمويه يهودية تدور حول محاكمته واستدعائه إلى الشرطة وما شابه ذلك، ولكن ما من مرة طبقت «إسرائيل» قوانينها، لأنها تعتبر عزمي بشارة يمثّل دوراً مطلوباً منه، حدّده له المخرج «الإسرائيلي»، فهو رسول الموساد المموه.
ويجب الاعتراف بأن الموساد عبر بشارة، استطاع اختراق أطر ثقافية وسياسية بتقديم بشارة مفكّراً صاحب رؤية، ممكن للفكر السياسي لدى المحيط العربي الاستفادة منه، وكان كل ما تريده «إسرائيل» هو تطبيع العلاقة معها عبر نقل تصورات بشارة للوجود الفلسطيني سواء في القسم المحتل منذ عام 1948 أو في الضفة والقطاع.
إن جوهر البروبغندا البشاراوية هو تمرير صورة «إسرائيل» كدولة لكل مواطنيها، أي، أنه لم يعد الصراع والخلاف في دائرة الأرض والقومية، فالأمر في ذلك، بنظر بشارة، قد حسم لمصلحة «إسرائيل»: الدولة هي «إسرائيل» المواطنون هم يهود وغير يهود. رأس انتصارات غير اليهود في الدولة «الإسرائيلية» أن يحصلوا على حقوق مدنية، كبشر، لا كمضمون قومي وثقافي وحضاري لهم.
«المفكر العربي» الجزيري، يترشح لرئاسة الحكومة الصهيونية، وينسحب لمصلحة إيهود باراك، بحجة أنه ينسحب ليدعم اليسار العمالي «الإسرائيلي» بمواجهة اليمين. وهكذا يقوّم «المفكر العربي» كل القضية الفلسطينية على أنها قضية صراع بين اليسار الصهيوني واليمين الصهيوني، وبالتالي فإن الانحياز لمصلحة اليسار الصهيوني هو قمة الالتزام بالنضال الفلسطيني ألم يقع في هذا الفخ الكثير من الأدباء والشعراء والمفكرين العرب، وفي طليعتهم محمود درويش. ماذا يعني الانتماء إلى حزب راكاح الشيوعي؟ ألا يعني أن موضوع قومية الفلسطينيين سقطت إلى الأبد، فالقومية هي صهيونية، والمشكل الأساسي هو في معالجات الوضع الاقتصادي والاجتماعي في فلسطين المحتلة، بين أن تكون الأداة ماركسية أو اشتراكية أو رأسمالية.
هل لبّ الصراع هو في النظام السياسي الذي تريد أن تقيمه الإدارة الصهيونية في فلسطين المحتلة؟
إن الطريق المسدودة التي أوصلت الماركسية أتباعها إليها في موضوع الصراع مع اليهود في فلسطين، كانت تشكّل، ولا تزال، حالة تستفيد منها الصهيونية في تحويل القضية من قضية قومية إلى قضية اجتماعية، وذلك على يد الفلسطينيين أنفسهم.
الانتماء إلى «راكاح» أخطر بكثير من الانتماء إلى الليكود… ذلك أن الليكود لا يقدّم نفسه إليك إلا صهيونياً فجّاً صريحاً، وليس تقديماً أممياً إنسانياً .
النقطة الثالثة: الصهيونية العربية
إن بروز مصطلح الصهيونية العربية، لا يتلازم زمنياً مع ولادة الصهيونية العربية. فالصهيونية العربية ولدت منذ ما قبل قيام «دولة إسرائيل» بزمن طويل. ذلك أن العودة إلى رحلة بدايات القرن العشرين، والاطلاع على مجمل العلاقات التي كانت تقيمها الوكالة اليهودية مع «زعماء عرب»، يدل على أن الصهيونية العربية وجدت قبل أن يكشف عنها بهذا الشكل الواسع. وللأمانة التاريخية، واحتراماً منا للتاريخ، يجب أن نقرّ بأن الصهيونية العربية شكلت إحدى القوى التي ساهمت في النكبة الأولى عام 1948.
وأنه بالإضافة إلى الوجهة التاريخية، فالصهيونية العربية تمثّل قمة الانتصارات اليهودية على عقلنا ونفسيتنا القوميين. إذ ليس من السهل أو المعقول أن تستطيع الصهيونية تحويل عقل المفعول به ليصبح طاقة فكرية تدافع عن الفاعل بما يعجز الفاعل الأصلي عن التوصل إليه.
تريدون أن تتعرفوا أكثر على الصهيوني العربي، فلنقرأ ما يتفوّه به عزمي بشارة.
«يطرح بشارة نفسه أمام قادة الكيان، على أنه الدم الجديد الذي اختطف أطروحة الحزب الشيوعي الإسرائيلي «المساواة بين العرب واليهود في الدولة العبرية»، واختطاف أطروحة د. سعيد زيداني الأكاديمي الذي اقترح الحاكم الذاتي الثقافي الفلسطيني عام 1948. أما بشارة، فبعد اختطافها، أعطاها مستوى ثقافوياً جديداً لكسب الشارع العربي. ولكي يحاول وراثة الحركة الحزبية في مناطق 1948، وفي النهاية، كي يتقدّم إلى قيادة الكيان «كقومي» عربي، أكثر قدرة على تبرير وتسويق الاندماجية العربية في الدولة الأشكنازية، من دون أن يُشعر المواطن العربي بخطورة ذلك كله.
وفي مكان آخر، وتثبيتاً لصهيونية عزمي بشارة، يقول الصحافي «الإسرائيلي» أمنوت إبراموفيتش، للقناة رقم «1» للتلفزيون «الإسرائيلي» يوم 16/06/2001 إن: «عزمي بشارة كان يلتقي رئيس الوزراء «الإسرائيلي» إيهود باراك قبل كل زيارة إلى دمشق، ومع الجنرال احتياط داني ياتوم، رئيس جهاز الموساد السابق، وتعوّد على تقديم تقارير إلى ياتوم عن زيارته إلى سورية. أما إسحق هيرتسوغ، السكرتير الصحافي لرئاسة الوزارة «الإسرائيلية»، وابن رئيس الدولة العبرية الأسبق، فقد أجرى مقابلة مع رئيس هذه الدولة حالياً موشيه كتساب الذي قال: «في كل زيارة يقوم بها عزمي بشارة إلى سورية، يتم استصدار تصريح خاص غير رسمي له من قبل الحكومة…»» ص 67.
وبالمختصر، فإنه إذا جاز أن نعرف الصهيوني العربي نقول: هو العربي الذي يخدم الحركة الصهيونية. فهل ما أشير إليه أعلاه يدل على غير خدمة عزمي بشارة للمشروع الصهيوني؟!
النقطة الرابعة: التطبيع
ليس التطبيع وليد اتفاق كامب ديفيد، وإنْ كان الاتفاق قد قدم زخماً أكبر في سياق عملية التطبيع التي عمد إليها فلسطينيون يساريون منذ أواخر ستينات القرن العشرين. ومن المؤكد أن حزب «ركاح» الشيوعي «الإسرائيلي» كان الحاضن لهذه العملية، عبر شيوعيين فلسطينيين وعلى رأسهم محمود درويش وإميل حبيبي وسميح القاسم، وقد استندوا إلى معطى الاعتراف السوفياتي «بإسرائيل».
غاب البعد القومي وعامل الأرض عن طبيعة الصراع، كان لليهودية العالمية أن تنتصر مجدداً بعد انتصارها الاستراتيجي باغتصاب فلسطين. إن انتصار اليهودية العالمية بالتطبيع يقع في خانة الانتصارات الاستراتيجية، ذلك أنه حينما يعتبر الفلسطيني والعربي «إسرائيل» كياناً طبيعياً، وينبغي التعامل معه على هذا الأساس، يكون قد أسقط بها نهائياً ليس من المستقبل والحاضر فقط، بل من الماضي الحق التاريخي لشعبنا في فلسطين.
من هنا كانت القناة المثالية الموصلة إلى عملية الاعتراف بالكيان أن تشجّع «إسرائيل» عبر التنظيمات «اليسارية الإسرائيلية»، وبشكل خاص حزب «ركاح» على المضي باللقاءات مع التنظيمات اليسارية العربية والأجنبية. كل ذلك يشكل تراكماً سياسياً لمصلحة «إسرائيل».
إن عزمي بشارة هو واحد من ألمع أفراد هذا المسار، ولقد رعت «إسرائيل» هذه الظاهرة عزمي بشارة ووظفتها في إطار الدعوة إلى الخروج من مفهوم الحق القومي في فلسطين إلى مفهوم حق المواطنة والتحالف مع أميركا وأعوانها في المنطقة، على رغم التشديد الظاهر من عزمي بشارة في انتمائه للقومية العربية. قومية عربية في العالم العربي، ولكن باستثناء فلسطين. حيث تغيب عن «المفكر العربي» القومية وتحل محلها حقوق المواطنة، بعيداً من ملكية الأرض والسيادة عليها، وحق العودة وبناء فلسطين القومية المستقلة.
إن أخطر ما قام به حزب «راكاح» «الإسرائيلي» هو توظيف النظرية الماركسية القائلة بأن صراع الطبقات هو لبّ التطوّر البشري، ولب المشكلة الاجتماعية، وبالتالي، فالمسألة الأساسية ليست في «الدولة الإسرائيلية» القائمة على أرض فلسطين، بل في الصراع الاجتماعي داخل هذه الدولة، وبالتالي فإن العمال اليهود هم مع الكادحين الفلسطينيين في جبهة واحدة وقضية واحدة هي الصراع مع اليمين «الإسرائيلي». ومع الأسف، سقط كثيرون من المفكرين والأدباء والعاملين في الشأن السياسي في هذه الخطيئة، الخطيئة التي أسست منذ ستينات القرن الماضي للتطبيع.
ولقد عبّر عزمي بشارة عن جوهر نظرته إلى التطبيع عبر مقابلة أجراها معه الصحافي اليهودي أرييه شافيت من صحيفة «هاآرتس» وترجمها أحمد خليفة ونشرت في مجلة الدراسات الفلسطينية عدد 35 صيف 1998، صفحة 144. يقول شافيت: «إن ما يريده عزمي بشارة هو أن تصبح «إسرائيل» دولة مواطنيها. هذا يعني بوضوح، أن مواطنيها هم الموجودون فيها، أي أن اللاجئين لا علاقة لهم بالأرض التي تقوم عليها هذه الـ»إسرائيل»، ولكن كل يهودي يتم استقدامه إليها بموجب «حق العودة» يصبح من «مواطنيها»». ص 63.
المسألة ليست مسألة حقوق إنسان، بل هي قومية بوضوح. ومن هنا فإن شعار «دولة لكل مواطنيها» هو شعار ينسجم تماماً مع المشروع الصهيوني ومن يرفعه يكون صهيونياً، وليس «إسرائيلياً». فالأسرلة جنسية أما الصهيونية فعقيدة… «وقد أكد بشارة هذا الاتجاه بما قاله في مجلة كنعان ـ عدد 85 ما يريده فلسطينيو 1948 ليس الأرض، وإنما حقوقاً مدنية». سماره ـ ص64 .
التطبيع عملية إجرائية ثقافية ـ سياسية ـ اقتصادية ـ إعلامية، وبالتالي لا بدّ من منظومة أفكار تستبطن أو تعلن مفاهيم التطبيع وآلياته. وهذه الأفكار لا بد من أن يتبناها «مفكرون». وهكذا عمدت اليهودية العالمية وحلفاؤها من الصهاينة العرب على وضع خريطة عمل مشتركة، تقضي إلى حصول التطبيع، فكان الإعلام عبر الفضائيات وضخ «أكاديميين ومفكرين» يملأون هذه الفضائيات بضجيج التطبيع اليهودي.
الصهاينة ذوو خبرة في إنتاج «أبطال» يضعونهم فوق الشبهات، حتى يمرروا عبر هؤلاء «الأبطال» مشاريعهم الخبيثة، التي لا يمكن، بل يستحيل أن تمر عبر القنوات اليهودية المباشرة. لذلك كان يهود الداخل، كما أسماهم أنطون سعاده، والصهاينة العرب بمصطلحات اليوم يشكلون هذه المعابر الموصلة إلى الوعي والنفسية. وهذا هو جوهر خطرهم.
لنستذكر محطة «الجزيرة». المرحلة التي أُسست فيها، وأين؟ وكيف كان أداؤها ولم يزل؟ ألم تكن هذه المحطة البؤرة الإعلامية الموظفة بشكل مركزي في الإعلام العربي، لتقود التطبيع بشكل ممنهج كي يتقبّله المواطن؟! أليست هي المحطة الوحيدة التي كانت ولا تزال تسمح بظهور مسؤولين يهود على شاشتها في برامجها العادية؟!
يستلزم التطبيع أموراً عدة:
أولاً: فكر تطبيعي، وذلك عبر «مفكرين» من أمثال عزمي بشارة وسواه.
ثانياً: إعلام يحمل هذا التطبيع، بدءاً بـ»الجزيرة» وانتهاءً بعشرات المواقع الإعلامية العربية.
ثالثاً: موقف رسمي عربي، تمثل باتفاقات «أوسلو» و»كامب ديفيد» و»وادي عربية»، حيث أصبحت الشعارات «الإسرائيلية» موجودة بشكل طبيعي في عدد من العواصم العربية.
رابعاً: التمويل، وهذا مؤمن من مصادر متعددة، خليجية وغير خليجية.
لقد نجح الصهاينة مع مجموعات من «المثقفين» بتوظيفهم في عملية التطبيع مع الكيان، كإدوار سعيد مثلاً، الذي دعا وشجّع فلسطينيي 1948 على أن يقترعوا لمصلحة عزمي بشارة في انتخابات الكنيست الصهيوني. ماذا يعني ذلك؟ ألا يعني التنازل عن قومية الأرض لمصلحة الصهاينة، ويصبح تمثيل فلسطينيي 1948 في الكنيست من قبل تمثيل مجموعات من سكان «إسرائيل» مقطوعي الجذور مكتومي القومية، أُجيز أن يكون لهم ممثل في الكنيست يرعى مصالحهم المدنية فقط. ألا يعني ذلك أن وجود «إسرائيل»: بكل مؤسساتها أمر طبيعي ينبغي التعامل معه.
إن إدوار سعيد هو مؤسس الفكر التطبيعي مع اليهود. الفكر الذي تناسل في عدد من «المفكرين» و»الشعراء» و»الأدباء» أمثال محمود درويش وإميل حبيبي وعزمي بشارة وسواهم، الذين أصبحت عندهم «أوسلو» بداية تاريخ لم ينجحوا بتلمّس طريقهم في ضبابها الكثيف نحو الدولة الموعودة. في وقت أنهوا، وإلى الأبد، ثمانية آلاف عام من تاريخ قومي في فلسطين، لم يكن اغتصاب اليهود له عام 1948 أكثر إيلاماً من إسقاطه على يد هؤلاء «المفكرين».
إن أخطر ما في عملية التطبيع، إضافة إلى إسقاط الحق القومي في الأرض، وهو الاعتراف بالكيان «الإسرائيلي» دونما تقدير لخطورة هذا الكيان وقوته التي لن تعترف مستقبلاً بأي حق لأحد، فالقوة المشار إليها، هي موقع كيان العدو من حركة العولمة بكل أضلاعها، السياسية والمالية والثقافية والاقتصادية والأمنية. «إسرائيل» حاجة أساسية للعولمة، ذلك أن وجودها في هذه المنطقة من العالم، أصبح عاملاً معطّلاً لكل آليات النهوض القومي والاجتماعي للمنطقة بأسرها، من شمال أفريقيا حتى حدود روسيا وحدود الصين. يعترف بعضنا بهذا السرطان ويطبّع معه، ويخرج من ذاته وتاريخه وتراثه وثقافته وقوميته، ليصبح كائناً هجيناً منقطع الجذور، نجحت الصهيونية في ضخّ سمّها في جيناته فحوّلته من مقاوم إلى عبد ذليل مطيع، يدافع عن جلاده بأكثر الوسائل شراسة.
ألم يقل عزمي بشارة «إن الصهيونية حركة تحرر وطني»! راجع عادل سماره: ثنائية القومية والحكم الذاتي الثقافي ودولة لكل مواطنيها ـ مشاريع صهيونية ـ مجلة كنعان ـ عدد 85 ـ نيسان 1997 ص 33 ـ 51 .
عادل سماره ـ تحت خط 1948 ـ ص88 .
لا يمكن لحركة العولمة أن تحقق أهدافها الوحشية في المنطقة الممتدة من رأس طنجة وحتى مشارف الصين من دون «إسرائيل قوية» وشعوب جاهلة معطّل وعيها القومي.
وسط هذا الواقع المرعب، يخرج عليك «مفكر عربي» يقول إن الصهيونية حركة تحرر وطني، وإن أهداف فلسطينيي 1948 ليست أكثر من حقوق مدنية.
تماماً كما ذكر د. عادل سماره في الصفحة 80 من كتابه حينما يقول: «وهكذا فالكيان الصهيوني هو بمثابة جسر يمتد لكي يجدد، من مرحلة الاستيطان الأبيض القديم إلى تجديده، ومن مرحلة الاستعمار إلى استمراره في حقبة الإمبريالية، وتجديده في حقبة العولمة، وربما هذه كانت من أخطر وظائف هذا الكيان، وما اتفاق أوسلو إلا محاولة من محاولات تجديده وإعادة إنتاجه». ص 80.
أن ترتقي وظيفة الكيان الصهيوني، من أداة بيد المشروع الإمبريالي، إلى حلقة أساسية في عملية الهيمنة على الكرة الأرضية برمّتها، عبر ما يسمى بالعولمة، أن ترتقي وظيفة هذا الكيان إلى هذا الحد، يعني أن الاعتراف به والتطبيع معه صار يعني القناعة التامة من المغتصبة أرضهم، أصحاب الحق القومي عبر ثمانية آلاف سنة، بأنهم عبيد أبديون لسيّد أبدي، وما كانوا يوماً بادعائهم بحق لهم في فلسطين إلا كَذَبَة. وهل من انتصار لليهودية العالمية علينا أعظم من هذا الانتصار؟!
فلنستمع إلى ما يقوله أستاذ «المفكر العربي» المفكّر الآخر إدوار سعيد، وقد فعل فيه فعل العولمة ما دفعه إلى أن يقول: «إن القومية هي مثل الخطابات التي تخلق وهم الاستقرار أو الهوية الاجتماعية المتماسكة. لذا لا بد من فضّها، لأنها تهديد يخلق ذاتية زائفة، ويرى سعيد أن القومية تحديد لحقوق الإنسان، لذات الفرد، لأنها تميل إلى وباء القوة بمعنى سياسي محدد، وإنها خطرة بشكل خاص على حقوق مجموعات الأقليات التي يفترض أن تكون جماعات شفافة ومستقرة» د. عادل سماره ـــــ المرجع السابق ـــــ ص 82 .
كل ما ورد من نظرية إدوار سعيد إنْ هو إلا الأساس النظري ـــــ «الفلسفي» للتطبيع مع الكيان الصهيوني. وقد حفظ تلميذه عزمي بشارة الدرس جيداً وبرَعَ أيضاً في شرحه وتعليمه لكثير من المثقفين الفلسطينيين والعرب.