تركيا… بين قلب الحزب المريض وقلب الجمهورية المريضة
نارام سرجون
إنّ مشكلة بعض الحالمين الذين تخيب توقعاتهم هي أنّ حياتهم تتحول إلى تمثيلية تقلد الحلم المفقود وتحاول أن تعيش في أوهامه عندما تتعثر ولادته في المخاض الطويل، ولكن للأسف فإنّ تمثيل الحلم وتمثله وإرغامه على الانصياع لهذياناتنا لا يُنزل به عن شجرة المستحيل وأقدار السماء بل يحوِّل صاحبه إلى رجل مجنون، وأما مشكلة الممثلين الذين لا يحققون أحلامهم في النجومية أو الذين يسقطون من على متن النجوم فهي أنهم يبالغون في حركاتهم وأدائهم التمثيلي لإقناع الجمهور بقدراتهم ولياقتهم ولفت أنظار المخرجين إلى تفوقهم وإمكاناتهم فلايقنعون أحداً إلا بأنهم فعلاً ممثلون فاشلون أو صاروا ممثلين فاشلين مثل جمال سليمان في أعماله الأخيرة الرديئة.
الكارثة أن يكون هناك حلم فاشل لممثل فاشل مثل تركيا التي يختلط في سلوكها أداء الحلم الفاشل المستحيل والممثلين الفاشلين الذين يبالغون في حركاتهم وأدائهم التمثيلي حتى تحولت تركيا إلى مسرح كبير يغصّ بالحالمين الفاشلين، ووصل بعضهم إلى حدّ المرض والهوس، الممثلون والجمهور في حزب العدالة والتنمية معاً يتبادلون التمثيل والحلم، وسيدخل الجميع مرحلة المرض العضال الذي لا برء منه، وفي هذا الجو المريض تحاول فرقة حزب العدالة والتنمية للأعمال المسرحية السياسية أن تمارس المزيد من الرقصات على المنصّة لجذب الأضواء ولكن عندما بدا جلياً أنّ العرض قد فشل خرج الممثلون عن النصّ المكتوب ونزلوا عن خشبة المسرح وانتشروا في الشوارع والأزقة المحيطة به ليخلطوا الحلم بالواقع لتسول اهتمام العابرين.
تركيا، كما صار من البديهيات، هي التي تمسك بأعصاب الحرب السورية لأنها تمسك بأعصاب «داعش» و»جبهة النصرة» وتمسك بخوانيق البغدادي والجولاني، وتخصّ تركيا تنظيم «داعش» بالعناية الفائقة للعب دور «الجوكر القذر» الذي تلوِّح به حكومة العدالة والتنمية في المنطقة من العراق وحتى ليبيا، مروراً بلبنان ومصر، ولا نبالغ إن قلنا إنّ من يشقّ صدر حزب العدالة والتنمية سيجد قلب «داعش»، وكلّ من يقول عن مساكنة واتفاق عدم اعتداء بينهما يخدع نفسه لأنّ «داعش» غير قادر على الحياة من دون تركيا التي تضع يديها على عنقه وهي التي تمسك بكلّ خيطانه الخفية لأنها تعتبره القفازات القذرة السوداء التي تخفي بصمات اليد التركية في الأحداث في لعبة «الجوكر القذر»، ففي الحروب تتوق الدول المتحاربة إلى ارتكاب العمليات القذرة لتسهيل كسب الحرب فقتل المدنيين وترويعهم بالمجازر يشكل ضغطاً نفسياً هائلاً على الخصم وكسراً لمعنوياته وتشتيتاً لقدرات جيشه، ويرغمه على اتخاذ خيارات مهادنة وتنازلات كما تفعل «إسرائيل» في كلّ حروبها بقتل المدنيين وتدمير البيوت ليتشكل رأي عام ضاغط على خصمها بالتوقف عن «العناد المكلف» واستخدام الثمن المدني الباهظ لقلب الرأي العام ضدّ إرادة الصمود حتى النهاية، وهذا أمر تفعله أميركا والغرب في كلّ الحروب، فاستهداف هيروشيما وناغازاكي كسر إرادة القتال في اليابان. ومن هنا، فإنّ الدول التي تباهي باستعراض أخلاقياتها تكسب جيوشها الحرب بالوسائل القذرة دون الاعتراف بأنها تبارك جرائم الحرب، ولذلك تجد أنّ الأميركيين لم يكرّموا الطيارين الذين ألقوا القنبلة الذرية على هيروشيما وناغازاكي، رغم أنّ هؤلاء هم الذين حسموا الحرب، وكذلك فإنّ ملكة بريطانيا كرّمت جميع الجنود والفرق المقاتلة بعد الحرب العالمية الثانية ولكنها لم تجرؤ حتى الآن على تكريم أطقم القاذفات البريطانية التي أبادت وأحرقت المدن الألمانية، مثل شتوتغارت ودرسدن، لأنّ تلك العمليات لا تزال تُعتبر عمليات قذرة رغم أنّ كسر شكيمة الألمان ومعنوياتهم كان في تدمير مدنهم وليس في تدميرهم في مدن الآخرين في ستالينغراد أو في العلمين، ولكن في عصر صارت فيه الحروب تتابع مثل مباريات كرة القدم بشكل مباشر وحيّ، صارت الجيوش مضطرة إلى إنكار العمليات القذرة وارتكابها من خلف ستار لأنها أمر محرج وانتصار لا يُشرِّف. من هنا صارت الحاجة ماسة إلى ارتداء القفازات عبر استعمال المنظمات الإرهابية من القاعدة وأخواتها وصولاً إلى «داعش» التي ترعاها تركيا بشكل مباشر وتحضن بيضها.
لذلك، عندما تريد تركيا أو الغرب ارتكاب عملية قذرة في أي مكان يتم تكليف «داعش» بها الذي ينفذ العملية علناً ودون حرج ودون أن يكون اتهام تركيا بالضلوع في الحدث مقنعاً كثيراً، فتذبح أمام العدسات وتفقأ العيون وتحرق الأحياء وتغرق الضحايا وتسبي نساءهم وتبيع البشر وأعضاءهم دون تهيُّب من اللوم لأنها أعمال ترتكبها منظمات هلامية لا أم لها ولا أب، القفاز الأسود القذر التركي أو الجوكر التركي المسمّى داعش يفيد في تنفيذ الأهداف التركية في كلّ المنطقة، وهو يضرب بعنف منقطع النظير البنى المدنية بل يرغم المدنيين في مناطقه على الولاء المطلق له والقتال معه لأنه يستعمل سلاح الموت كأول العقوبات وليس آخرها، وتدرُّج العقوبة هو في نوع الموت فقط ومذاقه، وكما كان العثمانيون يتفننون في عرض قسوتهم في الساحات العامة بالخوازيق والتقطيع وسمل العيون، بأمر الخليفة، فإنّ داعش يتبع المنطق نفسه الذي نجح في قمع الشعوب التي احتلها العثمانيون وشلّ إرادة التمرد التي ترى الخازوق والعقوبات المفرطة القسوة بانتظار أحرارها، وهذا في الحقيقة ما أطال عمر السلطنة، و»داعش» يتبع العقيدة العثمانية نفسها، أملاً في أنّ تشلّ وحشيته إرادة السكان في التخلص منه والقبول بالقدر «الداعشي».
لم يكن الغرب بعيداً طبعاً، ولم يمانع في أن ترتدي تركيا القفاز القذر وتلعب الجوكر القذر طالما أنه سيستأصل شأفة الإسلام ويهزمه في عقر داره، بحجة «داعش»، عندما تتداخل مسنّنات الإسلام مع مسنّنات «داعش» وتختلط مياه الإسلام بمياه «داعش» حتى يصعب فصلهما.
دخلت تركيا مصر واليمن وليبيا وتونس وغزة علناً عبر الإخوان المسلمين وتسللت إلى أعماق العراق وسورية وليبيا في ثياب «داعش» وعلى ظهر «الدواعش» و»جبهة النصرة»، وكان الجيش التركي هو من ينفذ العمليات دون أن يظهر في الصورة ويرتكب الأعمال القذرة ويمارس السلوك العثماني القديم بأيدي «الدواعش» بينما تظهر يداه نظيفيتن عندما يخلع القفاز أو عند رفع البصمات عن السكاكين والسيوف وبقع الدم، فلا تظهر بصماته في مواقع الجريمة في سورية والعراق وليبيا ومصر.
من المؤكد أنّ الطموحات التركية الكبرى في سورية انتهت وإن لم تعلن تركيا ذلك، وهناك قناعة تتسع في أوساط حزب العدالة والتنمية ومكاتبه العليا باستحالة إسقاط النظام في سورية أو الوصول إلى الجامع الأموي في دمشق وأنّ مشروع أردوغان انتهى جنوباً، حتى أقرب المستشارين لأردوغان صاروا في اتصالاتهم ينقلون قناعته بذلك ويقللون من سقف تمنياته وشروطه ويناورون في حدود الانسحاب التكتيكي وأثمانه، لكنّ ما يحدث الآن حقيقة أهم من ذلك وهو أنّ تركيا تريد إيقاف نتائج مغامرتها في سورية دون أن تدخل تلك الآثار إليها وذلك بإبقاء التوترات خارج تركيا لأنّ الأخيرة اليوم قلقة جداً من التوتر الديني والصعود الكردي في داخل تركيا وهذا من الآثار الجانبية اللامتوقعة للحرب في سورية والتي لم ترصدها عينا أردوغان وهو يحقن الحدود بالحرب والتقسيم والتعصب المذهبي. فبعد هذه السنوات من استعراض العضلات التركي الأجوف ظهر الأسد قوياً وظهر أردوغان ضعيفاً وهو لا يقدر على اتخاذ قرار الحسم دون إذن وتفويض، وبدا في إمكاناته الإقليمية محدوداً وأهان تركيا وهيبتها وهي تحجم عن تنفيذ أي وعيد بإسقاط دمشق، رغم ملايين التهديدات، حتى صار أردوغان ووعوده مثالاً للجعجعة الفارغة.
وفي هذا الجو من تراجع الثقة بالقيادة تكسّرت القشرة الوطنية التركية وظهرت تناقضات المجتمع التركي وظهر على وجه الخصوص الأكراد الأتراك في لحظة ضعف حزب العدالة والتنمية عندما تعثر في سورية، وخرج الأكراد الأتراك من حالة التقية السياسية في تركيا المخبأة تحت القشرة الوطنية ولن يعودوا إلا بقطعة لحم كبيرة من جسد تركيا تمضغها كردستان تركيا.
اليوم، يكلف حزب العدالة والتنمية «داعش» بحماية وحدة تركيا بتأديب الأكراد عموماً، والأكراد الأتراك خصوصاً، الذين وبسبب سوء الحسابات التركية تحولوا إلى كتلة سياسية نمت على ضفاف الأزمة السورية وشربت من مياهها، وكأنّ المقصود منها استغلالها لإسقاط الدولة السورية، فإذا بالتهديد الكردي يقترب من الدولة التركية نفسها، لأنّ جسد كردستان في الحقيقية هو في تركيا التي تحتلّ معظم كردستان عملياً، ولو حصل الأكراد على كلّ ما يريدون في العراق وسورية وإيران، فلا شيء يعادل الجائزة الكبرى لهم في كردستان تركيا، وبدون كردستان تركيا فإنّ كردستان هي أذرع وأرجل بلا جسد ولا رأس، وإذا قلنا إنّ من يشقّ صدر حزب العدالة والتنمية سيجد قلب «داعش»، فإنّ الصواب أيضاً أن نقول إنّ من يشقّ صدر تركيا سيجد فيه قلب كردستان النابض.
عملية سوروج التي حاول حزب العدالة والتنمية تصويرها على أنها تحرك «داعش» ضده ورافقته مبالغة في التمثيل والتهديد والأداء والحركات البهلوانية لإقناع من بقي مشككاً أنه حتى تركيا عدوة لـ»داعش» بدليل ارتفاع منسوب تهديدات «داعش»، ولو كانت تركيا تخشى «داعش» لهرولت للتنسيق مع أهم جيش يواجهه وهو الجيش السوري وقرّرت مباشرة إقفال الحدود لخنق التنظيم وتركه تحت رحمة الجيش السوري. هذه العملية المدبّرة في قلب حزب العدالة والتنمية دليل على أنّ حزب العدالة والتنمية قد وصل إلى زمن المرض والحمّى، فالعملية التي وقعت في سوروج ليست موجهة ضدّ حزب العدالة والتنمية، وإن بدت وكأنها خروج محدود لـ»داعش» عن السيطرة، وهي في النهاية تشبه عملية الريحانية التي لم يقم الممثلون الأتراك يومها بنفس الحركات التمثيلية والرقص بحجة الخطر على الأمن التركي، وهي في رأي المحللين الغربيين إما من تدبير أجنحة متمرّدة في حزب العدالة والتنمية لإحراج القيادات الحالية لاستغلال الحدث ولتدبير انقلاب أبيض داخل الحزب، أو أنها محاولة من تركيا لحماية نفسها بعد أن ظهر على جلدها طفح الفوضى وعلامات التفكك الرهيب، والعملية هي رسالة من أردوغان بالذات للأكراد وعقوبة لهم وإنذار بأنّ أي تحرك ضدّ الدولة سيعني إطلاق يد «داعش» بسمعتها الرهيبة بين الأكراد، وسيعني بداية تحالف علني بين تركيا و»داعش» لمواجهة عدو مشترك، بدليل أنّ تركيا و»داعش» يحاربان حزب العمال الكردستاني نواة كردستان تركيا القادمة، وهي غاية التحرك التركي.
إنّ العملية القذرة في سوروج تشبه السيناريو الذي تسرب من اجتماع سري عقده حقان فيدان مع داود أوغلو واقترح فيه إطلاق قذائف وصواريخ من الأراضي السورية نحو الأراضي التركية لتبرير تدخل تركي، فكان البديل هو غضّ الطرف عن اختراق «داعشي» في سوروج، وعملية سوروج، علاوة على أنها محاولة يائسة لخلق أجواء حرب على الحدود لإعادة لمّ شمل الأتراك حول شخصية أردوغان وحزبه، هي أيضاً ستبرّر لأردوغان وعصابته هذه المرة تحركاتهم في الشمالين السوري والعراقي، بحجة الاضطرار لمحاربة «داعش» بعد أن لسع تركيا وبذلك يقوم الجيش التركي بخلق واقع صعب التغيير في قطاع جغرافي لفترة من الوقت يرتب فيه لإقامة كيان ما لمعارضة سورية ستخلع عنها ثياب «داعش» و»النصرة» التي ترتديها قبل أن ينسحب الجيش التركي ويسلمها مهمّة الحفاظ على الأمن، وأهم وظيفة ستكون مواجهة الأكراد وتشتيتهم وإشغالهم بحرب بلا نهاية مع كيان رمادي بين سورية وتركيا لا يتبع أي دولة، وستكون مهمّة هذا الكيان محاربة الأكراد تحديداً، وتشكيل مغناطيس لجذب المقاتلين الأكراد إليه.
التمثيلية الفاشلة في سوروج تنضم إلى قائمة المسرحيات الأردوغانية مثل مسرحية سفينة مرمرة ومسرحية دافوس ومسرحية توتر العلاقات مع «إسرائيل»، لكنّ هذه المسرحية الفاشلة بالذات، هي الأكثر إخفاقاً وتعتبر محفوفة بالمخاطر وأخطر تمثيليات حزب العدالة والتنمية التركي الذي صار يسمى بالحزب المريض، ويقوده الرجل المريض بأحلامه، الذي جعل تركيا مريضة حيث المجتمع يتفكك بين مشاعر كردية وقومية طورانية، وبين مشاعر مذهبية للسنّة وللعلويين بلغت ذروتها.
إذا أكمل الحزب المريض مسرحية سوروج وأتبعها بمسرحية المنطقة العازلة، فلا شك أنه بذلك يكون قد حفر قبره بيده ليس لأنّ «داعش» سيقتله بل لأنه يخلع قفازاته وسيجد أنه يدخل حقل ألغام يتجنبه كلّ من عنده عقل. فهل هناك هدية أثمن للأكراد ولكلّ أعداء تركيا من وجود الجيش التركي رسمياً خارج حدوده حيث موسم الصيد سيكون دسماً؟ وهل هناك من يجرؤ على إعلان منطقة حظر طيران في زمن انتهى فيه حظر الطيران بالاتفاق النووي مع إيران ومحورها؟ هل هناك من يصدق وعود المنطقة العازلة إلا مجانين حزب العدالة والتنمية المريض؟ وهل يمكن أن يقدم الأميركون على توريط أردوغان بالمنطقة العازلة والاحتكاك مع سورية لغاية تركية في نفوسهم؟
المشهد يكاد يقول إنّ الحزب المريض وزعامته لم ينحرفا كثيراً عمّا يتوقع لهما مسارهما الانحداري ومدارهما المنحني وإن تباطأ قليلاً، ويقول إنّ مسرح أردوغان مقبل قريباً على عروض كثيرة وبهلوانيات ومبالغة في التمثيل لأنّ الفترة القادمة صعبة للغاية.
إنني بانتظار المشهد القادم من المسرحية ومن ثم سأسترخي وأنا أنتظر المشهد الأخير على أحرّ من الجمر، وبعدها سأقول لكم بالضبط متى سيسدل الستار على مسرحيات الحزب المريض كما أسدل الستار على الخلافة المريضة منذ مئة سنة. وإذا مات الحزب المريض أو تمّ نقله إلى مشفى المجانين وحُجر عليه، فإنّ عصراً جديداً سيبدأ، عصر بلا «داعش» وبلا نصرة، بلا ممثلين فاشلين وبلا مسرحيات ومعارضات فاشلة.
لا أوهام ولا نجوم مسرح، ولن تبقى إلا نجوم المقاومين الذين صمدوا دون تمثيل صموداً مذهلاً، وانتصروا دون أن يقفوا على المسارح وينتظروا التصفيق والمديح، إن شققتم على قلوبهم طارت منها طيور الفينيق، وأسراب من أرواح آلاف الشهداء.