«التداخل الثقافيّ العربيّ ـ الفارسيّ» كتاباً بحثيّاً تاريخيّاً
كتب خالد محمود: يصدر كتاب «التداخل الثقافي العربي الفارسي من القرن الأول إلى القرن العاشر الهجري» للباحث المغربي رشيد يلوح، في ظرف تاريخي يتسم بالتوتر في العلاقة بين بعض العرب وإيران. ويحاول مؤلف الكتاب المتخصص في الدراسات الإيرانية تسليط الضوء على الحدث التداخلي الذي ربط بين الثقافتين العربية والفارسية باعتباره طفرة ثقافية تشاركية غير مسبوقة في تاريخ الثقافة الإنسانية، نظراً إلى خصائصها ومواصفاتها ونتائجها. ويشير الباحث المغربي إلى أن كتابه مساهمة في تأسيس مقدِّمة نظرية جامعة بين الثقافتين العربيّة والفارسيّة، ذلك أن معظم الدراسات المُتوافرة حتّى الآن في مجال الدراسات العربيّة الفارسيّة اكتفت بالعمل ضمن دائرة الأدب المقارن. وفرض هذا الهدف على الباحث النظر في كمٍّ كبير من نصوص التراث العربيّ الفارسيّ، ثمّ البحث بين ثناياه عن العناصر التداخليّة الكامنة، ثمّ استخلاص نتائج تحاول تفسير حقيقة التداخل الثقافيّ العربيّ الفارسيّ، واعتمد في مهمته أساساً على منهج الدراسات الثقافية.
يعالج الكتاب مجموعةً من الإشكاليَّات الجُزئيّة والرئيسية ضمن ثلاثة فصول، ففي الفصل الأول مدخل نظري تاريخي عبر مبحثين يعرض أولهما لعلاقة الثقافة بالتاريخ، والحاجة الإنسانيّة إليها، ثم مفهوم التّداخل الثّقافي في بعده الحضاريّ، وكيف قاربته جهود الأنثروبولوجيّة الثقافيّة. وفي المبحث الثّاني الإطار التاريخيّ العام الذي حكم العلاقات العربيّة الفارسيّة قبل الإسلام وفي فجر الدعوة النبوية، وحاولت رصد لحظة التحوّل في العلاقة الجديدة التي بدأت تنسج خيوطها بين الضفتين العربيّة والفارسيّة.
الفصل الثّاني أيضاً في مبحثين، الأوّل يقدّم عرضاً مفصّلا لمقدمة نظريّة في فهم آليات التداخل العربيّ الفارسيّ، التي اصطلحنا عليها بـ «النواظم الثلاثة». والمبحث الثّاني خُصِّصَّ لعرض أهمّ قضايا المناقشة الثّقافيّة العربيّة الفارسيّة، من خلال ثلاثة أسماء هي محمد عابد الجابري وعبد الحسين زرين كوب ومرتضى مطهري.
أما الفصل الثالث والأخير من الكتاب فيتناول الجانب التطبيقي عبر مبحثين، الأول عرض وتحليل بعض النماذج الثقافيّة التداخليّة تنتمي إلى المرحلة المُمتدّة بين القرنين الأوّل والخامس الهجرييّن، بينما تناول المبحث الثاني المرحلة الثانية المُمتدّة بين القرنين السادس والعاشر الهجريّين، ويشتمل هذا المبحث على محور يرصد التحول الحضاريّ الذي عرفه التداخل الثقافي العربيّ الإسلاميّ وتأثره بالثّقافة الأوروبيّة الناهضة آنذاك.
في الختام عشر نتائج رئيسية، منها أن العلاقات العربيّة الفارسيّة قبل الإسلام لم تكن دوماً علاقة بين طرفين متكافئين لذا لم تكن مؤهّلة لبلورة تداخل ثقافيّ عميق، بينما شَكّل الإسلام المُحفّز الأكثر تأثيرًا في التداخل العربيّ الفارسيّ الذي ميّز بوضوح بين ما قبله وما بعده في مسار العلاقات الثقافيّة العربيّة الفارسيّة، ومثّلت فترة الرسالة النبويّة مرحلة نضج المنهاج النبويّ في معالجة الحياة الإنسانيّة، ما أعطى للعرب قابليّة الانفتاح على الشّعوب الأخرى والتفاعل معها. ولاحظ الباحث أنّ عموم مسار التداخل الثقافيّ العربيّ الفارسيّ بعد الإسلام كان محكومًا بثلاثة نواظم رئيسة هي الناظم الدّينيّ، الناظم الجغرافيّ، الناظم الزمنيّ.
في الشقّ التطبيقيّ من الدراسة أنّ أنشطة عملية التداخل الثقافيّ العربيّ الفارسيّ كانت تنمو في الغالب تحت تأثير النواظم الثلاثة معًا، أو ناظمين على الأقل، وكمثال على ذلك ذكر المؤلف أمثلة كثيرة، من أبرزها دور أبناء بلاد فارس في خدمة العلوم الإسلاميّة وكان بتأثير الناظم الديني، ونموذج الرحالة المغربي ابن بطوطة الذي جمع في تجربته بين تأثيرات النواظم الثلاثة.
يتناول رشيد يلوح جانبا من المناقشة المعاصرة حول التداخل الثقافي العربي الفارسي بين ثلاثة أسماء عربية وفارسية: المفكّر المغربي محمّد عابد الجابريّ، والمفكّران الإيرانيّان عبد الحسين زرين كوب ومرتضى مطهّري، ويخلص إلى أنّ كلا من الجابريّ وزرين كوب دافع عن موقف سلبيّ من التداخل الثقافيّ العربيّ الفارسيّ، فيما حاول مطهّري أن يكون وسطيًّا في موقفه. واستنتج الكاتب أنّ موقف المثقّف المعاصر سواء في الضفّة العربيّة أو الفارسيّة لم يتحرّر بعد من سلطة الأسطورة التّاريخيّة ومن إكراه الإيديولوجيا. وأثبت أن التداخل الثقافيّ العربيّ الفارسيّ كان عملية واعية إذ ميّز معظم الفاعلين الفرس والعرب في هذا المسار بين انتمائهم إلى مشروع ثقافيّ تداخليّ عالميّ، وانتمائهم إلى الخصوصيّة المحلّية، ولاحظ أيضًا أنّه كلّما تحرّر المنتج التداخليّ العربيّ الفارسيّ من قيد التّعصُّب للخصوصيّة الذاتيّة، عبّر بصدق عن المشترك الإنساني.
توصل الباحث أيضاً إلى أن التّاريخ العربيّ الإسلاميّ لا يُبرز الشخصيّة الفارسيّة إلاّ في أدوارها السلبيّة، بينما لا يذكر كثيرًا هذه الشخصيّة عندما تكون مساهماتها إيجابيّة في البناء المعرفيّ والعلميّ – وهو كثيرٌ ولافتٌ للنّظر- ما رسّخ في العقل العربيّ صورة سيئة للفرس. وتُشكّل هذه النظرة السلبيّة إحدى الدّلائل التي يسوقها الخطاب القومي الإيراني المتطرِّف اليوم، ليؤكِّد تحيُّز العرب ونكرانهم جهود الفرس وفضلهم على الحضارة الإسلاميّة.
يرى المؤلف أن التعصّب الطائفي والإيديولوجيّ كان من أبرز الوسائل التي استخدمت في تقويض التداخل الثقافي العربي الفارسي، إذ كانت رغبة الصفويّين – ذوي الأصول التركيّة السنية – في الحصول على مشروعيّة تاريخيّة ودينيّة لحُكمهم، سبباً في توظيفهم المذهب الشيعي الإثناعشري، والقوميّة الفارسيّة في الحرب على العثمانيّين الذين حمَّلهم الباحث قسطاً من المسؤولية في تعميق الانكسار التاريخي للمسلمين.