قراءة في مشهد ما بعد الانتخابات الرئاسية السورية

د. أمين محمد حطيط

منذ نحو أربعين عاماً اعتاد العرب والمسلمون أن يتهيّبوا دخول شهر حزيران ، لما فيه من ذكريات أليمة تمثلها محطات الهزيمة والخسارة أو الألم لفقد شخصية مميزة تركت بصماتها على تاريخهم، ففي حزيران 1967 كانت الهزيمة العربية الاستراتيجية الكبرى عندما اجتاحت «إسرائيل» أرض دول عربية ثلاث ونقلت الصراع من مطالبة العرب بفلسطين المحتلة عام 1948، الى استعادة الأرض المحتلة عام 1967، وفي حزيران 1982 غزت «إسرائيل» لبنان لتكمل احتلالها للبلد الرابع من دول الطوق ودخلت بيروت عاصمته. وفي حزيران 1989 فجعت إيران والمسلمون بوفاة الإمام الخميني الذي رحل بعد عشر سنوات من نجاح الثورة الإسلامية في تحرير إيران من التبعية والاستعمار المقنع. وفي حزيران 2000 فجعت سورية والعرب برحيل الرئيس حافظ الأسد رمز التمسك بالحق العربي وباني سورية الحديثة ومهندس موقعها المميز على الخريطة الاستراتيجية الإقليمية والدولية ومنقذ لبنان من التقسيم .

لكن حزيران هذا العام يبدو أنه جاء مصداقاً لقول السيد حسن نصرالله: «حلّ زمن الانتصارات وولّى زمن الهزائم»، وبات حزيران ينتسب الى عصر السرور المغاير لشهور حزيران الماضية قبل العام 2000 والمنتمية إلى عصر الألم. أقول هذا وأنا أقرأ في 3 حزيران 2014 في سورية، يوم كانت الانتخابات الحدث الذي شغل العالم، فلم تبق جهة معنية بشؤون دولية أو اقليمية إلاّ واتخذت من هذه الانتخابات موقفاً، وحتى المغيّبون عن مسرح العلاقات الدولية دفعتهم حشريتهم إلى معرفة ما يحصل في سورية اليوم … فلِمَ هذا الاهتمام كلّه بانتخابات داخلية ؟

شنّ الغرب على سورية حرباً ضروساً استباح فيها كل شيء من بشر وشجر وحجر ومدر، وسخّر فيها كل شيء من سلاح واقتصاد ودين وإعلام ومال وعصبيات، وكل ما يخطر على بال، ووضع للحرب هدفاً واحداً هو «إسقاط سورية من موقعها الاستراتيجي واتخاذها قاعدة لإقامة شرق أوسط أميركي يصاغ العالم على منواله» وينقذ الغرب بقيادة أميركية من جميع إخفاقاته وخيباته التي عاناها خلال العقود الثلاثة الماضية، وكان شرط النجاح في هذا الهدف إبعاد رأس الدولة السورية ورمزها ـ الرئيس بشار الأسد ـ وتعيين دمية مكانه تسيّرها أميركا لإنجاز الهدف المطلوب. بمعنى أن الحرب حصرت في الدليل على نجاحها بمفردة واحدة، إبعاد الأسد وتنحيته عن قيادة الدولة. وتصوّر الغرب أن بلوغ الهدف ممكن وسهل في الميدان وحدّد له الأسابيع ثم الأشهر فأخفق، فانقلب إلى السياسة والمناورات الاحتيالية التي كانت موائد جنيف 1 3م 2 ودوائر مجلس الأمن الموقع لطرحها أو تداولها، لكنّه فشل أيضاً. ولم تُجدِ الغرب حربه المتعددة الشكل، ولا هيئات شكّلها ولا اجتماعات عقدها لمن أسماهم «أصدقاء سورية»، لم يُجدِه ذلك كلّه في الضغط على الحكم السوري بتسليمه مقاليد السلطة.

في المقابل، خاضت سورية بذاتها، ومحصّنة ومدعومة من حلفائها في محور المقاومة، ومؤيّدة من قبل أصدقائها في العالم وطليعتهم روسيا والصين، حرباً دفاعية ممنهجة، تعرف بمقتضاها ماذا تريد وكم هي حجم الأخطار والخسائر التي يمكن إيقاعها بها، ولأن الأساس في الدفاع هو منع وصول المهاجم إلى أهدافه، وضعت الخطط على هذا الأساس لمنع سقوط سورية في أي شكل من الأشكال. وحققت سورية في حربها الدفاعية بالغة الخطورة إنجازات مهمّة وبشكل تدريجي، ووصلت في الميدان إلى المستوى الذي مكّن من القول إنّ العدوان أخفق استراتيجياً في تحقيق أهدافه، وأنه تعثر عسكرياً، بل وضع على طريق الإخفاق الكلي بعدما أنجزت سورية في الميدان نحو 70 من المطلوب لإعلان الانتصار، ولم يبقَ لها فعلياً في سياق المواجهة إلاّ المسألة الأمنية في تعقب المجرمين والإرهابيين فضلاً عن القسم المتبقي في الميدان عسكرياً الـ30 . إنجازات مكّنت سورية من ولوج الحل السلمي بقواعدها هي وبضوابطها هي، فكان قرار إجراء الانتخابات الرئاسية أول قرار سوري فعليّ في مسار الحل السياسي الحقيقي، لأن في هذا القرار أولاً ونجاح تطبيقه ثانياً نعياً نهائياً لأهداف العدوان على سورية، وإنشاء واقع جديد ينبغي التعامل معه بجدّية تامة من الجميع، فالانتخابات قلبت صفحة كانت سمتها العسكرة والقتال، وفتحت صفحة ستكون لها سماتها المميّزة عن السابقة بأكثر من عنوان وسلوك.

الآن، وقد نجحت سورية في إجراء الانتخابات الرئاسية، ونجح الشعب السوري في تأكيد إرادته بتكريس الرئيس بشار الأسد رئيساً لسورية للسنوات السبع المقبلة، فإننا نرى أن الشعب تصدّى بعد القوات المسلحة للعدوان وأسقط أهدافه، فالرئيس الأسد المستمر في القبض على أزمة الحكم، هو الرئيس المستمر في تثبيت سورية في موقعها الاستراتيجي والرئيس المستمر في المحافظة على سيادة الدولة وقرارها المستقل، والرئيس المستمر بوصفه القائد العام للجيش والقوات المسلحة في حربه على الإرهاب، وأخيراً هو الرئيس الذي سيقود سورية في المرحلة المقبلة التي باتت تتسم بخصائص لا بد من ذكر بعضها كالآتي:

أ ـ تغيّر طبيعة الحوار الوطني ومكانه: لم يبق ثمة مجال بعد هذا الموقف الشعبي العارم المؤيد للرئيس الأسد للحديث عن حوار وطني خارج سورية، وعلى أي أرض أجنبية، فعلى الجميع إن شاؤوا احترام الشعب السوري أن يذعنوا لما أفرزته الصناديق، وأي حوار لا يقوده الرئيس الأسد وعلى الأرض السورية لا يمكن القبول به أو المناقشة فيه.

ب ـ تحديد معنى المرحلة الانتقالية بقرار الشعب: كان معنى هذه المرحلة لدى قيادة جبهة العدوان محصوراً بأمر واحد هو أن يسلم الرئيس الأسد السلطة إليهم، ويتنحّى أو يرحل بعيداً عن المشهد، وبعد الرفض السوري توقف البحث. والآن نرى أن الشعب السوري حزم خياره وأبدى تمسكه بالرئيس الأسد الذي لن يكون إلاّ قطب الرحى في أيّ عملية سياسية تحت أيّ تسمية كانت. هذه هي إرادة الشعب السوري، فمن قبل بها تقبله سورية، ومن أعرض عنها فليبق بعيداً عن أرض الحرية السورية.

ت ـ تفويض شعبي جديد للجيش والقوات المسلحة لمتابعة الحرب على الإرهاب، بعدما هالهم تماسك الجيش العربي السوري طيلة الحرب العدوانية، فراح المعتدون يتفنّنون في إحداث الشرخ بين الجيش والشعب. والآن مع الانتخابات التي حماها الجيش والقوات المسلحة، ومع انتخاب القائد العام لهذه القوى التي تواجه العدوان منذ 39 شهراً، يكون الشعب السوري قد أكد على ثقته بتلك القوى وجدّد تفويضها بإنقاذ البلاد من خطر الإرهاب والمجرمين.

ث ـ التأكيد على قدرة الدولة وتحكّمها في زمام المبادرة وتماسكها في مواجهة العدوان وإدارة شؤونها الداخلية، إذ تمكّنت من إدارة عملية انتخابية معقدة وفي ظروف أمنية وميدانية غير عادية، ونجحت عبر قواتها المسلحة في حماية العملية وأظهرت عجز الإرهاب والمجرمين عن تعطيلها، ومكّنت الشعب من إبداء رأيه وممارسة حقه السياسي بحرية ونزاهة تحت أعين جمع من أصدقاء سورية الحقيقيين الذين تقاطروا إليها من 11 دولة أجنبية، وفود شهدت بأن الشعب اختار رئيس الدولة وأسقط تخرّصات الغرب المعتدي حول الشرعية أو عدمها، فالشعب السوري وحده هو الذي يمنح الشرعية لرئيسه.

أما على الصعيد الاستراتيجي العام فنستطيع القول إن النجاح في إجراء الانتخابات الرئاسية السورية والتأكيد الشعبي على رئاسة بشار الأسد، من شأنه أن يساهم في رسم المشهد الدولي بخطوط ليس أقلها:

تماسك محور المقاومة حول قلعته الوسطى سورية، ونجاحه في الظهور ككتلة وحلف استراتيجي منيع الجانب، إذ ساهمت جميع مكوّناته، وكلٌّ في دائرة قدراته، في دعم واحتضان القرار السوري بإجراء الانتخابات. دعم تجلّى في الموقف الإيراني، خاصة في مؤتمر طهران البرلماني الدولي، وفي سلوك حزب الله على أكثر من صعيد خدمة للعملية الانتخابية. وسيكون لهذا الأمر أثر بالغ في كامل الحركة الإقليمية المستقبلية. ومن هنا نفهم مسارعة السعودية إلى روسيا، والكويت إلى إيران، وجون كيري إلى لبنان… والبقية تأتي.

تكريس الانقسام العالمي بين غرب متهالك ويتراجع حاصداً الإخفاق تلو الآخر، ومجموعات استراتيجية دولية في الشرق وفي العالم، تملك القدرات للدفاع عن حقوقها وسيادتها، ما يؤكد أن نظاماً عالمياً جديداً قائماً على التعددية بات أمراً واقعاً وفقاً لما توقعناه منذ أكثر من سنتين ونصف سنة، يوم قلنا إنه من الرحم السوري يلد النظام العالمي الجديد.

ثبوت عجز قوى العدوان على سورية عن تغيير اتجاه النتائج استراتيجياً وميدانياً وسياسياً، إذ رغم كل ما بذل في الميدان أو أنفق في الإعلام والسياسة لثني سورية عن انتخاباتها، جرت الانتخابات وبشروط سورية وحدها، ولم ينفع تهويل بقصف ولا تهويل بمراجعة الموقع السوي في الأمم المتحدة ولا هذا أو ذاك من الضغوط في تغيير اتجاه الحدث ونتائجه.

ختاماً، أقول إن سورية المنتصرة في الميدان انتصرت في السياسة، وتتحضر بعد الانتخابات لإدارة مرحلة جديدة تعيدها إلى الوضع الطبيعي وتعتمد خاصة على قواعد العدالة الانتقالية القائمة على المصالحة والتسامح. مرحلة لن تكون إلا بقيادة الرئيس بشار التي قال الشعب له في 3 حزيران 2014 أنت القائد سر ونحن معك لبناء سورية بعد دفع العدوان عنها.

أستاذ في كليات الحقوق اللبنانية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى