معموديّةُ دمٍ وشهادة… فنهوضٌ وانبعاث

جورج كعدي

لم أسلّم يوماً بأنّ للحرب، أيّ حرب، فوائد وإيجابيّات، ولا تقنعني أيّ دوافع أو مبرّرات اقتصاديّة، سياسيّة، حدوديّة، عرقيّة، طائفيّة… وحتى وطنيّة شوفينيّة إذ أمقت الحرب شديداً، مثلما أمقت الظلم والمرض والحقد والضعة البشريّة واللاإنسانيّة… ولا تنتج الحروب غير تلك الموبقات، إنّما في المقام الأوّل المآسي والآلام والموت والدمار والمصائب والأفعال الوحشيّة بأشكالها كافّة…

إلاّ في الحالة السوريّة الراهنة، وليعذرني شعب سورية الحبيب لو قلت إنّ للحرب التي شهدتها أرض سورية الطاهرة، رغم المآسي والموت العميم والدمار الهائل والنزوح المأسويّ، إيجابيّات بيّنة أراها على النحو الآتي:

أوّلاً: هذه التجربة المؤلمة، بل شديدة الإيلام، لم يختبر الشعب السوريّ مثيلاً لها في تاريخه الحديث، وربما القديم أيضاً، وبالتالي فإنّ تجربة مماثلة لا بدّ من أن تعزّز شعوره الوطنيّ بما لا يقاس، وتضاعف إحساسه بالانتماء إلى الوطن الغالي الذي ينسى المواطن، أيّ مواطن في العالم، في لحظة تراخٍ أو رخاء قيمته الحقيقية أي قيمة الوطن ولا يصحو عليها ويعي أهمّيتها إلاّ بعد تعرّض وطنه وانتمائه للتهديد والزوال، فيشتدّ الإحساس بالانتماء وترتفع قيمة الوطن ويزداد التعلّق به فيغدو فعلاً لا قولاً ذاك الوطن المعشوق الذي يستحقّ أن يُفدى بالغالي، شرط أن يبقى ويعود أفضل ممّا كان.

ثانياً: مثلما تعمّد ناس سورية بالدم والدموع والشهادة والفَقْد والخسارة والنزوح، كذلك فرضت الحرب ـ المؤامرة ضدّ سورية من محور الشرّ الأميركيّ ـ الصهيونيّ-العربانيّ ـ العثمانيّ ـ بعض الأوروبيّ على الجيش السوري خوض المواجهة ومعموديّة الدم والشهادة، فخسر آلاف الجنود والضبّاط والقادة الكبار لكنّه ربح الكثير في الميدان تمرّساً ومعرفةً في كيفيّة مواجهة الإرهاب والجيوش العدوّة، واكتسب خاصّة وتحديداً الخبرات العسكريّة الكافية التي تؤهّله مستقبلاً لخوض أيّ حرب دفاع أو تحرير ضدّ الجيش الصهيونيّ، وهذا تماماً ما خسرته «إسرائيل» الضالعة في مؤامرة تدمير سورية، إذ بدلاً من أن يضعف الجيش السوريّ وينقسم وينشقّ تنامت قوّته واشتدّت وحدته وازداد تماسكه، فأصابت «إسرائيل» نفسها بمقتل سوف تظهر نتائجه في السنوات القليلة المقبلة.

ثالثاً: أيقظت الحرب ـ المؤامرة قيادات سورية ومسؤوليها وسياسيّيها وممثّلي الشعب على قضايا اجتماعيّة واقتصاديّة ووطنيّة وإنسانيّة وثقافيّة كانت مهملة ولا تلقى عناية أو اهتماماً كافيين، ولأنّ الشعور الوطنيّ تعزّز أيضاً وازداد لدى هذه الفئة المسؤولة، مثلما لدى عامّة المواطنين، فإنّ الإهمال والنواقص وتغطية الفساد والمفسدين والنقص في الحرّية… أمور سوف تُعالج جذريّاً ولن يعود الوضع إلى سابق عهده، فالجميع تعلّم وأيقن وامتلك الوعي نتيجة الحرب المؤلمة التي أغنت الجميع بالعبر والدروس للمستقبل، إذ باتوا على ثقة من أن الوطن يبقى بالإصلاح والتطوير وتضافر الجهود، ويُفْنى لو عاد مثلما كان بالعيوب والشوائب والإهمال لبعض القضايا وضعف الاهتمام بحاجات الناس والمجتمع، المجتمع كلّه وليس فئات محظيّة منه.

رابعاً: ليعذرني الأحبّاء السوريّون على قسوة ما سأقول، مع إدراكي قيمة ما كان يملكه الإنسان ثم فقده، مهما بلغ شأنه. إلاّ أن فوضى البناء في العديد من ضواحي المدن السوريّة الكبرى، وبعض الأرياف في مختلف المحافظات، التي طالها الدمار الجزئيّ أو الكامل، بلغت حدّاً لا يحتمل، وما كانت لتحلم أيّ دولة أو سلطة أو جهة بتبديل هذا الواقع في حالة السلم، فأتت هذه الحرب، على مآسيها الجمّة ومصائبها الكبيرة، لتدمّر «العشوائيّات» وفوضى الإنشاء، ولتُخضع هذه المناطق المدمّرة كلّها، في المستقبل القريب، لمخطّطات إعادة بناء عصريّة الطابع، جميلة، منظّمة، أي أن سورية ستنعم قريباً بمدن وقرى وأرياف حديثة، رائعة الهندسة، بحيث يمكن القول في هذا الجانب فحسب، وتحديداً في مسألة إعادة البناء والتنظيم العمرانيّ، ربّ ضارّة نافعة.

خامساً: ساهمت سورية كثيراً، من حيث لم تخطّط ولم تشأ، في تشكّل القطبيّة العالمية الجديدة، إذ سرّعت نشوءها وتكوّنها بعدما كانت مشروعاً محتملاً لقوى عظمى روسيا والصين أو إقليميّة إيران، فنزويلا، البرازيل، أفريقيا الجنوبيّة… تحاول إلغاء أحادية القطب الأميركيّة وإعادة التوازن الذي فقده العالم وافتقدته الشعوب منذ سقوط تجربة الاتحاد السوفياتيّ. فلأنّ لسورية وزنها الإقليميّ والدوليّ في المعادلة الجيو ـ استراتيجيّة بين الشرق والغرب، فإنّها عجّلت في تبلور صورة «القطب الجديد»، وفرضت على الدول الكبرى والوسطى والصغرى تحديد موقفها من الأزمة السوريّة ومن المؤامرة التي كانت معدّة ضدّها تدميراً وتفتيتاً وإخضاعاً لأميركا و«إسرائيل» وعربان النفط والعار، فحسمت روسيا موقفها دعماً بلا حدود، حفظاً لمصالحها الأوسطيّة ووجودها في المياه الدافئة المؤامرة كانت تستهدفها بقدر استهدافها سورية ، وعملت إيران على القضيّة السورية، منذ اليوم الأوّل، كقضيّة تمسّها ذاتيّاً وتمسّ حضورها وأمنها ومصالحها ودعمها لمحور المقاومة الممتدّ من إيران إلى جنوب لبنان ففلسطين، وكذلك فعلت باقي الدول والأطراف المؤثّرة في اللعبة الدوليّة والتوازنات الإقليميّة، فكانت سورية ولا تزال وستبقى قلب العالم الجديد الذي يتشكّل وتتّضح صورته ومعالمه ومكوّناته.

سادساً: أفرزت الحرب ـ المؤامرة على سورية العدوّ من الصديق وأسقطت الأقنعة، خاصة العربيّة الخائنة والخانعة والمنخرطة انخراطاً مجرماً في المشروع الأميركيّ ـ الصهيونيّ، وباتت سورية المنتصرة اليوم قادرة على التعامل مع الجهات والأطراف بما تستحقّ، وأملي الشخصيّ أن تقفل سورية أبوابها وأسوارها أمام أيّ تملّك سعوديّ أو قطريّ على أراضيها، وألاّ تستقبل أو ترحّب بأي سعوديّ أو قطريّ، مسؤول أو غير مسؤول، كان له أي دور أو موقف داعم للمؤامرة المجرمة، فلا تطأ قدمه الأرض السوريّة المقدّسة. وأملي كذلك ألاّ تُشرك سورية في عملية إعادة الإعمار أي مال سعوديّ أو قطريّ أو أميركيّ أو فرنسيّ أو بريطانيّ أو تركيّ، بل تمنح الأولويّة المطلقة في الإعمار والاستثمار للروس والإيرانييّن والصينيّين والفنزويلليّين والبرازيلييّن وحتى للكوريّين الشماليّين ولسائر الدول والشعوب الحرّة التي وقفت إلى جانب سورية في محنتها الأليمة.

من وسط الأنقاض والموت والألم تنبعث سورية وطناً منيعاً، بهيّاً، قويّاً، مشرقاً… وستثبت الأيام القريبة مقولة قيلت دوماً عن لبنان ويمكن تجييرها إلى سورية المستقبل: «نيّال من له مرقد عنزة في أرض الشام»، وإن الغد السوريّ المشرق لناظره قريب.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى