إيران… والقضية الفلسطينية بعد الاتفاق النووي
رامز مصطفى
الاتفاق النووي الذي وقعته إيران مع دول المجموعة الدولية 5 + 1 ، شرّع باب التهكنات والتصوّرات والتحليلات حول ماهية الانعكاسات التي سيتركها هذا الاتفاق على مجمل ملفات المنطقة الملتهبة بنيران الإدارة الأميركية التي أشعلتها وحلفاؤها وأدواتها الوظيفية، تحت شعارات سرعان ما سقطت بعد أن بان زيف توظيفها خدمة لمشروع «الشرق الأوسط الجديد»، عبر «الفوضى الخلاقة». ومن بين هذه الملفات، القضية الفلسطينية، والتي هي في الأصل ملتهبة بسبب الصفيح الصهيوني الساخن منذ ما قبل 67 عاماً ، عمر نكبة فلسطين عام 1948.
منذ التوقيع على الاتفاق تتالت المقالات والتحليلات والتساؤلات بشأن انعكاساته على القضية الفلسطينية. وهذا أمر طبيعي على اعتبار أنّ الموضوع الفلسطيني من بين عناوين ملفات المنطقة هو الأبرز، وإنْ كان في هذه المرحلة ليس الأول، وربما يقع في المرتبة الثالثة أو الرابعة، لتحتلّ «داعش» المرتبة الأولى تحت مسمّى «محاربة الإرهاب» الذي أنتجوه منذ عقود بمسمّيات مختلفة، ولا يزالون ينتجونه غبّ طلب مقتضيات مصالحهم.
جملة هذه التحليلات والتساؤلات كانت مزيجاً من التفاؤل والتشاؤم. وفي رأيي أنّ الجميع مُحقّ في ما خلُص إليه على اعتبار أنه انطلق من خلفية مواقفه وخياراته، على اعتبار أنّ أصحاب تلك التحليلات والتساؤلات، كانت تتمحور حول موقف الجمهورية الإسلامية الإيرانية من القضية الفلسطينية بعد توقيعها الاتفاق النووي. وليس من باب كيف سيتعامل المجتمع الدولي مع القضية الفلسطينية بعد الاتفاق النووي.
من أجل الوصول إلى خلاصات حول الموقف الإيراني بعد الاتفاق، والذي تمحور في ثلاثة أشكال من المواقف، أولها محافظتها على دعمها للقضية الفلسطينية ومقاومتها… وثانيها تحوّلها إلى التأييد اللفظي الذي يطبع الكثير من مواقف الدول… وثالثها إدارة ظهرها للقضية مقدّمة أولوياتها الوطنية على ما سواها من قضايا.
صحيح أنّ المواقف تتطوّر بالمعنى الإيجابي أو السلبي ربطاً بمقتضيات العامل الموضوعي المتصل بالدولي والإقليمي، أو الذاتي المتصل بالداخلي أيّ الوطني أو القطري، وعلى خلفية الأحداث وتطوراتها. والحالة الإيرانية في هذا السياق أو المعنى من المؤكد أنها ليست شواذ القاعدة، ولكن لنبني مواقفنا من ثوابت العودة إلى بدايات الجمهورية الإسلامية الإيرانية بعد انتصار الثورة بقيادة الراحل الإمام الخميني رحمه الله. حيث المواقف التي خطتها إيران في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية والصراع مع الكيان الصهيوني… من إغلاق السفارة «الإسرائيلية» وطرد السفير في طهران، وفتح سفارة لفلسطين مكانها، ومن ثم استقبال الراحل عرفات من قبل الإمام الخميني، الذي أطلق أولاً شعار اليوم طهران وغداً فلسطين ، وثانياً إطلاق ندائه من أجل اعتبار يوم الجمعة الأخير من شهر رمضان يوماً عالمياً للقدس، قد شكلت المقدّمات لنتائج المسار السياسي الطويل من الدعم والاحتضان والتأييد لفلسطين ومقاومتها الذي سلكته إيران، مع ما يعنيه ذلك من مخاطر وتحديات بسبب تلك المواقف، وحرب الخليج الأولى التي شُنّت على إيران عام 1980 من قبل العراق، ولمدة ثماني سنوات، أتت في سياق الردّ على مواقف وتوجهات الجمهورية الإسلامية الإيرانية الداعمة لقضايا الأمة العربية والإسلامية.
ومن دون الاسترسال في شرح تلك المواقف، لنطرح سؤالاً مشروعاً على أنفسنا والآخرين، ما الذي يُجبر إيران على اتخاذ هكذا مواقف، وهي تُدرك وتعي أنّ هناك ثمناً ستدفعه عاجلاً أو آجلاً بسبب مواقفها؟ من المؤكد ليس هناك ما يجبرها على ذلك، سوى قيم الشرع والدين والأخلاق النبيلة للثورة التي قادها الإمام الراحل الخميني الذي وصف بدقة أميركا على أنها الشيطان الأكبر، والإيمان المطلق بأنّ مظلومية الشعوب لا تتجزأ، وفوق كلّ ذلك هو أنّ قضية فلسطين، هي قضية الله عز وجل، وفيها تتجسّد قضية كلّ المستضعفين في العالم الذي يتحكم فيه الاستكبار الأميركي وغدته السرطانية «إسرائيل».
ويوم اتخذت إيران قرارها الاستراتيجي في ضرورة امتلاكها للتكنولوجيا النووية، وكسر احتكارها من قبل الدول النافذة في العالم دون سواها. كانت الجمهورية الإسلامية تضع نصب أعينها، وتتحضّر لحرب من نوع جديد، قائمة على تجويع الشعب الإيراني، وفرض الحصار والعقوبات بأنواعها وأشكالها عليها. تلك الحرب المتلازمة مع حرب أمنية حامية الوطيس تتكامل وتتعاون فيها أجهزة دولية وإقليمية من أجل تجميع المعلومات عنها، واغتيال علمائها، ولربما لو تمكنوا أن يدمّروا مفاعلاتها فما تأخروا أو تردّدوا. وإيران التي خبرت عن كثب أنّ المطلوب ليس المعلن، بل أن تغادر إيران مواقفها وخياراتها السياسية بما يتعلق في وقف دعمها لقوى المقاومة في المنطقة، وتخليها عن تبني القضية الفلسطينية، وبالتالي التخلي عن شعاراتها «الموت لأميركا.. والموت لإسرائيل»، بما يقود إلى نقاشات معمّقة تؤدّي إلى اعتراف إيراني بالكيان الصهيوني، وجميعاً قرأ أو سمع أنّ نتنياهو وحتى يوافق على الاتفاق النووي، اشترط على الإدارة الأميركية أن يتضمّن هذا الاتفاق، اعترافاً إيرانياً صريحاً بـ«إسرائيل»، الأمر الذي رفضته إيران بقوة . وهنا كان بإمكان القيادة الإيرانية وعلى رأسها مرشد الثورة وقائدها السيد علي الخامنئي، أن تختصر الطريق وتوفر على نفسها الانخراط في صراع عنيد مع الأطراف الدولية ومجلس الأمن حول البرنامج النووي، وذهبت نحو الاستجابة لمطالب الإدارة الأميركية، أو على الأقلّ الدخول معها في شراكة إقليمية حول العديد من الملفات في مقدمتها قضية فلسطين، وهي المتهمة بدعم ما يُسمّونه «الإرهاب الفلسطيني» في قطاع غزة، حيث طوّرت من قدرات المقاومة وإمكانياتها، الأمر الذي مكن المقاومة من إلحاق الهزيمة بـ«إسرائيل» في ثلاثة حروب.
صحيح أنّ الاتفاق النووي سيرسم أفقاً جديدة من العلاقات والتعاون الجديد بين إيران ودول العالم بما فيها دول الإقليم، حول ملفات المنطقة، وهذا من شأنه جعل إيران أكثر دقة في ترتيب أولوياتها، ولكن الصحيح أيضاً أنّ إيران لا يمكنها أن تتخلى عن التزاماتها وخياراتها السياسية، وبالتالي هي ستجهد في المرحلة المقبلة في العمل على مصالح حلفائها وحقوقهم، وفي مقدّمتهم القضية الفلسطينية. ويوم أطلق الإمام السيد علي الخامنئي في خطوة تطمين لأطراف المجموعة الدولية في مفاوضات الملف النووي الإيراني، حين قال:»إنّ الشرع والدين يُحرّم علينا إقتناء السلاح النووي»، فما ينطبق هناك، ينطبق على القضية الفلسطينية حيث «الشرع والدين يُحرّم على الإيرانيين التخلي عن وقف الله في الأرض، فلسطين وقدسها».
وليس من قبيل من يُمني نفسه القول، إنّ إيران وقيادتها وشعبها متمسّكون بالقضية الفلسطينية ومقاومتها وشعبها. فمن لا يُدرك الأهمية البالغة للفتاوى التي تصدرها المراجع الدينية في إيران حول فلسطين والقدس والجهاد، عليه أن يعلم أنّ هذه الفتاوى تصبح جزءاً من عقيدة وثقافة الإيرانيين إذا جاز التعبير، فكيف إذا كانت صادرة عن مرشد الثورة الإمام السيد علي الخامنئي، ومن قبله عن الإمام الخميني.
ومن تسنّى له زيارة إيران والتجوّل في مدنها سيجد أنّ الشعارات المرفوعة على الجسور، وواجهات المباني والمراكز والمرافق الأساسية في أغلبها تتمحور حول فلسطين وشعبها المظلوم، وقدسها ومسجدها الأقصى الذبيح على يد الصهاينة، وعن الجهاد والمقاومة في سبيلها. وهذه تعبئة وثقافة حفرت عميقاً في الوعي الجمعي للشعب الإيراني الصديق والشقيق في الالتفاف حول القضية الفلسطينية واستمرار دعمها.
ولكن نعم لن تكون إيران ولا سواها بملكيين أكثر من الملك، ولن تكون إيران أو سواها البُدلاء عن الفصائل الفلسطينية بما فيها السلطة والمنظمة، ولن يكون الشعب الإيراني بديلاً عن شعبنا الفلسطيني في نضاله وكفاحه في سبيل قضيته وعناوينها الوطنية. فلطالما كان ولا يزال الانقسام الفلسطيني المقيت سيد المشهد في الساحة الفلسطينية، حيث التناحر بين فصائلها وتحديداً بين حماس وفتح، وتقديم الخاص على العام الوطني، سيبقى عاملاً لنفور الآخرين والانفضاض من حولنا، على عكس مشهد الوحدة الجامع لهم حول قضيتنا. ولطالما بقي خيار النافذين في الساحة الفلسطينية المفاوضات ثم المفاوضات مع العدو، فإنّ ذلك من شأنه أن يُصيب جماهير أمتنا العربية والإسلامية بمزيدٍ من اليأس وخيبة الأمل، كما هي الحال عندما وقُع على «اتفاقات أوسلو» عام 1993.
وأختم لأسأل وببراءة: ماذا لو أرادت إيران أو سواها «طبعاً من خارج دول بعينها»، أن يكون لها رأيها في ما يدور على الساحة الفلسطينية، وتبدي رأيها بصراحة ووضوح حول السياق الطويل من الإخفاقات السياسية، التي ألحقت أفدح الضرر بالقضية وعناوينها الوطنية منذ «أوسلو» حتى الآن؟ بالتأكيد ستقام الدنيا ولا تقعد بسبب ذلك، وعلى الفور يُستحضر «القرار الوطني الفلسطيني المستقلّ».