المتنبي الذي ما زال يشغلنا!
ماجد صالح السامرائي
قالت له: هل جرّبْتَ أن تتحرى نقاط الفرق والاختلاف في علاقة الاعجاب بشاعر عند امرأة منها عند رجل؟
ولم تترك له فرصة التفكير بالجواب، فأضافت تقول: سأحدّثك عن علاقتي، أنا التي أدعوها «علاقة عشق» للمتنبي. وعشقي هذا ليس عشق مراهقة، كما يحدث عادة عند النساء مع الشعراء، إنما هو عشق إحساس بوجود شعريّ، وجدتُ الشاعر فيه يَعْبُرُ إلى ذاتي ليعبّر عنها، أنا التي أعيش ما أدعوه «غربة الوجود». لقد علمني «شاعري ـ عشيقي» هذا، ما معنى التجربة حين نعيشها، فتسمو بنا، ونتوسع بآفاقها بديل أن نختزلها بكلمات. كيف نعيش التجربة إحساساً، وكيف نعبّر عنها مشاعرَ وأحاسيس؟ وكيف يمكن أن يكون الإنسان بها «ذاتاً» هي القرين لكون عجائبي: تتدافع فيه الرؤى، وتتنامى، وتصطخب داخلياً من دون ضجيج.
فقال لها: إن ما تقولين وفيه تتساءلين لا يحفّزني على التفكير بجواب، بقدر ما يُكثّف الحياة أمامي، ويدعوني للاصغاء إليكِ أكثر.
قالت: ما جذبني إليه، وأنا أقرؤه، أنّني وجدتُ فيه شاعراً معنيّاً بالحاضر الذي عاشه أكثر من التفاته إلى الماضي الذي كان له، هو نفسه، في ما فات من أيام. ولذلك فهو حتى حين رَثى ما/ ومن رثاه، كان رثاؤه للحاضر والمستقبل أكثر منه للماضي. وإذ تمثّل شيئاً، أو أمراً، من ذلك الماضي تمثل الوجه الذي يعكس حالته، فإذا «المُشبَّه به» يتداعى إلى «المُشبَّه» مقرِّباً إلينا حالته:
أنا في أمّةٍ تداركها الله
غريبٌ كصالحٍ في ثمودِ
فهو يُقابسُ «المِثالَ» بما له من بُعد وجوديٍّ ودلالة معنى. كما أنه لم يكن مخدوعاً بأوهام المستقبل. وهو بقدر ما كان يُكثّف الحياة أمامي وجدته يُغْنيها بالتفاصيل، محوّلاً إياها إلى مشاعر وأحاسيس إنْ أدركناها وعرفتْ حياتُنا السبيل إليها، عشنا بـ«ذات» قريبة من تطلعاتها.
وأضافت: هناك ما نقرؤه بإدراكٍ حسّي فيجعلنا نتعلّق بالمكان والزمان. وقد يذهب بنا إلى إدراك آخر، فنلغي منزلة نجد أنفسنا فيها لنتمسك بأزمنة أخرى، في منزلة أخرى هي منزلة الذات في علاقتها بالمكان. أما إذا ضاق المكان بنا أو هكذا شعرنا به ، واحتدم صراع الذات مع الزمان والمكان في ما ندعوه: العالم فقد نطلق خطانا لطرقٍ من الحياة لم نألفها، ونواجهها بالتحدي، كما واجهها المتنبي يوم كان وأنّى شئتِ يا طُرُقي فكوني ، فكان متمرّداً، ولم يكن عَدَميّاً.
وتساءلتْ: أتدري ما الذي تعلمته منه؟
وقالت: تعلمتُ منه، أول ما تعلمتُ، التحرر من الخوف فهو لم يكن طيّعاً لحال تجعله يقبل هيمنة سلطان عليه غير سلطان ذاته وتعلمتُ منه أن الحُبّ، إذا ما عاش الإنسان تجربته، مغتنياً بتفاصيل الشعور ومنابع الإحساس، فإنه قد يقع إلى الانتصار مرة، وإلى الخيبة مرّة، وقد يمضي بانكسار في ثالثة، إلا أنه لا يستسلم قياداً لذلك، ولا ينشغل بالرماد عن النار التي تُضيء لذاته المسار إلى أفق آخر. ومن ذلك تعلمتُ كيف نجدّد هذا الحب إذا ما رسمنا له كل يوم صورة جديدة، لا تُغاير الأصل، وإنما تنبع منه! ولأن قلبيَ مطعون بالحزن، وجدته وهو يقول ما في قلبه كمن يقول ما في قلبي. ويكتبه. فإذا ما وجدنا ما قال وكتب مُدركاً به نفسه في عصره، فإن إدراك عصرنا له كان أشمل هل يتضح الإنسان أكثر كلما تقادم الزمن به؟! . لذلك لم أجد من حياة، في غربتي الروحية، تمنحني الإحساس الأصدق بالحياة، إلا في شعره. لقد كان، هو الآخر، يريق وحدته في ما يقول ويكتب، محتضناً كلماته التي «يؤرخ ذاتياً» بها لعصره كما يحتضن مؤرخ أمين وثائق عصور يُؤرخ لها. وهكذا وجدتني أقرؤه في «وحدة» أنشئها بيني وبينه. والفارق بيننا أنني أتجرّد من رغبة الخلود التي لم يتجرّد هو منها. ومع ذلك أجد القول منه يتجدد عندي إيقاعاً روحياً. وحين دعتني الحياة أن أخرج إليها لا بها، كما فعل ، خرجت، مع حرصٍ منّي أن أظل قريبة منه في ما يرى ويقول!
وخلقتْ هذه الغربة عنده ألفةً مع اللغة. فكان يحتفي بها، ويجدها تحتفي بما له من رؤى وهواجس، مع إدراكه أن ناس عصره «ناس صغارٌ» لم يأبه لهم، وإن أفسدوا عليه «لذّة الحياة». وتعلمت منه، أو قُلْ: أخذت عنه الطموح الذي علّمني ألا أتوقف عند لحظة انتصار واحدة فأكتفي بها فهو يوم كان يقول كلمته يسميها بِاسمها، جاعلاً لها مقام الحاضر. أما «الغائب» فله فضاء آخر، والطريق إليه يتصاعد بأحاسيس الشوق لبلوغ المرتجى، فلا يدري أهوَ طويلٌ فعلاً. أم يطولُ إحساساً مبعثه الشوق وحنين اللقاء؟
ومما تعلّمتُ منه. تعلمتُ معنى أن تكون لنا علاقة إيجابية بالزمان، وكيف/ ولماذا ينبغي ألا يكون هذا الزمان واحداً في رؤيا المبدع إن كان معنياً في شأن إبداعه. فكان يحيا ما يمكن أن ندعوه بـ«الإدراك الملموس» للذات التي استعصت على كل إلغاء، أو تحجيم، بل كانت دائمة التأكيد على ما لها من «زمان خاص». ويوم وجد كل شيء في زمنه، الذي أدركه في ما للزمن من نهايات، يناهض الحياة، لم يعد يعنيه أن تستمر الحياة به على النحو الذي تريد وترغب، فجعل من كلمته صانعة حياة لزمن آخر. لم يكن مهماً عنده أن ينتظره.
وتعلّمتُ منه، أو أخذتُ عنه القلق إذ يعلو بنا، ولا ننكسر به قَلَقٌ على قلقٍ كأنّ الريح تحتي . ومن ذلك عرفتُ وتعلمتُ كيف، ولماذا حين يبحث الإنسان عن شيء عليه أن يحتضن هذا «الشيء» برؤيته المستقبل، وإن لم يَحْتَزْه واقعاً. فإذا مرَّ بمنحنيات، وواجه مصاعب، ينبغي ألا تنصهر الروحُ منه طوعاً لها، وإن عانت وجع الانتظار.
كما عرفتُ منه لماذا يشعر الإنسان بالغربة وهو ممتلئ بالحضور زماناً ومكاناً. فهل هو الشكّ بالزمان، وعدم الاطمئنان للمكان، وهو الذي وجد مُقامه فيه «مُقام اغتراب»؟ ما دفعه إلى أن يكون كثير الهجرة دائم الترحال. لا قصداً لمكسب شحّ هنا وتنامى هناك، إنما بحثاً عن مقام لا يجد نفسه معه، وفيه، مثيلاً لـ«مقام المسيح بين اليهود». إذ كانت الرحلة منه إلى «أرض نخلة» موجعة.
وصمتت برهة، لتقول: من هنا وجدته لا «يكسر وحدتي». إنما يُعمّقَ شعوري بهذه الوحدة، فيجعلني أقرب إلى شعره!
ناقد وكاتب عراقي