ملاحمُ تستولدها ذاكرة المكان لا الصدف… من جبل عامل إلى جبل العرب

لؤي توفيق حسن

 

 

«تاريخ كلّ أمة خط متصل، وقد يصعد الخط أو يهبط، وقد يدور حول نفسه أو ينحني ولكنه لا ينقطع»

محمد حسنين هيكل

سلفاً أريد القول بأنني لست من الذين يعتقدون بأن التاريخ يعيد نفسه، هو لا يعيد نفسه ولا بحكم أي ناموس من نواميس الحياة ولا حتى بحكم الصدفة. أجل فالتاريخ لم تصنعه الصدف، وإذا وقعت هذه عرضاً فتكون حتماً من نصيب من يستحقها من المتوثبين لصناعة الأحداث. ترى كم تفاحة سقطت مصادفةً على ملايين الرؤوس، وبقيت على حالها، فيما ألهمت تفاحة واحدة سقطت بالصدفة على رأس نيوتن ليكتشف قوانين الجاذبية. وبهذا المعنى فإنّ الخيط الذي ربط جبل العرب بجبل عامل لم يكن بفعل الصدفة يوم قصد أدهم خنجر دار سلطان الأطرش يحتمي فيها إثر مطاردة الفرنسيين له، بعدما قام مع عُصبةٍ من رفاقه الثوار بمحاولة اغتيال الجنرال غورو في القنيطرة. يومها لم يكن أحدهما يعرف الآخر لكن القاصد يومها كان من جنس المقصود، فسلطان لمن لا يعرف من القُرَّاء كان من الرافضين للاحتلال الفرنسي منذ يومه الأول. حيث توجه مع أنصاره لنجدة يوسف العظمة لكن ما إن وصلته أخبار الهزيمة في ميسلون حتى انكفأ وكان على مسافة غير طويلة من دمشق، وبهذا الصدد يقول في مذكراته: «ما كنا نتوقع أن تتعرض البلاد لكارثة ميسلون. وأن تنهار المقاومة الوطنية بهذه السرعة المذهلة»، وعليه مخطئ من يتصوّر أن ثورة الأطرش الأولى عام 1922 ضد الفرنسيين جاءت بسبب انتهاكهم لحرمة بيته معتقلين الخنجر، ربما كانت هذه هي الشرارة التي فجرت اعتمالات في صدره. ومن المفارقات عن هذا التواصل بين الجبلين أن ملحمتين مدويتين شهدتها بطاحهما وفي شهر آب بالذات. فقبل تسع سنوات كانت معركة وادي الحجير في حرب تموز/آب 2006 فوق جبل عامل. وقبل تسعين سنة على أرض جبل العرب معركة «المزرعة» إبان الثورة السورية الكبرى 1925، ربما هذه الأخيرة قد غابت بين صفحات التاريخ، ولكنها ما زالت حية في قلب الذاكرة العسكرية الفرنسية، يدرسونها في معاهدهم الحربية. والمفارقة أن ما بين الحدثين قواسم مشتركة حتى في الشكل حيث كانت بدايتهما في أواخر شهر تموز، ونهايتهما الحاسمة أوائل شهر آب. لكن وفيما يتعدى الشكل فإن القواسم المشتركة في الجوهر تنحصر في ثلاثة نقاط:

النقطة الأول: أنهما جرتا في ظروف انعدم فيها التكافؤ العسكري مع العدو. والأعداد تنطق بهذا. في وادي الحجير كانت قوام القوات «الإسرائيلية»، فرقة مؤللة من اللواء المدرع الثاني 401، ولواء المشاة الخاص «ناحال»، ولواء المشاة الأول بالإضافة إلى كتيبة «غولاني»، وكتيبة المظليين، وكتيبة أخرى من «جفعاتي»، وكتيبة هندسة، وتعرف هذه المجموعة بـ«الفرقة 162 الفولاذية». والنتيجة أن الفولاذ قد ذاب! أمام حرارة التصميم والإرادة للمقاومين، مع تدمير اللواء المدرع المذكور ثم إنزال خسائر كبيرة في باقي الوحدات ما اضطرها للهرب متقهقرةً. وكل هذا الإنجاز جرى كما نعرف على يد بضع مئات من المقاومين. ولعل وصف أحد كبار الضباط «الإسرائيليين» لمعركة وادي الحجير يختصر الصورة بقوله: «إنها المعركة الكبرى في الحرب الكبرى». أما في «المزرعة» فكانت الحملة مؤلفة من 13000 جندي مزوّدين بأحدث أسلحة زمانهم من دبابات ومدفعية وطيران. وبقيادة الجنرال ميشو أحد ألمع الضباط الفرنسين في الحرب العالمية الأولى. يقابلهما من الثوار 400 فارس وحوالى 2000 من المشاة معظمهم مزودٌ بأسلحة بدائية. والنتيجة إبادة شبه كاملة للحملة المذكورة أذهلت الغرب. وصفها الجنرال هونتيجر في مؤلفه «الكتاب الذهبي لجيوش الشرق من عام 1918 ـ 1936» بـ«محنة المصفحات في 2و3 آب»، فيما قال عنها الجنرال اندريا قائد الجيش الفرنسي في سورية: «المصيبة التي حلت بنا». أما المناضل الكبير عبد الرحمن الشهبندر فيقول: «في المزرعة جرت ملحمة بالسلاح الأبيض لم يجر مثلها في البلاد منذ ذكر الواقدي أخبار الفتوحات العربية»، وأورد في مذكراته بعد تفقده لأرض المعركة: «حاولت أن أحصي عدد الجثث الملقاة فيها فلم أفلح لسعتها وحسبي أن أقول إنني مشيت من عين المزرعة إلى الطريق المعبدة غرباً نحو ساعتين بين الجثث والعتاد الملقى على الأرض فلم أنته منها، ورأيت العديد من السيارات المصفحة محروقة وقد أمالها الثوار على جوانبها أثناء الهجوم بأكتافهم وقتلوا من فيها»، أما الجنرال ميشو فقد قال خلال محاكمته في باريس: «لم يدر في خلدي أن يتمكن مقاتلون عزل من السلاح من الانتصار على فرقة عسكرية خاضت غمار الحرب العالمية.. لم أواجه في حياتي مقاتلاً أعزل تكمن فيه الشجاعة الفائقة مثل مقاتل تلك المعركة».

النقطة الثانية. أن الاشتباك لم يتمّ وفق أسلوب حرب العصابات الكلاسيكية بل إنها مواجهة استمرت أياماً عدة متواصلة. وكانت مباراة في البطولة وفي المهارة في التكتيك القتالي. حيث لجأت المقاومة إلى استدراج العدو بذكاء إلى أفخاخها، فيما قام سلطان في «المزرعة» بدفع مجموعات من المشاة تحت جناح ليل 2-3 آب تسللت إلى مواقع قريبة من مسار الدبابات حتى إذا ما بزغ فجر 3 آب شرع بالفرسان على مهاجمة مجنبات العدو ملتفاً على مؤخرتهم قاطعاً بذلك خطوط الإمداد. فيما قام المشاة بالالتحام مع الدبابات وجهاً لوجه. يقول الجنرال هونتزيغر في كتابه السالف ذكره أن نار الثوار تناولت الدبابات «عن مسافة قريبة ومن زوايا لا يمكن أن تطاولهم رشاشاتها… كانوا يسددون رصاصهم إلى داخلها من فوهات الرماية والمنافذ الأخرى».

النقطة الثالثة. أن هاتين المعركتين لم تكونا حدثين عابرين في الزمان والمكان. بل كانتا جزءاً من حراك عسكري كبير على جغرافيا واسعة، لتترتب عليها نتائج سياسية. وللإشارة فإنه سبقت معركة «المزرعة» معركة «الكفر»، ما أدى إلى انهيار حامية الجبل وانكفاء الباقي منها في قلعة السويداء، ما أدى عملياً إلى تحرير الجبل. وعليه فقد كانت مهمة القوات الفرنسية التي واجهها الثوار في «المزرعة» هي استعادة المنطقة، وفك الحصار عن القوات المحاصرة الأنف ذكرها.

يبدو كأن للأماكن ذاكرتها، فعند بطاح وادي الحجير كانت تلك الملحمة صيف عام 2006، ومن «مؤتمر وادي الحجير» في نيسان من عام 1920، الذي دعا إليه السيد عبد الحسين شرف الدين مؤذناً ببداية النضال ضد الفرنسين، خرج من خرج وعلى رأسهم أدهم خنجر شاهرين السلاح ضد المحتل. كذلك وعلى مقربة من المزرعة استلهمت قرية الثعلة من ذاكرة المكان عبق البطولات فخاض أحفاد سلطان الأطرش قبل أسابيع ملحمة أخرى عند مطار الثعلة، هذه القرية التي باتت على كل لسان وقد ارتسم اسمها على جبين التاريخ بفضل ثبات أهلها واستبسالهم مع إخوانهم من أبناء الجبل الذين تصدوا لجحافل الإرهاب التكفيري. وكما بدأ المشروع الأميركي في «الشرق الأوسط الجديد» يترنح عند وادي الحجير 2006، فإن معركة المزرعة كانت مسماراً في نعش تقسيم سورية، وشقت طريق النضال لسورية الاستقلال، كذلك فإنه ليس من المبالغة القول بأن التاريخ سيسجل أن الانتصار في معركة الثعلة شق الطريق نحو سورية جديدة منتصرة، هذا لمن يعرف بأن دول غرفة «الموك» في الأردن قد رصدت إمكانات ضخمة من رجال وسلاح معولين آمالاً كثيرة على إسقاط السويداء كمفتاح لاجتياح دمشق، ولتنقلب الصورة من بعد بالكامل.

وكما في صيف 2006 كذلك مع تلك الثورة قبل 90 سنة واجهها العديد من المتضررين. حتى إذا ما أراد المندوب السامي الفرنسي ساراي البحث عن تسوية مع الثوار طالبه حاكم دولة سورية آنذاك صبحي بركات بمتابعة القتال «مهما كلف الأمر من ضحايا وخسائر». ومن جهة أخرى رأى بعض المؤرخين أنه كان ممكناً لاستقلال سورية أن لا ينتظر عقدين لو استثمر رجال السياسة الإنجازات العسكرية لثورة الجبل وصمموا على تعميمها بالوتيرة والحدة ذاتيهما. لكن البعض آثر الذهاب في زواريب التسويات الآنية ليصبح سجينها في ما بعد. كذلك كانت الحال مع انتصار صيف 2006 الذي يستوجب حجمه وتأثير ما هو أبعد من «مشروع النقاط السبع» الذي قدمه الرئيس فؤاد السنيورة إلى مؤتمر روما، ليحد من نتائج الانتصار فيما تلقفه الأميركيون ليتأسس عليه القرار 1701. إنها السياسة التي تخذل السلاح. ظاهرة احتلت موقع الصدارة في تاريخنا العربي. كان آخر طبعاتها طعن المقاومة بسبب تدخلها في سورية، فيما يدرك هؤلاء الجاحدون في قرارة أنفسهم، بأنه لولا المقاومة وتدخلها لما بقي شيء من لبنان، ولكانوا منذ زمن بين مشرد أو قابع تحت التراب.

كاتب من لبنان

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى