ليس دفاعاً عن أحد بل دعوة للتفكير
ناصر قنديل
– تمرّ ظواهر في الحياة السياسية تصيب المعايير الأخلاقية والمبدئية للعمل السياسي وتستدعي الرفض المبدئي كمثل العبث بمدة الولاية الدستورية لرئيس الجمهورية، أو ولاية المجلس النيابي، أو سنّ التقاعد لكبار الضباط، أو ارتباط وصول شخص للمسؤولية بصلة القربى التي تجمعه بمن هو أعلى منه وأشدّ تجذراً في المعادلة القائمة، وهذا صحيح في لبنان وغير لبنان بالتأكيد، ومثلها ما تفعله الحروب بالمدنيين وتصيبهم به من خراب وتشرّد ومرض وفقر وجهل، ونشهد النخب الثقافية والإعلامية عموماً مصابة بازدواج المعايير الذي تشكو منه عند السياسيين وخصوصاً عند اللاعبين الكبار وتعتبره سقوطاً أخلاقياً لهم.
– حدث في لبنان أكثر من تمديد لرئيس جمهورية، لكن التمديد للرئيس إميل لحود وحده، ألحق بقرار أممي من مجلس الأمن. واللافت أنّ القرار لم يذكر التمديد في نص القرار، بل ذكر انسحاب الجيش السوري وسحب سلاح المقاومة الذي أسماه بسلاح الميليشيات، والقرار يحمل الرقم 1559. واللافت أنه حتى بين الذين يقولون إنهم لم يؤيدوا التمديد للرئيس الأسبق الراحل إلياس الهراوي، لم يخض أحد منهم معركة جدية لإسقاط التمديد غير مرة واحدة هي التمديد للرئيس لحود. وعموماً كان قادة الحرب على هذا التمديد هم الذين خاضوا حرب التمديد للهراوي وأعادوا الكرة في محاولة التمديد الفاشلة للرئيس ميشال سليمان، ولم يرفّ لهم جفن أنهم كلما تحدّثوا عن حربهم على التمديد للرئيس لحود تذكروا أنها حرب لحماية الدستور.
– حدث في العالم أن وصل إلى رئاسة الدولة ابن رئيس سابق، وكانت المصادفة أنّ الرئيس بشار الأسد وصل في ذات العام الذي وصل فيه جورج بوش الابن للرئاسة في العام 2000، وعلى رغم الفوارق في الظروف والشكل التي تسمح بمنح وصول بوش الابن صفة الانتخاب، وهو بالمناسبة لمن نسي قد فاز بفارق صوت واحد مطعون به أمام المحكمة العليا، إلا أنّ الأصل ليس هنا بالمعنى الفكري والأخلاقي، أيّ كيفية الوصول، بل في أصل التأهيل، فالكلّ يعلم أن ليس لدى بوش الابن كما قالت كلّ الوقائع، سوى أنه ابن الشخصية المخضرمة التي تناوبت على رئاسة الاستخبارات ونيابة الرئاسة وبعدها الرئاسة، بينما تقول الوقائع إنّ الرئيس بشار الأسد يملك من المقوّمات القيادية ما جعل خصومه يصفونه في الإعلام الغربي، بأغلى رجل وأذكى رجل وأقوى رجل، لمقدرته على الصمود أمام مئة مليار دولار رصدت لإسقاطه، وتمكنه من هزيمة عقول الاستخبارات الغربية مجتمعة ومعها الحواسيب المسخرة لخدمتها، وفوق ذلك صموده أمام جيوش عشرات الدول التي تقف وراء الحرب عليه ومعها كلّ تنظيمات الإرهاب العالمي، وعلى رغم ذلك لم يلتفت كاتب أو ناقد إلى دور التوريث في حالة بوش الابن كدلالة على هبوط مستوى السياسة، بينما لم يجر التعامل مع الرئيس الأسد إلا بمنظار أنه نتاج التوريث السياسي، في منطقة ليس فيها إلا التوريث عبر أنظمة عائلية لإمارات وممالك يتعيّش كثير من المثقفين والسياسيين على أموالها، ويتحدّثون على مثالب التوريث بكلّ وقاحة وهم يقصدون سورية حصراً. ولا يضير أن يكون أبرز المتحدثين في لبنان زعيمين وصلا إلى الزعامة بقوة وراثة دماء والديهما، وهكذا ينال العميد شامل روكز اليوم كمرشح لقيادة الجيش من الشظايا بقوة الحديث عن القربى التي تربطه بالعماد ميشال عون، مع استدراك مهين لأصحابه، بقولهم مع احترامنا لكفاءة ومناقبية العميد روكز وأهليته للمنصب، لتصير القربى المفترض أن تكون مرفوضة حصراً كطريق للوصول، فتتحوّل سبباً لعقوبة، والمتحدثون ينتمون طبعاً إلى من أتمّوا إعداد نسائهم لتولي رئاسة لجان مهرجانات تتوزع الجغرافيا اللبنانية وأعدّوا أولادهم لتبوؤ مراكز الزعامة تحت نظرهم وهم على قيد الحياة.
– الحرب دائماً مليئة بالآلام، والحروب كلها قذرة، خصوصاً عندما تدور بين الناس وبهم وحول أرزاقهم، وتدان كلّ أشكال التهاون في وقوع أضرار الحروب على المدنيين بلا استثناء، وفي مقدمها الحرب في سورية، ولكن عندما ننظر بذات المقياس لحربي اليمن وسورية، يمكن أن نقول بفقدان توازن القدرة النارية بين الجيش السوري ومناوئيه، مثل الجيش السعودي ومناوئيه، مع فارق أنّ حدود سورية البرية مفتوحة للمناوئين للدولة والجيش ومن خلفها دول لا تستحي بإعلان دعمها وتورّطها في الحرب ضدّ سورية، وهي دول قادرة مثل تركيا والأردن وخلفه السعودية و»إسرائيل»، بينما كل حدود اليمن براً وبحراً وجواً سعودية، ويمكن القبول بالقول إن في البلدين تجاوزاً تقع المواجهة بين قوى محلية ورئيس ونظام حكم شرعي، مع فارق بقاء الكتلة الرئيسية من الجيش والجغرافيا والسكان مع الشرعية في سورية وفقدان الشرعية اليمنية لكلّ هذه المقدرات والعناوين، وصولاً إلى عجز الرئيس الشرعي من البقاء على جزء من أرضه على رغم مرور ستة شهور على الحرب التي تشنها السعودية لحسابه، وفارق إضافي هو أنّ التدخل العسكري المباشر الخارجي يجري في سورية ضدّ الشرعية وفي اليمن يجري لحسابها، رجالاً ومالاً وسلاحاً، ويسقط الناس ضحايا في سورية واليمن، لكن ببساطة تتفتح العيون وتتحدث فقط عن سورية، فيوصف النظام بالقاتل والمجرم، وفي اليمن يجري تحميل مناوئي النظام مسؤولية الضحايا والعذابات بين المدنيين، ولا يرفّ لأحد جفن، ولا تلحق بالنظام إلا صفة واحدة هي الشرعي!
– مدّد المجلس النيابي اللبناني لنفسه مرات عدة، ووقف الكثيرون ينالون من هذا التمديد كخرق لصحة التمثيل، وانتهاك للدستور، لكن قوة نيابية وحيدة وقفت ضدّ هذا التمديد وسلكت طريق الطعن الدستوري به، وعلى رغم عدم خوضها حرباً لإسقاط هذا التمديد بقيت الوحيدة التي سجلت موقفاً واضحاً، وبدلاً من أن تتمّ إدانة الذين أوصلوا الأمور إلى التمديد ضمن خطة جعل الانتخابات مستحيلة، يتفرّغ البعض للتساؤل لماذا لم يستقل نواب الكتلة المعترضة إذا كانوا جديين باعتراضهم!
– عدل في لبنان مرات عدة سن تقاعد الضباط الكبار، سواء بقوانين، أو بعدم التسريح مع نهاية الولاية، وما يعرف بالتمديد، وسرّح ضباط بقوة تقاعدهم المبكر مع تعيين من هم أقلّ منهم في الأقدمية قادة عليهم وترتبت جراء ذلك أكلاف عالية على الخزينة، ولمرة واحدة يطرح حلّ قانوني يشمل كلّ ضباط الجيش اللبناني برفع سن التقاعد لثلاث سنوات فينهي الأزمة بحلّ أكثر عمومية وأقلّ تخصيصاً، فتنفتح عليه من مواقع مختلفة نيران ضارية لإسقاطه، من دون أن ينال التمديد التخصيصي الذي تمّ التوقيع عليه لقائد الجيش ورئيس الأركان والأمين العام لمجلس الدفاع أي انتقاد، فيصير الاعتراض مقروءاً بين السطور، كأنّ القصد ما يعنيه المشروع من إفساح في المجال لوصول العميد شامل روكز لقيادة الجيش، لأنّ هذا القانون يؤجل تسريحه لسنوات مقبلة لن يكون ثمة فرصة جدية خلالها للحؤول بينه وبين تولي قيادة الجيش.
– ازدواجية المعايير، نقيض النزاهة الفكرية، والشجاعة الأدبية، وهما ميزتان مطلوبتان لمتعاطي الشأن العام بذات درجة النزاهة المالية والشجاعة الجسدية.