من كتاب د. عادل سماره «ظلال يهو/صهيو/تروتسكية في المحافظية الجديدة» التروتسكية صراع إيديولوجي مع أخواتها في العقيدة الأم وانحياز للثورة المضادة (5)

تنشر «البناء» على حلقات أجزاء من كتاب د. عادل سماره «ظلال يهو/صهيو/تروتسكية في المحافظية الجديدة». والكتاب يتناول عناوين عدّة، أولاً: «نشوء المحافظية الجديدة ـ تواشج ليبرالي يهودي تروتسكي»، ثانياً: «التروتسكية وتفكّك الاتحاد السوفييتي»، ثالثاً: «نتنياهو نموذج لسياسة محافظة جديدة»، رابعاً: «التروتسكيون والربيع العربي»، خامساً: «التروتسكية وأميركا الجنوبية»، وسادساً: «الهند بين الغوارية الماوية، تواطؤ التروتسكية والإقرار الأوروبي بفساد سلطتها»، إضافةً إلى تمهيد ومقدمة.

وإذ تقوم «البناء» بنشر أجزاء من الكتاب، فلأنها تريد أن تساهم في تعميم حقيقة الارتباط القائم بين اليهودية العالمية وبين الإمبريالية الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية. إضافةً إلى إظهار ناحية أساسية في هذا الارتباط وهو قيامه على قاعدة الرأسمال المعولم الذي وضع أسسه أمشيل ماير روتشيلد في الثلث الأول من القرن الثامن عشر، والذي جرى تأسيسه في العالم الجديد، أميركا، عبر مجمعات مالية ضخمة مثل مجموعة كوهين لوب ومجموعة م.م. واربورغ ومجموعات مورغان وسواها، وقبل ذلك بالسيطرة الروتشلدية التامة على مصارف أوروبا واستطراداً أميركا. يظهر الكاتب حقيقة الثالوث الجهنمي اليهودية ـ الصهيونية ـ التروتسكية، الثالوث الذي يتحكم بكثير من مفاصل السياسة الدولية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

في هذا القسم الأخير من كتاب الدكتور عادل سماره «ظلال يهو/صهيو/تروتسكية في المحافظية الجديدة» سنعرض الجذر العقائدي الذي يغذي الصراع القائم بين واحدة من أهم الاجتهادات الماركسية ونعني بها التروتسكية، مع أخواتها المنتشرات على مساحة العالم.

إضافةً إلى الإشارة لكيفية انعكاس هذا الصراع في بوليفية وفنزويلا وسورية. كما سنعرض موقف التروتسكية في أميركا الجنوبية وخصوصاً في التجربة الكوبية. وكل ذلك وسط سؤال يطرح نفسه هل التمايز أو الاختلاف في الخيارات العقائدية والسياسية بين التروتسكية وبقية المذاهب الماركسية ناتجان من دينامية عقائدية مستقلة استولدت كل هذا التنوّع، أم أن هذا التنوع العقائدي وانشطاراته كانت ترجمة لاختلاف المجتمعات في أبعادها الثقافية والاقتصادية والتاريخية.

إنها الإشكالية التي تستحق النقاش والتحليل، فإنه بدلاً من الغوص في أغوار الإيديولوجية وكأنها المعطى الأزلي الثابت والمرجع الأخير، وذلك لاستخراج المبررات، لماذا لا يتم الغوض في دراسة طبيعة كل مجتمع معني، وتاريخانية تجربته من الزاويتين القومية والاجتماعية.

انطلاقاً من كل ذلك تنشر البناء هذا الجزء من الدراسة آملةً ان تكون بداية تفاعل فكري يخرج وضعنا السياسي والاجتماعي من هذا التشلّع المدمر عبر منهجية مختلفة تقوم على قاعدة أن تجربة المجتمع ومصالحه المادية والنفسية هي المصدر والغاية والمعيار للإيديولوجية.

التروتسكيون في خدمة الثورة المضادة في بوليفيا وفنزويلا

لم يختلف موقف هذه المدرسة في أميركا الجنوبية عنه في الوطن العربي أو بلدان أخرى في العالم.

في بوليفيا الحالية لقد حاولت الأوساط اليمينية والمتطرفة والتروتسكيون، وبدعم إمبريالي أميركي، استخدام الحركة العمالية البوليفية، المشهورة تاريخياً بنضالاتها النقابية ضد الأنظمة الدكتاتورية والدموية في بوليفيا، من أجل إسقاط حكومة الثورة السلمية. وقد خلقت تحركاتها بلبلة واسعة في أوساط المثقفين والمناضلين خارج بوليفيا والقارة، لأن الصورة في وسائط الإعلام الموجه، والمسيطر عليه إمبريالياً صهيونياً، توحي بأن العمال وهم على كل حال ليسوا ثوريين ولا أممين دائماً في تناقض مع الثورة التي تدافع عن مصالحهم قبل غيرهم.

وبمحض الصدفة، و بمجرد أن طردت الحكومة البوليفية الوكالة الأميركية للتنمية الاقتصادية تم تحريك «المركزية العمالية البوليفية» COB التي لم تعد تشبه نفسها التاريخية في شيء، وقامت بإضرابات متتالية ضد الحكومة، ولجأت في بعض المناسبات، إلى أعمال العنف والقتل وتدمير منشآت مدنية، وقطع الطرق ومواجهات مع الشرطة! فقد وقعت تحت تأثير من يدّعون أنهم إيديولوجيو «الثورة الدائمة» الذين يتزعمهم خايمي صولاريس Jaime Solares وهو ينتمي إلى تشكيلات شبه عسكرية، وجلاد أثناء عهد دكتاتورية الرئيس السابق، لويس غارسيا ميسا Luis Garc a Mesa !

كتب الصحافي المعروف تيري ميسان في موقعه Vlotaire NETWORK 23 شباط 2014، مقالة بعنوان «أمام أعيننا: هل بوسع واشنطن إسقاط ثلاث حكومات في وقت واحد؟»» ورد فيها على دور التروتسك في الثورة المضادة وبخاصة ضد الدول ذات الأنظمة الثورية.

«وفي النهاية فإن ريكاردو زونيجا، وهو حفيد يحمل الاسم نفسه كاسم حركي لرئيس الحزب الوطني في هندوراس وهو الذي كان قد دبَّر انقلابَيْ 1965 و1972 لمصلحة الجنرال لوبيز أريلانو. فقد أدار محطة أل سي.آي إيه في هافانا حيث جند ومول عملاء حيث قام بتجنيد وتمويل عملاء لتشكيل معارضة لفيدل كاسترو. وقد حرَّك اليسار التروتسكي المتطرف الشباب التروتسكيين في فنزويلا من أبناء العائلات الغنية محاطين بحماية زمر مرتزقة في فنزويللا لخلع الرئيس نيقولاس مادورو بتهمة أنه «ستاليني. ولسوء الحظ، فإن استيقاف السيارات في فنزويلا قد أظهر تلكم الضحيتين، أحدهما معارض والآخر مؤيد للحكومة قد قُتلا بنفس السلاح وهذا يؤكد وجود قوى سرية مدربة ومتخصصة لإشعال الاقتتال الداخلي كما حصل في سورية وأوكرانيا.

الماوية شكل من القومية الجذرية

إن المشكلة مع الماويين في كل من تحليلهم لطبيعة الرأسمالية المعولمة وتطابقها مع وكالة أداة التغيير. إنها ميل سياسي يلتزم بالكفاح المسلح لإسقاط الدولة المستقلة وليست شبه إقطاعية والديمقراطية.

ما من شك في الطبيعة المحدودة للبرجوازية الديمقراطية ولكن لنفيها بما هي دولة دمية في يد راس المال الأجنبي كما يعمل الماويون، هو خطيئة قاتلة حيث أن ملايين الناس في الهند لا يزال لديهم إيمان هائل في الديمقراطية على رغم مضار الرأسمالية. إن التحليل القومي لرأس المال المعولم ليس حصراً على الماويين. إن جميع اليسار الهندي قد رد ضد «العولمة» عبر خطاب بلاغي بضرورة تقوية الاقتصاد الهندي. فكما وصفه تحليل ثوري أخيراً: «هذا ليس حصراً على الماويين بل شارك فيه قوميون مرنون ومختلف أطياف اليسار في الهند وهو نابع من عدم القدرة على تخيل سياسات هي ضد الرأسمالية وضد القومية في ما هو أكثر من مجرد البلاغة. إن الخطاب المضاد للعولمة والذي يعارض إعادة اندماج الهند في الاقتصاد العالمي، يشكل إجماع الحد الأدنى والقاسم المشترك لليسار في الهند. فاليسار الهندي يرى أو يصنع السياسات الثورية في سياق الانعزالية القومية، وعليه، فإنه يقزم كل مشروع سياسي من أجل الدفاع عن السيادة القومية في مواجهة أو ضد قوى الراسمالية العالمية 13 .

إن طبيعة الرأسمالية المعولمة على رغم أنها تبدو شكلياً كأنها ببساطة مجرد مجموعات منفصلة لاقتصادات قومية، فإن أداءها الفعلي ومبدأ عملها هو بالعكس تماماً. فكما كتب باختصار جايروس باناجي: «إن الدمج العضوي بين رؤوس الأموال عبر الحدود القومية هو تماماً ما يوضح ما هي الرأسمالية، فلا بد للمرء من أن يرى الأخيرة كتجميع لاقتصادات قومية 14 . وهذا يعني بأن الأممية ليست خياراً، ولكنها عامل مركزي في كل من تحليل ومن ثم مواجهة راس المال المعولم. هناك في الحقيقة سبباً في أن الماويين يجادلون لمصلحة نظرية مراحل الثورة، وذلك لأنهم يرون الثورة متمترسة متوقفة في نقطة الثورة البرجوازية، التي بعد تحقيقها يمكنهم بناء اقتصاد قومي قوي. ففي إحدى أولى تصريحاته العامة حينما أمسك بالسلطة قال القائد الماوتسي براشندا من دون تردد بأن العولمة لا يمكن تجنبها بأن هدف حزبه هو تحويل نيبال إلى «سويسرا آسيا» وتشجيع السياحة. وهو نفس ما قاله الماويون الهنود الذين يديرون مناطق مناجم غنية بأنهم ليسوا ضد شركات المناجم ولكنهم ببساطة يريدون سلوك أسلوب أكثر عدالة ومساواة تجاه الناس.

تعقيب: ربما لا يوافق على تحليل الكاتبة طالب في السنة الأولى بكلية الاقتصاد. فهل يمكن لنيبال أن تقطع تماماً مع السوق العالمية وهي بلد فقير ومستقل حديثاً؟ قد يكون ذلك ممكناً لو كانت الكتلة السوفيياتية قائمة أو الصين غير تحريفية؟ وكيف يمكن للثوار في الهند أن لا يبيعوا نتاج المناجم كي ينفقوا على مناطقهم المحررة إلى أن يقهروا البرجوازية الهندية تماماً؟!

فالماوي تنظيم، بالنتيجة، يتضمن أن الفقراء فقط هم الأكثر ثورية. وهذا يعني من ناحية تطبيقية أن الماويين يستثنون روتينياً العمال المنظمين أي أولئك الذين لديهم أجور أفضل بقليل أو شروط عمل أفضل. من الصعب على الماويين أن يدركوا معنى الأبحاث الجديدة جداً التي تبين بأن معظم الاستثمارات التي يقوم بها الرأسماليون ما وراء البحار هي في البلدان الرأسمالية الصناعية المتقدمة في عالم الشمال إلى أميركا الشمالية واليابان وأوروبا. وبكلمات أخرى، فإن معدل الاستغلال في عالم الشمال هو أعلى منه في منطقة الفلاحين الأصلانيين في أوريسا. وهذا لا ينكر بالطبع الظروف القاسية للفلاحين، ولكن التحليل الماركسي ليس مجرد رياضة مقارنة حول مراتب متعددة من المعاناة بل دليل على إنهائها.

إن نظرية تروتسكي في التطور اللامتكافئ والمشترك، ونظريته في الثورة الدائمة هي الدليل إلى فهم الطبيعة الحالية لرأس المال المعولم وتحدد الأطراف التي تقوم به. إن الفقر والتخلف للاقتصاد، كما يجادل تروتسكي، لا يمكن تقييمه والحكم عليه منفردا بل يجب أن ينظر إليه كجزء من كل. إن الصناعات الأكثر تركزاً في أوروبا، كما كتب تروتسكي عن روسيا، كانت متركزة في المناطق الزراعية الأكثر تخلفاً في أوروبا. قام أخيراً الاشتراكي البريطاني نيل ديفدسن، بتحليل مفصل لهذا الأمر كيف أن التطور اللامتكافئ للنظام الرأسمالي على صعيد عالمي يقود إلى اندماج نادر حيث أن الأشكال المتقدمة والعتيقة تتداخل مع بعضها البعض في المنطقة نفسها. ولنضعها ببساطة، إذا بدا اقتصاد قومي محدد بأنه زراعي غالباً، فذلك لا يعني أنه اقطاعي وبأننا نحتاج إلى وات تايلور كي يقود ما يقود عملية الشحن 15 . وهذا يعني أنه ربما توجد الأشكال الأكثر تخلفاً لدى تجمعات أو طوائف عنيفة والتي تبدو إقطاعية إلى جانب معامل تذويب الألمنيوم الأكثر تعقيداً وتطوراً. وفي الحقيقة، فإنه في حالة الهند، فإن مالك المعمل في الغالب هو زعيم الطائفة التي تمارس العنف. فرأس المال في غاية السعادة بأن يسمح للأشكال ما قبل الرأسمالية بأن تعيش إلى جانبها طالما أنها لا تعيق أو بوسعها مساعدة اندفاعها نحو الربح. ولكن دعنا نقول، بأنه في حالة نيبال، هناك الملك في السلطة وهناك طبقة عاملة صغيرة. بالنسبة لتروتسكي، فإنه تحت ظروف مقاربة مشابهة، فإن السؤال لا يزال الطبقة العاملة الصغيرة .

بالنسبة له، فإن المشكلة التي واجهت قيصر روسيا- هي المسألة الزراعية لمعظم الفلاحين، هي إسقاط القيصر، طبقة عاملة صغيرة ولكن مهمة. طرح الديمقراطية – كانت لا تزال مشاكل يمكن حلها فقط على يد العمال. لأن العمال يقودون الثورة التي لا تتوقف عند المهام «الديمقراطية» أو «البرجوازية» فقط، وبدلاً من ذلك، يستخدمون قواهم من أجل الإطاحة بالطبقات القديمة الحاكمة، وبهذا يجعلون الثورة اشتراكية ودائمة». وحينما يتم إنجاز ذلك في بلد متخلف، فإن الثورة تصبح دائمة بمعنى آخر، حيث تغدو أممية ومنتشرة، لأن طبقة عاملة صغيرة في شروط اقتصادية متخلفة لا تستطيع بناء مجتمع الوفرة الذي هو الاشتراكية.

والهند اليوم على أية حال، فيها إمكانيات هائلة لدى طبقة عاملة قوية، وحتى الشعب الأصلاني ليس مجرد أناس معزولين ساكني غابات يتمسكون بنمط حياة أبدي، ولكنه شعب يناضل من أجل بقاء مزيج غير عادي من استراتيجيات الحياة التي فيها الزراعة تدعم من أعمال غير زراعية- وهم في العادة عمال يدويون في البناء، وتقطيع وبيع الغابات وفي بعض الأحيان مشاريع عمل صغيرة مثل استئجار سيارات جيب أو إدارة أكشاك لبيع الشاي. وفي حين أن معظم العمال ليسوا منظمين إلى جانب وجود ضغط من النيوليبراليين لمهاجمة القطاع المنظم لا تزال حقيقة بأن عشرات ملايين العمال الهنود لا يزالون في اتحادات العمال وقادرين على الرد. وما على المرء إلا أن يتذكر الإضراب العام الجماهيري في بداية عام 2012 حينما شارك ملايين العمال في إضراب عام وهو الأوسع من نوعه منذ الاستقلال. ليس هناك ما هو بعيد وشبه إقطاعي بل هناك مشاهد في شوارع المراكز المدينية الكبرى حيث يمشي العمال ضد الخصخصة ومن أجل أجور أعلى.

وبالنتيجة، بودي قول شيء ما عن أداء وعن العنف الهائل من النوع الماوي. فإن كل من الماويين والدولة الهندية يدفعوننا للتفكير بأن الصراع الملح جداً في الهند اليوم هو العنف الماوي. وكما هو في الولايات المتحدة، فإن إعلام الشركات الكبرى يميل إلى إنكار الحراك الجماهيري ويركز على قيام شخص بتحطيم شباك ستاربكس ووصفه برجل «شجاع» من بندانا. ولكن هناك تطورات في الهند وعالم الجنوب أكثر تهديداً لصحة الراسمالية والتي تقوم بذكاء بعدم جذب النظر إليها. مثلاً، هناك في الهند نمو سريع لاتحادات عمالية مستقلة مثل مبادرة اتحاد العمال الوطني وكذلك نمو لأشكال النضال الجماهيري والذي تمكن تسميته الغاندية الجديدة، مثل نارمادا ياشاو اندولان. وهذه على رغم محدوديتها، إلا أنها بالتأكيد حركات ومنظمات من عمال عاديين يحاولون تحديد الطريق الأفضل إلى الأمام.

تعقيب: لا يصعب على المرء الاستدلال من حديث الكاتبة إلى أن التروتسكية حركة تُنصِّب نفسها حارسة للمعبد جاعلة من الماركسية اللينينية قوالب جامدة، إنجيلاً يُمنع تطويره والإضافة إليه. ولعل مأزق هذه الحركة كامن في أن الماركسية لم تكن أبداً ولن تكون ماركة مسجلة لماركس نفسه. وإذا كانت إضافة ماركس للتاريخ، إضافته الأساسية هي التقاط وتطوير الصراع الطبقي، وليس فقط الوجود السكوني للطبقات، فإن الصراع الطبقي لم ولن يتخذ منحى واحداً، ولا طريقا خطِّياً.والصراع الطبقي لم ولن يكون محصوراً في الطبقة العاملة، فللفلاحين صراعهم وللطلبة صراعهم وللمرأة صراعها، كل أنماط الصراع مفتوحة في مجتمعات الطبقات والملكية الخاصة وسلطة الدولة/الطبقة. فالصراع هو جدل المجتمع. وكل مجتمع يمارس الصراع طبقاً لظروفه. وكل حزب سياسي يمارس النضال طبقاً لروحه الثورية، لا ينتظر فتوى من شيوخ اليسار.

التروتسكية وأميركا الجنوبية

في شرح التجربة الكوبية في الثورة يعقد ريجيس دوبريه في كتابه ثورة في الثورة مقارنة بين نظرية وتجربة البؤرة التروتسكية الغيفارية وبين نظرية وتجربة الدفاع الذاتي المسلح التروتسكية. وتكمن أهمية المقارنة في كونها مبنية على خبرة مباشرة من جهة وعلى مآل كل مدرسة منهما.

مقاتلو البؤرة الغوار سريون وبعيدون من الأسر التي تعيش في مناطق القتال حماية لتلك الأسر من انتقام الجيش النظامي، جيش السلطة، لأن توفير فرص الانتقام يُرعب الفلاحين وبالتالي يقتلع فرصة ثقة الفلاحين بالغواريين وبالطبع فرصة تحولهم إلى حاضنة للثوار وانضمامهم إليهم. وتبقى الحال هكذا إلى أن يصبح ثوار البؤرة أو غواريوها قادرين على هزيمة الجيش في المنطقة المعطاة مما يؤهلهم لحماية الأسر التي يختلطون بها.

البؤرة بالإسبانبة هي مركز عمليات الغواريين وليست القاعدة بمعنى المكان بل بمعنى الحركة والتنقل وليس الإقامة. كما تعني البؤرة العدد المحدود وليس الكثيف من المقاتلين، وتعني دور الغواريين كقوة قتال مسلح وذلك تلافياً لتوريط كل الجموع في العمل المسلح والمواجهة مع السلطة تلافياً لسقوط كثير من القتلى كما يحصل لدى الدفاع الذاتي المسلح منهج التروتسكيين الذي يؤدي إلى خسائر كبيرة في غير المقاتلين وبالتالي تدهور الروح المعنوية للحاضنة الشعبية.

ويشير دوبريه إلى تجربة الفشل الذريع للدفاع الذاتي المسلح في كولومبيا 1964 وبوليفيا 1965.

تبنى التروتسكيون منهج الدفاع الذاتي المسلح وهو هزيمة في المستوى العسكري، كما يجادل دوبريه، شبيه أو نظير الهزيمة للإصلاح في المستوى السياسي، وهي مدرسة الإصلاح التي أتت التروتسكية لتنعشها.

يقول دوبريه: «… نزعة الدفاع الذاتي موجودة طبيعياً في الطبقة العاملة وهي التي أسماها لينين الاقتصادوية، أي الدفاع البحت بالتريديونيونية عن مصلحة وظيفة العامل في مواجهة تجاوزات الإدارة، وكذلك تعني العفوية، وكما تنكر الاقتصادوية الدور الطليعي للحزب تنكر الدفاع الذاتي الوحدة المسلحة المفصولة عن الجماهير المدنية. وكما تحاول الإصلاحية تشكيل حزب جماهيري من دون انتقاء مناضليه أو تشكيل منظمة منضبطة، فإن الدفاع الذاتي يصبو إلى دمج كل شخص في الكفاح المسلح ليخلق قوة غوارية جماهيرية نساء أطفال وحتى الحيوانات الأهلية في طابور الغوار».

ويواصل

«…الدفاع الذاتي كاستراتيجية تروتسكية، تؤمن بالتمرد لكن تحصره في منطقة وليس كل البلد، ما يسهل قمعه من جيش الدولة البرجوازية… ترفض التروتسكية البرنامج الوطني الديمقراطي، وترى أن لا وجود لبرجوازية وطنية، وتريد القفز للاشتراكية. ما من شخص أبداً رأى تحليلاً محدداً لوضع محدد خُطَّ بقلم أي تروتسكي».

لعل دوبريه في هذا الاستنتاج القطعي قد وصل قمة النقد الساخط على هذا الخط. وأعتقد أن هذا الموقف الحاد مستقى من التجربة الميدانية المُرَّة من مزايدات التروتسكية، والتي تنتهي بالفشل. وإذا كان تقدير دوبريه صحيحاً بأن ما من شخص رأى تحليلاً محدداً لوضع محدد خطه قلم أي تروتسكي، فيمكننا دفع هذا الاستنتاج إلى الأمام لنؤكد أن هذا التيار المرتكز دوماً إلى الجملة الثورية لم يُنجز أي انتصار ولم يُقم أي نظام حرَّر بقعة في الكوكب. بل الأخطر، بأن هذا التيار كثيراً ما تورط في ولمصلحة الثورة المضادة وتراثه كما أشرنا في صفحات سابقة من هذا الكتاب، بدءاً من موقف تروتسكي من الاتحاد السوفياتي وصولاً إلى انضمام قيادات تروتسكية كبيرة في المؤسسة الأميركية الحاكمة وصولاً إلى المحافظين الجدد، ولاحقاً وقوف تروتسكيين عرب في معسكر الثورة المضادة في سورية والعراق ومصر.

لذا، لا غرابة أن يقول دوبريه: «… تتلاقى التروتسكية والإصلاحية في شجب حرب الغوار، في إعاقتها وتخريبها». «لقد فشلت استراتيجية الدفاع الذاتي التي ايدها التروتسكيون، ففي بيرو خلال انتفاضة تباك أمارو 2 حيث سيطر الهنود على الريف وبقوا في الجبال حيث لا جيش نظامياً ولا قوات للصدام مستقلة. غرقوا في نشوة النصر. وحيث سيطر المتمردون على الريف ولكنهم ازدروا الزحف إلى ليما العاصمة وهذا سمح لليما بتجنيد جيش وتحقيق نصر سهل».

يطرح دوبريه ثلاثة من أسس الغوارية البؤرية بقوله: فطي حرب الغوار ثلاث قواعد ذهبية في العلاقة بالناس: حذر دائم، عدم ثقة دائمة وتنقل دائم لحماية النفس والناس». ويضيف: «حرب الغوار هي حرب الشعب لها رسالة دعاية، تهبط من الجبل للقرى، تنخرط في الناس تشرح، توضح، تجند في لقاءات عامة، تعد بالإصلاح الزراعي والأهداف الاجتماعية تهاجم أعداء الفلاحين وتشرح برنامج الثورة».

«حرب الموقع تمكن منها الصينيون نظراً إلى اتساع الصين بعكس صعوبتها في أميركا الجنوبية. ولكن الصينيين الذين تمكنوا من تشغيل النساء والأطفال في الانتاج والتخريب والتجسس والنقل، فصلوهم عن اندماج المقاتلين بينهم بشكل مكشوف… يذوب الغواري بين الناس كالسمك في الماء لأنهم من الشعب نفسه».

يقول دوبريه بأن من أسس البؤرة الغوارية أن لا هدنة مع السلطة البرجوازية.

لعل المقتطف التالي يبين بقوة: «الدقة المتناهية في قيادة حرب الغوار وحماية الجماهير بابتعاد الغواريين منها، واهتمام كاسترو بدقائق الأمور، ما يبين حرصه على المقاتل والناس بعكس تورطات النروتسكيين في إلقاء أكبر عدد ممكن من الجماهير في اشتباك تكون الخسارة فيه هائلة».

«في معركة جويسا كان فيدل يقود 300 مقاتل منهم مئة جددا في مواجهة 5000 جندي مع دبابات وطائرات وخطوط إمداد ومدفعية، لكن كان للغوار فرصة الانسحاب إلى الجبل مستفيدين بمهارة من ميزة التضاريس. كان قرار البؤرة القتال حتى الموت وبأن الحياة ليست أفضل شيء». ص 58 وهذا معناه أن لا هدنة مع السلطة.

كان اهتمام فيدل يصل إلى حد الوسوسة، مثلاً كم طلقة مع الغواري، كم وقت الحمَّام لكل مقاتل، بموقع المقاتلين في الاشتباك، بالتحضير لاكتشاف الألغام، لاختبار الألغام، فحص المناطق كان هذا مستمراً حتى آخر يوم في الثورة في كوبا خوف الاختراق والخيانة كان كل من يغادر المعسكر هو مرشح خائن طوعاً أو كرهاً لذا المعسكر متحرك متنقل وبخاصة في المرحلة الأولى. بينما لدى التروتسكيين المقاتل مختلط علانية بالناس.

لم تلجأ الكاستروية إلى القواعد بالمفهوم الجغرافي الثابت إلا حين اقتراب الثورة من النصر لضمان عدم التضحية بالمقاتلين وبالناس.

«في نهاية عام 1957 أقام تشي قاعدة ثابتة في همبريتو فالي، حيث وضع مستشفى وفرن ومحل تصليح أحذية وماكينة طباعة، حيث طبع أول عدد من الكوبانو ليبري وبدأ التحضير لإقامة محطة كهرباء صغيرة على النهر في الوادي. لكن العدو دمرها وجرح تشي في قدمه ولولا قرب فيدل وطابوره لكانت كارثة». كانت التجربة متسرعة.

في حين تلجأ التروتسكية إلى العدد الجماهيري الكثيف، كما تفعل الحكومات، يقول دوبريه:

«من حيث العدد لم يكن بوسع باتيستا تحريك أكثر من 10 آلاف جندي من جنوده ال 50 ألفاً في الوقت الواحد، أما الغواريون فإن 500 هو عدد لا يقهر» . لذا لا غرابة أن الثورة في كوبا بدأت بـ 12 رجلاً.

ويرى أن مشكلة فنزويللا في أن الغواريين بلا قيادة موحدة في تلك الفترة.

«… كان فيدل قبل أن يضمن تفوق قوة الغوار ضد اللجوء للانقلاب السريع لأن ذلك سيسمح للعسكر بالسيطرة، ولكن حينما قويت الغوار صار يضغط جداً لإسقاط النظام وليس لانقلاب ومن أجل زيادة التناقض بين الضباط غير المفوضين وبين قيادة هافانا العليا».

يرى دوبريه بأنه في البؤرة أو على يدها تتحطم كل من قوة ووطأة وشأفة لوردات الأرض، ومقرضي النقود المرابين ، وجباة الضرائب»

إن رجعة إلى فترة الخمسينات من القرن الماضي تبين لنا أنه كان للثورة الكوبية وللثورة الجزائرية والفيتنامية تأثير ملموس على الانتفاضات الثورية في ستينات القرن نفسه. أي تأثيرها على الثورة الثقافية في الصين الشعبية 1965 والتي ألهمت الثورة الطلابية في أوروبا الغربية والعديد من بلدان العالم عام 1968. في مختلف هذه الثورات، كانت القوى والواقع مختلفة بينما الضرورة الثورية متوفرة. وهو ما كثَّفه ماو تسي تونغ بقوله: «تتألف الماركسية من أف حقيقة ولكنها تنصهر جميعاً في: حق أن تثور.

في هذا السياق يرى روبين بلاكبيرن أن كتاب دوبريه مثل مختلف أدبيات استراتيجيات الغوار ساعد في تطوير نمط جديد من السياسات الثورية لتنتقل من المحيط الى المركز. أي تغذية راجعة بدل كون المركز هو المعلم دائماً. أي إن مساهمة دوبريه هي في نقل وتعميم تراث حرب الغوار في أميركا الجنوبية إلى مختلف بلدان العالم.

حتى اليوم لا تزال أميركا الجنوبية تشكل مثالاً متميزاً فمن ثورات التحرير في فترة سيمون بوليفار في القرن التاسع عشر إلى سيطرة عصابات العسكر إلى سلسلة حرب الغوار إلى الطريق البرلماني الجديد للاشتراكية البطيئة.

هنا نلاحظ درس استفادة الأحزاب من الخلفية الغوارية أو أحزاب هي امتداد للغوار بمعنى البؤرة بمعناها الشعبي الواسع أي وجود حزب وهو شعبي أيضاً ما يمكنه من الفوز الانتخابي.

يورد دوبريه مثالاً لافتاً في ما يخص التضحيات المجانية التي سببها التروتسكيون في كولومبيا: «… فقد 200 ألف فلاح كولمبياني أرواحهم بين أعوام 1948-58 في ثورات شعبية يائسة». بينما ارتكز ماو إلى الحرص الشديد على أرواح الغواريين بالمعادلة التي صاغها»… الإمبريالية نمر من ورق، ولكن أقتل عشرة من الجيش النظامي مقابل أن تفقد غوارياً واحداً.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى