من 4 آب 1982 إلى 14 آب 2006 المقاومة خط متصاعد
معن بشوّر
الذين عاشوا تلك الأيام المجيدة من صمود بيروت بأهلها والمدافعين عنها من لبنانيين وفلسطينيين وجنود سوريين ومتطوعين عرب في مواجهتهم للغزو والحصار «الإسرائيلي» عام 1982، لا ينسوا يوماً متميّزاً من تلك الأيام هو «الرابع من آب» المسمى بمفردات الحرب يومها بمعركة المتحف… وهو المعبر الذي تحوّل في 9 تشرين الثاني 1987 إلى يوم للاحتشاد الوطني والشعبي من شرق العاصمة وغربها ضدّ الحرب الأهلية والتقسيم.
في ذلك اليوم الذي أمطر فيه الغزاة الصهاينة العاصمة اللبنانية بحممهم النارية من الجو والبحر والبر وعلى مدى يوم كامل، لم تتمكن دباباتهم من التقدم أمتاراً قليلة على محور المتحف، وتكبّد الجنود الصهاينة خسائر كبرى، فيما رأى كثيرون في ذلك الصمود الأسطوري للمقاومين تباشير انتصاراتٍ أكبر لمقاومة الغزو والاحتلال بعد أن بدأت تسقط أسطورة الجيش الذي لا يقهر.
وفي الشهر ذاته بعد عشرة أيام وأربع وعشرين عاماً، بات الانتصار الكبير جليّاً للعيان، حيث لم يعد بإمكان المقاومين تحرير الأرض فحسب، كما كانت حالهم في بيروت ومقاومتها وشهدائها ورمزهم الشهيد البطل خالد علوان ورفاقه الشيوعيين والناصريين والقوميين الاجتماعيين، والعروبيين والإسلاميين، ثم تحرير الجبل وصيدا والنبطية وأجزاء من البقاع الغربي، وصولاً إلى الشريط المحتل مع التحرير عام 2000، بل بات أيضاً بإمكان المقاومة أن تنسج معادلة القوة والعزّة للبنان، وهي مقاومة الشعب والجيش والمقاومة، معادلة الردع المتوازن التي رسمتها دماء الشهداء من كل لبنان، شهداء الشعب الموزعين على كل الأرض اللبنانية، وشهداء الجيش المزروعين في العديد من المواقع العسكرية، وشهداء المقاومة الذي سترصّع حكاياتهم من عيتا الشعب وبنت جبيل ومارون الرأس وعيترون إلى الطيبة والعديسة وسهل الخيام والغندورية ووادي الحجير تاريخ لبنان والأمّة مهما حاول المغرضون تشويهها أو تجويف معانيها ودلالاتها.
بين 4 آب 1982 و 14 آب 2006، وهما يومان في تاريخنا، قبلهما وبعدهما، وبين بيروت وجبل عامل، وهما موقعان في جغرافيا الوطن، وداخلهما وخارجهما خط متصاعد عصي على الانكسار مهما أربكوه بالمخططات، وحاولوا الالتفاف عليه بالعصبيات، وسعوا إلى شيطنته بكل وسائل التشويه.
هذا الخط المتصاعد بتاريخيته المتكررة، وجغرافيته الشاملة لكل مناطق الوطن ومكوناته، هو أهم ما ينبغي المحافظة عليه وسط هذه الزلازل التي تعصف بالأمّة والمنطقة منذ سنوات.
وأول الخطوات على طريق الحفاظ على هذا الخط التاريخي تكمن في إدراكنا جميعاً أن هذا الخط هو الضمانة الفعلية لاستقلالنا واستقرارنا، لأمننا وسيادتنا، لمنعتنا وكرامتنا كلما تمسكنا به ازداد وطننا تماسكاً، وكلما ابتعدنا عنه ابتعدت مجتمعاتنا عن خط الأمن والأمان… فحين يقوى خط المقاومة يقوى الجميع، وحين يضعف يضعف الجميع في الوطن، بل يضعف الوطن في الجميع…
وثاني الخطوات بالتأكيد هو أن نقوم جميعاً، مقاومين وسياسيين، قادة ومواطنين، بإجراء المراجعات الضرورية لتحصين التجربة وتطويرها، ولتنقية العلاقات بين مكونات المجتمع والأمّة، ولإرساء قواعد المصالحة الوطنية الشاملة، ولاستعادة الأولويات الحقيقية لا الوهمية أو المفتعلة في جدول أعمالنا جميعاً، والمراجعة المطلوبة ليست تراجعاً، بل هي عكسه تماماً لأنّ التراجع ضعف وانكسار والمراجعة ثقة بالنفس وقوة وارتقاء.
أما الخطوة الثالثة فتكمن في إيماننا جميعاً أن أوطاننا لا تقوم إلاّ بالمشاركة، والمشاركة لا تتم إلاّ بالحوار والاعتراف بحاجة الوطن لكل مكوناته، والحوار لا ينجح إلاّ في أجواء من الحرية والموضوعية والتحرّر من أسر الماضي وصراعاته، ومن نهج إقصاء الآخر وأوهامه.
حين احتل الغزاة الأميركيون العراق عام 2003، وأعلنوا ولادة مشروع الشرق الأوسط الجديد، أعلنا من صنعاء، حيث انعقد المؤتمر القومي العربي آنذاك، وفي عاصمة اليمن العصي على كلّ المشاريع المشبوهة والمخططات الاستعمارية والحروب والاحتراب أن مستقبل أمّتنا رهن بأربع: المقاومة والمراجعة والمصالحة والمشاركة، فأتت الأيام لنا بانتصارات للمقاومة في العراق ولبنان وفلسطين ومعهم سورية الحاضنة، كما أكّدت التطورات المتتالية الحاجة للمراجعة، وأن المراجعة هي طريق المصالحة لأنّ المراجعة إقرار من الجميع بأخطاء ارتكبت، وخطايا وقعت، وأن المراجعة والمصالحة هما الجوادان اللذان يقودان عربة المشاركة الحقيقية التي ما غُيّبت يوماً إلاّ وأصابنا البلاء، وما حضرت مرّة إلاّ وحضر معها الدواء والشفاء.
قد تكون هذه الأفكار مجرد أضغاث أحلام عند كثيرين، ولكن حقائق اليوم وانتصاراته كانت أحلام الأمس، بل ألم يكن انتصارنا على عدو مدجّج بالسلاح المتفوق، والدعم غير المحدود، مجرد حلم تمسّك به البعض يوم تخاذل كثيرون، فظهر حالمو الأمس الأكثر واقعية اليوم.
المنسق العام لتجمع اللجان والروابط الشعبية