تؤوب البنيويّة إلى الفلسفة في خاتمة المطاف وتلاقي العدميّة في فقدان الغاية والمعنى

جورج كعدي

في مؤلّفه المشهور «مدارات حزينة» كتب كلود ليفي ستروسّ: «لقد بدأ العالم قبل الإنسان وسوف ينتهي من دونه، وتلك المؤسِّسات والأعراف التي أمضيت حياتي في إحصائها ومحاولة فهمها ليست سوى نوع من الازدهار العابر…». بهذه العبارة الشجيّة تختتم البنيويّة إذن رحلتها في عالم الإنسان، ويستطيع قارئ كتاب ليفي ـ ستروسّ هذا الوقوع على عبارات كثيرة فيه تعزف على الوتيرة ذاتها والإيقاع الحزين نفسه، ويلاحظ كذلك أنّ المؤلّف لا يألو جهداً لترسيخ الاقتناع بأنّ الثقافة كتنظيم للحياة البشريّة داخل المجتمع تحمل في نهاية الأمر عوامل هدم وتدمير، وبأنّ الحلول التي يقترحها التقدّم العلميّ لمشاكل البشر ليست مثلى، وغير مرضية، وبأن البشريّة مشرفة بالتأكيد على هاوية الفناء الوشيك. فما جدوى الفعل إذا كان الفكر المرشّح لإرشاده وإنارته يكتشف في النهاية «غياب المعنى».

لم تصل البنيويّة إلى هذا الاكتشاف الفلسفيّ إلاّ بعد جهود مضنية ورحلة شاقّة في عالم الثقافة البشريّة، على ما يؤكّد ليفي ـ ستروسّ نفسه، وهنا تأمّلات متمّمة للفكرة إذ يقول: « … ماذا تعلّمت بالفعل من الأساتذة الذين أنصتّ إليهم، ومن الفلاسفة الذين قرأت لهم، ومن المجتمعات التي زرتها، ومن هذا العلم نفسه الذي يستمدّ منه الغرب زهوه وافتخاره؟ ماذا تعلّمت غير شذرات من الدروس، إذا ضُمّ بعضها إلى بعضها الآخر أعادت من جديد ما يقوله تماماً الحكيم البوديّ : إن كل جهد يُبذل لأجل الفهم يحطّم الموضوع الأول للاهتمام ويقودنا إلى موضوع ثان يستلزم بدوره جهداً آخر يلغيه لأجل موضوع ثالث… وهكذا دواليك حتى ننتهي إلى ذاك الحضور الوحيد الخالد حيث ينعدم التمييز بين المعنى وغياب المعنى. وتلك تحديداً نقطة انطلاقنا الأولى. اكتشف البشر هذه الحقيقة منذ ألفين وخمسمئة سنة، ومنذ ذلك الحين، وبعدما طُرقت جميع السبل والمسالك، لم نتوصّل سوى إلى براهين إضافيّة تؤكد النتيجة نفسها التي لطالما حاولنا تجاهلها».

لدى تمعّننا جيّداً في هذا النصّ تنتابنا الحيرة ويساورنا الشكّ حول هويّة كاتبه، فهل نحن حقاً أمام نصّ لذاك العالم البنيويّ المشهور الذي رافقناه طوال الفصول السابقة والذي دافع عن الأنتروبولوجيا البنيويّة بكونها تحمل لواء العلم والمادّية الجديدة؟

يستجير كاتب النص، على ما هو جليّ، بالبوديّة، ويتبنّى صراحة طرائق الخلاص والتحرّر التي تقترحها، مثل التخلّي عن كل هدف ونشاط، والإشادة بالمواقف السلبيّة، ورفض المعنى والدلالة، واعتبار أنّ سائر جهود الإنسان المبذولة لفهم نفسه وعالمه والتطلّع إلى تغييره محكوم عليها بالفشل مسبقاً وهي ضرب من ضروب العبث. تماماً على نحو ما ذكّرنا به هايدغر وإن كان ينفي أيّ علاقة له بالعلم.

انتهت «مدارات حزينة» إلى البوديّة، بعدما أعلنت في البداية أنّها تطلّق الفلسفة وتتبنّى المنهج العلميّ. فهل هو لقاء المصادفة فحسب أم ترانا حيال نتيجة حتميّة؟ هل تعكس الخواطر والاستيهامات القاتمة والعدميّة التي هيمنت على تأمّلات ليفي ـ ستروسّ في نهاية كتابه حالة نفسية ظرفيّة مرّ فيها الكاتب بحسب قوله، أم هي على العكس من ذلك ثابت من ثوابت هذا الفكر الذي بدا في بداياته كأنّه يَعِدْ بالكثير؟ فالخلاصات التي انتهى إليها ليفي ـ ستروسّ في خاتمة كتابه «الإنسان العاري» 1971 لا تختلف كثيراً شكلاً ومضموناً عن تلك التي قرأناها في خاتمة «مدارات حزينة» 1955 ، إذ تردّد النغمة الشجيّة الكئيبة نفسها. جلس المؤلّف بضع لحظات للتأمّل بعدما أشرف على إنهاء رباعيّته عن الفكر الأسطوريّ، وكان مشهد غروب الشمس هو اللوحة الأخيرة التي بقيت مرتسمة في ذهنه بعد رحلته الطويلة في دراسة الأساطير. وهو المشهد نفسه الذي افتتن به في «مدارات حزينة». أضحى هذا المشهد يوحي له فكرة الأفول الوشيك للبشر، بعد غياب الآلهة الذي كان يؤمل منه تمكين البشرية من التحرّر ويفسح لها طريق النعيم والسعادة. بات يرى فيه صورة صادقة التعبير عمّا ستؤول إليه الظواهر والوقائع التي أفنى وقته في محاولة فهمها، كأنّ التلاشي في مشهد الغروب هو تلك الحقيقة الخالدة التي انكشفت فجأة للمؤلف.

أضحى هذا المشهد الشفقيّ، مشهد الغروب، مناسبة دائمة لليفي ـ ستروسّ في «مدارات حزينة» وفي «الإنسان العاري» لأن يقدّم باسم البنيويّة التي تتحوّل إلى فلسفة بعدما أنكرت ذلك سابقاً رؤية عن العالم والإنسان مفعمة بروح التشاؤم والقتامة، يطغى عليها الخوف والقلق من ضآلة الإنسان ولا نهائيّة الكون، أي من الاختلاف الأنطولوجيّ الذي رأينا أنه الفكرة الناظمة التي توجّه فلسفة التفكيك وينعدم فيها كلّ إيمان بالتقدّم أو بالعلم، فسدى تذهب إذن جهود الإنسان ومشاقّّه، وهو محكوم بالعبث في أعماله وآماله وأفراحه لأنّها أضغاث أحلام وخطوط على الرمال لا تلبث أن تندثر في عالم أمسى ذا وجه موحش وقاس. من عالِم وقور ومجدّ، انقلب ليفي ـ ستروسّ إلى شاعر وفنّان تفيض روحه بالمشاعر الجيّاشة والمرهفة التي أطلق لها العنان كي تتفجّر، بعدما طالت فترة الكبت والإبعاد التي فرضها المنهج البنيويّ كشرط من شروط بلوغ الحقيقة العلميّة. أذعن عقل العالِم في النهاية لصوت القلب فبسط يد الهوى عندما أدرك الغروب، وهو الذي أدان قبلاً العواطف والمشاعر واستخفّ بلغة «الذاتيّة»، ذاك «الكنز الفقير» بحسب تعبيره!

انطلقت الأنتروبولوجيا البنيويّة من الإنسان وثقافته، بيد أنّها خلال انشغالها في رحلة البحث عن البنيات اللاشعورية، لم تلبث أن تخلّت عنه وتركته يغيب تدريجيّاً حتى اختفى طيفه نهائيّاً عن الأنظار وانحلّ قوامه وتلاشى في أفق اللاشعور البنيويّ. ذكّرتنا البنيويّة، مثل الفلسفة، بأن الأنساق اللاشعوريّة تهيمن على الإنسان هيمنة مطلقة، وأنّ التناهي هو حقيقة الإنسان الثابتة، وألاّ مفرّ والحال هذه من تهدئة روعنا وتقليص طموحنا إلى المزيد من المعرفة وبالتالي إلى مزيد من التحرّر.

أما السياق الثقافيّ الذي أبدعه الإنسان عبر تاريخه الطويل وحاول فيه ومن خلاله أن يمنح وجوده دلالة ومعنى فقد لحقه التصدّع والتداعي بفعل اكتشاف البنيويّة أنّ للثقافة جذوراً ضاربة في أعماق الطبيعة، وأنّ المعنى الذي يتواصل به البشر ويفهمون به أنفسهم وعالمهم ليس إلاّ ومضات شاردة على سطح النسق اللاشعوريّ، وأنّ الآمال المعقودة على التاريخ وعلى وعي الإنسان وعلى إرادته ليس هناك ما تستند إليه. في اختصار، لم يعد في إمكان الإنسان في العهد البنيويّ أن يطمئنّ إلى أيّ معنى أو قيمة.

بنيويّة متشائمة لعلّها تتجاوب مع حالة الاضطراب والقلق التي تطبع زمننا… يتبع .

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى