عندما تنتهي الادّعاءات

كتب رئيف زريق في صحيفة «هاآرتس» العبرية:

إن قراءة ما كتبه البروفيسور شلوم أفنري على هذه الصفحات عن «اليمين واليسار»، بتاريخ 31 تموز، ردّاً على مقالي الذي نُشر في «هاآرتس» قبل ذلك بأسبوع تحت عنوان «1967 استمرار لـ1948». هذه القراءة دفعتني إلى التفكير أن أفنري لم يقرأ المقال وأنه يجادل في أمور لم تكتب. ليس غريباً أنه لم ينجح في اقتباس حتى جملة واحدة ممّا كتبت.

سأبدأ بعرض الأمور التي كتبها أفنري. بحسب قوله، مقاليي يهاجم اليسار الصهيوني الذي يريد التمييز بين ما حدث في 1948 وبين احتلال 1967. ويزعم، «لا فرق: هنا وهناك الحديث يدور عن حرب كولونيالية إسرائيلية هدفت إلى اقتلاع الشعب العربي الفلسطيني من وطنه». ويستمر أفنري يقول إن موقفي هذا يشبه موقف اليمين الاستيطاني وموقف شارون الذي قال: إن حكم نتساريم كحكم «تل أبيب».

أريد التذكير أنني بدأت المقال بطرح ثلاث نظريات أساسية عن الصهيونية: الاولى، التي تنتشر في أوساط اليمين، تعتبر الحركة الصهيونية حركة قومية بكل معنى الكلمة. الثانية، في أوساط غير صهيونية وتعتبر الحركة الصهيونية مشروع كولونيالي ولا تجد أيّ فرق بين احتلال 1967 و1948. الثالثة، تميّز اليسار الصهيوني وتقول إنه يجب التفريق بين 1948 و1967: ما حدث في 1948 هو جزء من المشروع القومي، أما ما حدث في 1967 فهو تجاوز للحاجات القومية المبررة، وبذلك فهي خطوة كولونيالية. أريد المقارنة بين 1948 و1967 وتقديم نظرية رابعة.

في هذا السياق اقترح نظرية رابعة تدمج بين التاريخين، لكن بشكل يؤكد أنه لا يمكن التمييز بين القومي والكولونيالي. وقد كتبت أن ما كان بين الحربين هو حدث واحد متواصل سواء قصة الانبعاث القومي أو عملية كولونيالية من الاستيطان والاقتلاع. الحقيقة هي أن الدمج بين 1967 و1948 يُمكننا من فهم الصهيونية بشكل أكثر تعقيداً. هكذا كتبت.

أفنري ينسب لي موقفاً أرفضه، كي يكون أسهل عليه الجدال معي. صحيح أنني أعتقد أن هناك تواصلاً بين 1948 و1967، وأن هناك طرقاً متشابهة للاستيطان، وعمليات اقتلاع متشابهة. لكن أساس ادّعائي أنه يصعب فهم الصهيونية في إطار الابيض ـ الاسود، إما الكولونيالية أو القومية. الصهيونية هي الاثنتين معاً. فهي ليست فقط حركة لاجئين ولا حركة مستوطنين مُقتلعين. وهي ليست فقط حركة ضحايا بل هي تسبب الضحايا.

الموقف الذي يؤيده أفنري والذي يقول إن 1948 تعكس القومية، أما 1967 فتعكس الكولونيالية، يمكنه أن يقدم نظرة سياسية براغماتية من أجل حل الصراع. لكنه ليس البديل عن التحليل التاريخي. لقد كان عنصراً كولونيالياً واضحاً في أحداث 1948 وهو يستمر في «إسرائيل» في حدود 1948 كان وما زال قائماً العنصر القومي في المستوطنات التي تم احتلالها في 1967. قد يكون هناك فرق في المستوى، ولكن يوجد كهذين العنصرين في كل مكان. محاولة التمييز ببساطة بين هنا وهناك ستفشل لأنها لا تسمح بفهم القدر الذي تتداخل فيه القومية مع الكولونيالية في الصهيونية.

موقفي لا يعني أنه لا يوجد فرق بين 1948 و1967. لكن هذا لا يعني أيضاً أنه لا استمرارية بين الاثنتين. لا أعرف لماذا لا يفهم أفنري هذا التشابه والاختلاف في الوقت نفسه. لماذا لا يرى أن سياسة الاراضي في «إسرائيل» 1948، لا سيما في النقب والجليل شملت جوانب كولونيالية واضحة، كما أنه في جزء من المستوطنات وراء الخط الاخضر توجد جوانب دينية وقومية. لماذا صعب عليه رؤية الامور بتعقيداتها؟ إذا تحدثنا عن دروس التاريخ، فمن الواضح الآن أن ماكينة السلام لم تنجح في فصل «إسرائيل القومية» 1948 عن «إسرائيل» 1967 المحتلة والمستوطنة. هل هذا صدفي؟ هذا ليس صدفياً. فقط بحسب أفنري هو صدفي.

ويضيف أفنري: «من يزعم أن حرب 1948 ايضاً كانت جزءاً من الخطة الكولونيالية الصهيونية فهو يقول عملياً إن الانتصار الإسرائيلي في 1948 كان انتصاراً كولونيالياً. ومن كان يفترض أن ينتصر هو الطرف العربي».

أفنري يضعني إلى جانب صدام حسين وبشار الاسد. وهو يريد ببساطة وضعي في مكان يكون فيه من السهل عليه أن يجادلني.

أين يظهر هذا في مقالي؟ هل هذا هو الاستنتاج المطلوب؟ هل يمكنني سياسياً وتاريخياً معارضة خطة التقسيم، وفي الوقت نفسه انتقاد الانظمة العربية القمعية؟ لماذا يجب تبنّي هذا الابيض الاسود الذي لا يسمح بوجود موقف ثالث؟ 1948 كانت حرب اليهود ضد البريطانيين، وفي الوقت نفسه الحرب ضد الفلسطينيين. هل يمكن رؤية هاتين الجبهتين بالقدر نفسه؟ قد يعتبر الجمهور اليهودي حرب 1948 حرباً قومية في الوقت الذي كانت فيه حرباً كولونيالية مع الفلسطينيين، وفي الجبهة ضد البريطانيين كانت ضد الكولونيالية. ولم لا؟

الذروة في ردّ أفنري كانت حينماً نسب لي قوله «قومي عنصري عربي مغطى بكلمات تقدمية، ويرى فقط القومية العربية كمشروعة ومن حقها اقامة دولة قومية».

هل شرط إخراجي بحسب أفنري من قائمة «القومية العنصرية العربية» هو اعترافي بحق كل شعب في كل زمان وكل مكان في إقامة دولة خاصة به بغض النظر عن تأثير ذلك في مجموعات أخرى؟ هل شرط ذلك موافقتي كفلسطيني بالتنازل عن وطني من أجل مشروع قومي لشعب آخر؟ هل كل من عارض قرار التقسيم في عام 1948 هو عنصري؟ هل يجب عليّ الموافقة على الاستيطان اليهودي في فلسطين وتأييد حق اليهود في إقامة دولة مع غالبية يهودية في فلسطين حتى لو كان هذا على حساب شعبي من اجل الخروج من قائمة العنصرية القومية؟

هل الجلوس في وطن شعب آخر وتحويله إلى شعب لاجئ وسلب أرضه وبيته وأملاكه وكتبه واحتلال باقي وطنه هل كل ذلك خطوات ليبرالية، ومعارضتها عنصرية؟ أنا أُذكّر أفنري: اعترض على خطة التقسيم كل من حنا أرنديت ومارتن بوبر والشيوعيين العرب إلى أن غير ستالين موقفه فهل كانوا عنصريين؟

وتظهر في مقالي جملة أخرى تتعلق بحرب 1948، كان يفترض أن يتطرّق إليها أفنري: «في حالة الصهيونية، فإن الجغرافيا التي تتحقق فيها القومية هي ايضاً الجغرافيا التي تتحقق فيها الكولونيالية. وبحسب هذا يمكن الادّعاء أن حرب 1948 كانت حرباً كولونيالية، وفي الوقت نفسه حرباً وجودية قومية، وذلك لسبب بسيط أن الصهيونية أنشأت وضعاً يكون فيه الوجود والكولونيالية أمراً واحداً، وليس هناك وجود قومي من غير الكولونيالية والاقتلاع». السؤال هو: ماذا يوجد لأفنري ليقوله عن هذا؟ لماذا لا يمكن أن تكون الحرب قومية وكولونيالية في الوقت نفسه؟

بالنسبة إلى أفنري، فإن البعد القومي للصهيونية والبعد الوجودي لحرب 1948 يوفران الدفاع ضد الكولونيالية والاقتلاع. ويمكن قول العكس تماماً: الصهيونية حركة قومية، يمكن أنه لم يكن في نيتها أن تكون مُقتلعة وكولونيالية، لكن الاقتلاع والكولونيالية نتائج تاريخية طبيعية حتى لو لم تكن ضرورية. وقد حاول أفنري التملص من هذا، في حين أنني مصمم عليه.

المشكلة هي أن الموقف الذي يمثله أفنري لا يسمح بوجود نوع آخر من القومية اليهودية في فلسطين، غير كولونيالية وبهذا فانه يخلد الصراع على مر الاجيال. أفنري يقول لنا إما أن توافقوا على الكولونيالية اليهودية وإلا فأنتم عنصريين. إما أن توافقوا على التفوق اليهودي وإما أن تكونوا كارهين لليهود. وفي رفضه، بدل اقتراح بداية حوار يُمكن من التفكير في انهاء الوضع الكولونيالي، فهو يخلد الوضع الكولونيالي ويبقي القومية اليهودية هنا والآن في فلسطين أسيرة للكولونيالية.

انتهى مقالي باقتراح لتفكير متجدد يسمح بقومية يهودية جديدة واعية لجذورها الاستعمارية الكولونيالية وتأخذ المسؤولية. يبدو أن ما أغضب أفنري ليس انعدام استعدادي للاعتراف بالقومية اليهودية في فلسطين اليوم، بل بالذات استعدادي للاعتراف بها في ظل الفصل بينها وبين الكولونيالية القائمة هنا وخلف الحدود، إذ إن مثل هذا الفصل يسمح بقومية غير كولونيالية. لهذا الغرض هناك حاجة إلى تنفيذ عملية جراحية لفصل قاسٍ وحذر وطويل. فاليهود لا يمكنهم، وهم غير قادرين على اجراء مثل هذه العملية الجراحية من دون تعاون الفلسطينيين.

ولكن يبدو أن أفنري يصرّ على التمسك بالفكر الكولونيالي. ففقرة النهاية في مقاله، التي يطالبني فيها بشكره على أنه أبقاني في الوطن وسمح لي بالتعلم في مؤسساته، لا بل التعلم في جامعة هارفارد والعمل في مؤسسة بتمويل ألماني، دليل حيّ على هذا المزاج الفكري الذي يقيم فيه أفنري نفسه كممثل لأوروبا وأميركا وعموم «العالم المتنوّر». هذا على ما يبدو ما يحصل عندما تنتهي كل الحجج.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى