حيدر الحاج اسماعيل / الدولة العباسية… حراك فكري وتطوّر سياسي باتجاه الدولة الدنيوية الحلقة 4
تقوم «البناء» بنشر كتاب الدكتور حيدر حاج اسماعيل «الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم ـ الآيات التي استبدلت بآيات أخرى بإرادة الله» والكتاب يحاول إلقاء الضوء على عدد من الآيات القرآنية التي جرى نسخها بما لا يتلاءم مع روحية القرآن الكريم المتسامحة خصوصاً ما جاء في سورتي «السيف» و«القتال».
و»البناء» تنشر هذا الكتاب لقناعتها بضرورة توكيد حقيقة القرآن الكريم المتسامحة والمتناقضة مع الآيات المذكورة التي نسخت العديد من آيات الكتاب الكريم، لا سيما أن التكفيريين يقومون بتوظيف هذه الآيات في تبرير إرهابهم ووحشيّتهم.
في هذا العدد يعرض المؤلف المراحل التاريخية التي مرّت بها الدولة العباسية وكذلك ظهور الحركات الفكرية وخصوصاً المعتزلة كحركة أثّرت بشكلٍ أساس في قيادة الدولة لتبنّيها من قبل الخليفة المأمون كعقيدة للدولة العباسية. ولقد أشار المؤلّف إلى بروز النزعة العَلمانية الدنيوية في تلك المرحلة بحيث نقلت الدولة من دولة الدين إلى دولة السياسة والمجتمع.
الدولة العبّاسيّة
استولى العباسيون على مدينة بغداد في عام 132هـ 760م بقيادة أبي العبّاس عبد الله السفّاح بفضل تعاون بين العرب من بلاد فارس وتحت شعار إعادة الأمور إلى نصابها وتقويم مسار التاريخ الذي انحرف عنه الأمويّون بإعادة الإمرة إلى أهل البيت وأقربهم العبّاس، عم الرسول.
وبفوز العباسيين بالحكم ردّوا الصاع صاعَين إلى الأمويين الذين اعتبروهم مغتصبين للسلطة وخارجين على نهج محمد والخلفاء الراشدين. وبعد تمام فوزهم انقضّ العباسيون على من بقي من بني أمية ففتكوا بهم فتكاً حتى أنهم نبشوا قبور أمواتهم وجلدوها وهي رميم. 117 وما أفلت من انتقامهم إلا اليافع عبد الرحمن الذي تمكن من الهرب عبر الفرات شمال سورية وعبر فلسطين ومصر وشمال أفريقية حتى بلاد الأندلس ليؤسس فيما بعد الدولة الأموية الأندلسية.
دولة العباسيين تختلف عن الدولة الدولة الأموية في أنها قامت على تحالف طبقي بين الأرستقراطية العربية والأرستقراطية الفارسية التي انتمى أهلها إلى الإسلام. وهو هذا التحالف الطبقي المسيطر، الذي تسبب، فيما بعد، بنشوء انتفاضات وثورات للفقراء من فلاّحين وزنج وغيرهم.
وكان الحكم العباسي حكمين: حكم قام في بغداد وحكم قام في مصر. الدولة العباسية في بغداد، توالى على إمرتها ثلاثة وسبعون خليفة على مدى خمسمئة وثمانية أعوام امتدت ما بين 132هـ 760م و640هـ 1243م ثم تلتها الدولة العباسية في مصر التي دام حكمها 270 عاماً امتدت من 659هـ 1261م إلى 929هـ 1523م .
وقد تقلّب على الحكم في بغداد سبعة وثلاثون خليفة ابتداءً من أبي العباس عبد الله السفاح ثم أخيه أبي جعفر المنصور وانتهاءً بأبي أحمد بن عبد الله المسعتصم بالله بن المستنصر بالله. وتقلّب على الحكم العباسي في مصر سبعة عشر خليفة بدءاً من أحمد المستنصر بالله وانتهاءً بمحمد المتوكّل على الله الثالث.
ومع أن الحكم العباسي كان وراثياً تنتقل بحسبه الخلافة من الأب إلى الابن، فقد كانت الصبغة الدينية واضحة في أسماء أكثرية الخلفاء العباسيين. فبعد السفاح وأخيه المنصور نجد في بغداد: المهدي محمد ثم الهادي أبو محمد موسى ثم الرشيد هارون ثم ابنه الأكبر، الأمين محمد وبعده ابنه الأصغر، المأمون عبد الله وبعده المعتصم بالله فالواثق بالله فالمتوكل على الله فالمعتز بالله فالمستنصر بالله فالمستعين بالله وبعده المعتز بالله المتوكل على الله ثم المهتدي بالله فالمعتمد على الله فالموفق بالله ثم المعتضد بالله فالمكتفي بالله والمقتدر بالله ثم القاهر بالله فالراضي بالله ثم المقتدر بالله والمستكفي بالله فالمطيع لله فالقادر بالله فالقائم بأمر الله فالمقتدر بأمر الله فالمستظهر بالله ثم المسترشد بالله فالمقتفي لأمر الله ثم المستنجد بالله فالمستضيء بأمر الله والناصر لدين لله فالظاهر بأمر الله ثم ابنه المستنصر بالله وأخيراً المستعصم بالله.
أما في مصر فنجد كأول الخلفاء العباسيين اسم المستنصر بالله ثم الحاكم بأمر الله فالمستكفي بالله والواثق بالله ثم الحاكم بأمر الله الثاني ثم المعتضد بالله فالمتوكل على الله فالمعتصم بالله فالمستعين بالله فالمستكفي بالله فالقائم بأمر الله ثم المستنجد بالله فالمتوكل على الله الثاني فالمستمسك بالله وأخيراً المتوكل على الله الثالث.
كان قصدنا من ذكر أسماء الخلفاء العباسيين وتعدادهم في كلّ من بغداد ومصر هو للتدليل على المنحى الديني الذي جهد الحكّام المتعاقبون على إظهاره، على الأقل، في أسمائهم، إن لم يكن في أفعالهم التي يفيدنا كتّاب التاريخ أنها، منذ هارون الرشيد، بدأت تأخذ صورة البذخ الملوكي وتتسم بطابع حياة الأرستقراطية العربية والفارسية معاً.
بعد وفاة هارون الرشيد 809هـ ، في مدينة طوس، وهو متوجّه إلى الشرق لقمع ثورة داخلية، بدأ النزاع بين ولديه الأخوين الأمين والمأمون حول الخلافة. ويرى المؤرخ فيليب حتّي أن الخلاف لم يكن بين شخصين أو وزيريهما، وزير الأمين، الفضل بن الربيع، الذي كان عربياً ووزير المأمون، الفضل بن سهل، الذي كان فارسياً ماجوسياً اعتنق الإسلام. الخلاف في حقيقته، كان منطوياً على عوامل قومية ودينية وسياسية واجتماعية واقتصادية متشابكة متداخلة». وكان الأمين يمثّل السنّة العربية القيسيّة. أما المأمون فمثّل، في ذلك النزاع، الشيعة الفارسية اليمانيّة. 118
ذلك التناقض، دخل كيان الدولة العباسية، ما لبث أن انفجر بين الأخوين، المأمون والأمين عند أول حادث. أما الحادث فكان من صنع الخليفة الأمين الذي أوصى لاخلافة لابنه موسى يقال بإيعاز من وزيره الفضل بن الربيع ناكثاً العهد الذي كان قدّمه لوالده هارون قبل وفاته والذي قضى بأن يتنازل عن الخلافة إذا عارض يوماً أن يكون المأمون خليفته في مقابل أن يؤدي المأمون الطاعة لأخيه الخليفة. 119
وكانت معركة حربيّة بين جيش الأمين العربي وجيش المأمون الفارسي على مقربة من طهران انتصر فيها جيش المأمون وهزم جيش الأمين، وعندما وصلت أخبار الهزيمة إلى الخليفة الأمين وجده حَمَلتُها عند دجلة مع حبيبته الجارية كوثر يصطاد السمك وإيّاها. ويقول مؤرخو حياة الأمين أنه انزعج من هؤلاء الذين عكّروا صفو يومه فرفض القيام للدفاع عن خلافته «لأن فتاته كانت قد اصطادت سمكتين بينما هو لم يكن قد اصطاد سوى واحدة. 120
نذكر هذه التفاصيل، من كتاب التاريخ، لكي ندرك حقيقة الدولة العبّاسية التي هي حقيقة حلف حربي بين جماعتين حاملتين لقوميتين مختلفتين ومذهبين في الإسلام غير متطابقين جمعها جامع سلبي ألا وهو: العداء المشترك للأمويين الذي اغتصبوا السلطة من أصحابها آل البيت، وقد ظهرت هذه الحقيقة على صورة دموية محدودة أيام هارون الرشيد الذي فتك بوزرائه البرامكة الفارسيين أيّما فتكة واستولى على أملاكهم ثم ما لبثت أن تطوّرت صورتها حتى الحرب بين الجيوش كما أسلفنا.
بعد استتباب الأمر له، لم يكن أمام المأمون إلا أن يلعب لعبة التوازنات السياسية لضبط التناقض القومي المذهبي. وهنا، لا بد لنا من القول، إن المأمون كان أول من عمل بمبدأ التوازن في الميدان السياسي في تاريخ الإمرة في الحضارة العربية. قبله، كانت هناك توازنات من نوع آخر، هي التوازنات القبلية وما أسهلها على الحاكم. أما التوازن الجديد فهو توازن سياسي بالمعنى العصري للكلمة. نعني التوازن الذي يحصل عن طريق تبادل السلطة. فمنذ البداية، ومع انتصاره الحربي، لم يعلن المأمون نفسه خليفة، بل استدعى علي الرضى، أحد حفداء الخليفة علي بن أبي طالب من المدينة إلى مرو وعيّنه خليفة. غير أن الاستقرار الذي رجاه المأمون لم يحصل، ذلك، لأن الخليفة، الورع، لم يكن موافقاً لتوقعاته السياسية. وظهر ضعفه السياسي عندما جعل المظاهر في رأس أولوياته. فقد أمر الناس في طول الإمبراطورية وعرضها أن يستبدلوا الرايات والملابس العباسية السوداء بالرايات والملابس الخضراء. ويقول المؤرخ حتّي إن الراية الخضراء واللباس الأخضر هما ما عرف بهما العلويون. 121
إزاء هذه الحوادث تعيين علي الرضا وأعماله عبّر السنة عن استيائهم فسارعوا، في بغداد، إلى إعلان إبراهيم المهدي، عم المأمون، خليفة للمسلمين. وفي جو الفوضى الذي قام، توفي علي الرضا فجأة يقال مسموماً واغتيل وزير المأمون الفضل بن سهل على أيدي العرب الناقمين. ثم هدأت الأحوال نتيجة التوازن الدموي. وعندما راح قُوّاد الخليفة يتخلون عنه بسبب عدم كفاءته دخل المأمون، الذي كان مقيماً في مرو إبّان تلك القلاقل، إلى بغداد في عام 819م خليفةً للمسلمين، مظفراً، وكان أول عمله العودة إلى الرايات العباسية السوداء. 122
ورغم جميع تلك الحوادث وما تخللها من فوضى حصل مثلها في جميع الأمم والدول الثورة الفرنسية والحرب الأميركية الأهلية وقبلهما الحروب الدينية المذهبية في أوروبا في القرون الوسطى ، نقول رغم تلك الصورة القاتمة حقاً، من الوجهة السياسة الداخلية، يجب علينا الإقرار بأن عصر المأمون كان عصر الدولة العَلمانية والعلمية الأول في تاريخ الحضارة العربية. هنا، كما هو معروف من العِلم.
ففي زمانه ازدهرت حركة المعتزلة بل بلغت ذروتها في الانتشار وكان المأمون نفسه معتزلياً صريحاً. وفي عام 827م جعل المأمون الاعتزال دين الدولة. فيا له من قرار ثوري وخطير. 123
أهمّية هذه الحركة، بالنسبة لمفهوم الدين والدولة، تمثّل في أن مبدأها كان مبدأً فلسفياً، هو مبدأ العقل. وهو مبدأ متناقض مع مبدأ التقليديين من رجال الدين الذي كان مبدأ النقل. العقل يقول، إنه هو مرجع التفسير للنصوص القرآنية فما لا ينطبق على العقل مرفوض وما يوافق العقل مقبول. في حين جعل السلفيون النص هو المرجع وما على العقل إلّا أن يخضع لما ورد فيه. الحقيقة، هي أن هذا الصراع بين مبدأ النقل ومبدأ العقل يخفي وراءه صراعاً بين مبدأ الله ومبدأ الإنسان.
حركة الترجمة، في زمن المأمون بلغت أعلى مستوياتها، ترجمة المؤلفات اليونانية والفارسية إلى العربية. والمأمون هو الذي أسس المركز الثقافي الذي عرف باسم «بيت الحكمة» والذي اختص بالترجمة وضمّ مكتبة كبرى، وداراً لنسخ المخطوطات، ومرصداً للبحوث الفلكية. وجعل الطبيب المترجم السرياني يوحنا بن ماسويه أول رئيس له. 124 الصراع بين حركة الاعتزال وخصومها لم ينتهِ، بل اشتدّ بعد إعلان المأمون الاعتزال ديناً للدولة وإنشائه «محكمة تفتيش» لأول مرة في التاريخ الإسلامي لمحاكمة كل من لا يطبّق العقائد العقلية للحركة من موظفي الدولة وقضاتها. ومن بين تلك العقائد عقيدة خلق القرآن، أي أن القرآن مخلوق وليس قديماً. وقد عرف النزاع حول هذه العقيدة، بصورة خاصة، باسم «فتنة خلق القرآن» التي كان من ضحاياها إمام بغداد أحمد بن حنبل السنّي الذي سجنه المأمون بعد أن قيّده بسلالسل الحديد لسنتين واستمرّ اضطهاده في زمن الخليفة المعتصم ابن المأمون الذي أمر بجلده كي يغيّر رأيه فما فعل إلى أن توفي عام 855م.
أما حركة الاعتزال العقلية التي بدأت بداية سامية مبشِّرة، فبعد أن حوّلت العقل بتطرّفها، إلى معتقل، انقلب عليها الخليفة المتوكّل ابن المعتصم وقضى عليها عام 848م. 126
أما المأمون فقد توفي عن عمر يناهز الثمانية والأربعين سنة بعد أن حكم اثنتين وعشرين سنة ونصف ودُفن في طرسوس. 126 وبموته ابتدأ زمان الانحدار العباسي.
إمرة الاستيلاء
قلنا في خاتمة كلامنا السابق، إن الدولة العباسية ابتدأ انحدارها التدريجي بعد المأمون. والحقيقة أن انهيارها الفعلي وقع في المدة المتدة ما بين منتصف القرن الثالث ومنتصف القرن الرابع الهجريين أي لحقبة من الزمن تناهز المئة عام خلالها برزت ظاهرة جديدة لم يعهَد العرب لها مثيلاً من قبل، ألا وهي ما عرف باسم ظاهرة أمراء الاستيلاء أو أمراء الشوكة . وقد وُجدت هذه الظاهرة في ظروف استيلاء الترك على السلطة وظهور السلاجقة على المسرح السياسي بالإضافة إلى ظروف الغزوات الصليبية واجتياح التتار للبلاد الإسلامية. ومع أن دور القادة العسكريين هو، بالتعريف، دور أمني هدفه حماية البلاد ودولة البلاد، فإنهم مع قيامهم بذلك الدور خير قيام، تعدّوه إلى لعب دور سياسي هو أصلاً دور «أولي الأمر» من المسلمين الذين جاء على ذكرهم كتابهم القرآن.
القائد العسكري، بفضل القوة وحدها، والذي كان أمير جيشه، صار سلطاناً، لا بيعة ولا من يحزنون. أما الخليفة العباسي فقد أفرغ مركزه من كل سلطة تنفيذية وتحوّل إلى صورة ذات رمزية دينية معنوية ظاهرية اجتذاباً لطاعة المسلمين. وعنت «إمارة الاستيلاء»، عند الماوردي، الإمارة التي تعقد عن اضرار وتكون بأن « يستولي الأمير بالقوة على بلاد يقلّده الخليفة إمارتها ويفوّص إليه تدبيرها وسياستها. فيكون الأمير مستبداً بالسياسة والتدبير والخليفة بإذنه منفذاً لأحكام الدين…». 127
تجدر الملاحظة إلى أن أمراء الاستيلاء انقسموا، وفقاً للخلافة القومية والمذهبية الدينية إلى صنفين: هناك السلاطين السلجوقيون الذين كانوا من السنّة وهناك السلاطين البويهيون الذين كانوا من الشيعة الفرس. السلطنة السلجوقية، ظهرت إلى الوجود، أول ما ظهرت، في عهد الخليفة العباسي أبي الفضل جعفر المقتدر بالله بن المعتضد بالله 295هـ- 320هـ . نذكر من السلاجقة السلطان ألب أرسلان ووزيره نظام الملك الذي بقي في منصبه حوالى ثلاثين سنة وفي كنفه عاش الإمام أبو أحمد الغزالي. 128 أما السلطنة البويهية فكان قيامها في عهد الخليفة العباسي أبي العباس أحمد الراضي بالله بن المقتدر بالله 322هـ . نذكر من أهمهم: عضد الدولة، وشرف الدولة، وسلطان الدولة، وصمصام الدولة. 129
دول السلاطين السلجوقية والبويهية امتازت على ما سبقها من دول بأنها، لأول مرة في تاريخ العرب والمسلمين، كانت دولة عَلمانية بفتح العين بمعنى جديد وهو فصل الدين عن الدولة. كنّا، ذكرنا، ونحن في معرض الكلام على الدولة الأموية بأنها كانت دولة دنيوية وبهذا المعنى وصفناها آنذاك، بأنها عَلمانية بفتح العين ، لكن شتّان بين تلك وهذه التي نتحدث عنها الآن. والشتّانية تتمثل بأن الدولة الأموية لم تفصل ما بين الدين والدولة بل ظلت رابطة بينهما لكن بصيغة جديدة: الدين وسيلة لخدمة أغراض الدولة. أي أن الدولة فوق الدين وقبل الدين ولها الأولوية على الدين. الدين يستخدم في المناسبات لتغذية الطاعة للدولة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى لإلباس الدولة صورة محبّبة لدى الرعية. معاوية وأولاده من بعده ظلّوا يؤمّون المساجد للمحافظة على تعلّق الجماعة.
في دولة السلاطين اختلف الأمر جذرياً ونوعياً. السلطان هو الدولة والخليفة ليس الدولة، هو مجرد رمز للدين. الخليفة لا علاقة له البتّة بشؤون الدولة، إن هو إلا صورة دينية فحسب، للاستهلاك الشعبي.
إنه لمفيد أن نعرف هذه الحقيقة، لأن الشائع بين الناس ولدى المؤرخين بعامة والمستشرقين بخاصة، هو أن الدولة العربية كانت دائماً دولة دينية، إسلامية محض. والحجة هي كون الخليفة جامعاً السلطة التنفيذية والإمامة، غير مفرقين بين جمع وجمع، بين جمعٍ حقيقي في عهد محمّد والخلفاء الراشدين وجمعٍ آخر يدخل باب السياسة الإدارية التكتيكية زمان معاوية، وغير منتبهين لحقيقة الفصل بين الدين والدولة في الحقبة السلطانية، حقبة أمراء الاستيلاء الذين لم يحكموا بالشورى بل بقوّة الجيش الموالي. إذاً، حوالى منتصف القرن الثالث الهجري أو القرن العاشر الميلادي، أي قبل الثورة الفرنسية بحوالى ثمانمئة سنة كان مبدأ فصل الدين عن الدولة العلماني معمولاً به في الحضارة العربية. ولا ينقص قيمة هذه الظاهرة، كونها تحققت في ظروف الحكم السلطاني العسكري. فالعلمانية هي هي سواء وجدت في حكم مدني أو حكم عسكريٍّ ليس بمدني.
الإمرة الثورية
ثورات مهمة نشبت خلال الحكم العباسي وعلى امتداد القرون: الثالث والرابع والخامس الهجرية ومعظمها انطلق من مدينة الكوفة وهي: ثورة الزنج وثورات الإسماعيلية الباطنية السبعية بكل فئاتها.
وفي حين يرى الدكتور فيليب حتّي أن وراء الثورة سبباً عقائدياً شيعياً يختص بأولويات علي بن أبي طالب وأبنائه من بعده بالنسبة إلى قضية الخلافة التي اغتصبها الأمويون، ولم يحققها وعد العباسيين 130 ، فإن العفيف الأخضر يرى أن محرك الثورات كان اقتصادياً طبقياً 131 .
مهما تكن الأسباب، فإن ما يهمنا ويتصل بمجرى بحثنا الرئيسي، هو أن تلك الثورات سجّلت نمطاً جديداً من الإمرة متناقضاً مع الأنماط السابقة. فثورة الزنج في البصرة 255-270 هـ وصاحبها علي بن محمد استخدم الدين استخداماً تكتيكياً لتحريض الزنوج والعبيد عندما أعلن أن الله ألغى الرقّ وذلك بتأويله السياسي للآية التي تقول: «إن الله قد اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة…» 132 .
والشاعر ابن الرومي وصف موقفهم بأنه ضد الإسلام عندما قال: «أي نوم بعدما انتهك الزنج محارم الإسلام». الحركة الثورية الإسماعيلية بدأت حزباً معارضاً مفتوحة أبواب العضوية فيه للمثقفين فقط الذين يعرفون القراءة والكتابة ويتمتعون بالوعي النقدي. أما الجماهير المطوّعة بالإيديولوجيا الرسمية فكانوا يسمّونها: «العميان» و»الحمير» و»عبدة الأوثان»، إشارةً إلى تقديسها الحجر الأسود. بكلمة أخرى، كان الحزب الإسماعيلي حزب النخبة القائدة. 133 أما برنامج الحزب فتألف من المبادئ الآتية: إلغاء الملكية الخاصة، والمساواة بين المرأة والرجل، والإطاحة بالنظام القائم الزمني والروحي. 134
وقد امتدّ لهيب الحركة الإسماعيلية من البحرين، حيث جناحها العربي في المشرق، إلى المغرب العربي غرباً. الجناح الفارسي في الحركة مثّل أقصى يسارها. 135
أما المنظّر الأول للحركة فكان اسمه عبدالله بن ميمون الذي كان ذا ثقافة واسعة نتيجة اطلاعه على جميع الفلسفات والأديان في عصره. وهو هذا الرجل الذي قال قولاً شبيهاً بأقوال الماركسية: «إن الأئمة والأديان والأخلاق ليست إلا ضلالة وسخرية». 136
فيما بعد أنجبت الإسماعيلية «إخوان الصفا» وابن سينا كما كان لها تأثير في المتنبّي والمعري وابن هانئ. 137 وأهم إنجازات الإسماعيلية على الصعيد السياسي: الجمهورية القرمطية في البحرين، وحركة الحشاشين في فارس وسورية، والدولة الفاطمية في شمال أفريقية. الجمهورية القرمطية تسلمت السلطة في البحرين في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري بالضبط في 286 هـ . وكان زعيمها الفعلي حمدان القرمطي المزارع وأبو سعيد الجنابي أول رئيس لعقدانية مجلس ثورة الجمهورية. 138 وأهم ما فعله القرامطة، ما يتناقض مع الاتجاه التقليدي السابق، أنهم أنكروا الرسل والشرائع، وأوّلوا الشريعة على نحوٍ دنيوي ـ سياسي وكشفوا الغطاء عن حقيقتها التمويهية عندما قالوا، إن الصلاة هي موالاة الحاكم والحج زيارته وخدمته والصوم الإمساك عن إفشاء سره. وتعدّوا كل الحدود الدينية المألوفة عندما قضوا على الحج لهدره الاقتصادي ذبح الأولوف من الإبل والماشية ولشعائره العبثية اللاعقلانية كرمي الأحجار ولثم الحجر. 139 لذلك اقتلعوا الحجر الأسود عام 312 هـ وقتلوا الحجيج ثأراً لأسراهم الذين كان قد فتك بهم المعتض. كما ألغى القرامطة الضرائب والخراج على الأرض.
الحشاشون، بقيادة الحسن الصباح، أعلنوا «يوم القيامة» عام 559 هـ وعنوا بهذا الإعلان إلغاء الشريعة الإسلامية لأن التنزيل لا يؤخذ إلا بالتأويل. 140
مؤسس الدولة الفاطمية كان اسمه عبيد الله المهدي 924-909 هـ . وهو ولد في عام 873 هـ في بلدة سلمية في سورية. والدولة الفاطمية هي أول دولة شيعية عربية عظيمة، وفقاً لوصف المؤرخ حتّي. 141
ترك المهدي السلمية إلى شمال أفريقية مستجيباً لدعوة من أحد الدعاة الإسماعيليين، أبي عبد الله الشيعي. وأبو عبدالله الشيعي هذا، بالإضافة إلى كونه داعية له كاريزما مؤثرة في الناس، كان قائداً حربياً من طراز ممتاز: فهو الذي وحّد القبائل في شمال أفريقية وهو الذي حقّق الانتصارات على بقايا الحكم العباسي هناك واحتلّ مدينة القيروان التي كانت أعظم معقل للسنة. وهو الذي حرّر عبيدالله عندما تمكن خصومه من سجنه. غير أن الذي حصل بعد كل ذلك، كان انقلابه على عبيد الله وإشاعته أنه ليس مهدياً. فما كان من عبيد الله لا أن يدعوه إلى وليمة في القصر، حيث تم القضاء عليه وعلى أخيه أبي العباس.
بعد استباب الأمر له، في المغرب والجزائر وتونس والصحراء الليبية، توجّه عبيدالله إلى مصر لينتصر، بعد أكثر من محاولة، انتصاراً بحرياً في الإسكندرية وبرياً في الفيوم، حتى صارت منطقة مصر العليا تحت رحمته. 142 أما أهم الفتوحات وذروتها فكان فتح مصر في عام 969 على يد المعزّ حفيد عبيدالله. 143
ويصف حتّي عبيدالله بالحكمة لأنه لم يصرّ على الناس ليعتنقوا مذهبه الشيعي الإسماعيلي بخاصة معظم سكان المدن الذين كانوا تحت إمرته كانوا من السنة. ويذهب حتّي إلى القول بأن العنصر الديني في الدعوة بدأ «ينحسر ليحلّ محلّه العنصر العلماني» إذ استحال الزعيم الديني عبيدالله، تدريجياً، إلى «حاكم إداري». 144 والأرجح أن ما يقصده حتّي «بالعنصر العلماني» هو الاتجاه الدنيوي للحكم حصراً أي العَلمانية بفتح العين .
غير أننا، إذا تقدمنا في التعرف إلى ما حصل بعد عبيد الله، بصورة خاصة، في عهد الحاكم بأمر الله، 1021-996 هـ سنجد أن هذا الحاكم أسس معهداً علمياً ممتازاً سمّاه «دار الحكمة» وأنه كان ذا علاقة بالمذهب الدرزي الممتلئ بالمعارف الفلسفية. 145 في كلّ هذا ما يسمح لنا بالقول، إن النزعة العلمية وُجدت، هي الأخرى، في زمن الفاطميين.
بالنسبة إلى دنيوية الدولة الفاطمية يمكننا أن نشير إلى الدلائل الآتية:
أولاً: العنف: وهو ما يعترف به عبيدالله المهدي نفسه. فقد كتب إلى المشرق بعد قتله القائد الداعية أبا عبدالله الشيعي وأخاه أبا العباس، يقول: «السلام على شيعة المشرق، أمّا بعد فقد علمتم محل أبي عبدالله وأبي العباس من الإسلام، فاستذلهما الشيطان، فطهرتهما بالسيف، والسلام». 146 ويقول حتّي، «وفي سجل الأخبار المريعة لأعمال الفاطميين وسائل عديدة للقتل والتعذيب». 147
ثانياً: ثم هناك حياة البذخ والترف: يكفي أن نقتطف بعضاً من وصف المؤرخين العرب لقصر الخليفة الفاطمي في القاهرة. يقول هؤلاء المؤرخون: القصر 4000 غرفة وبوابة من ذهب تفتح على قاعةٍ مذهبة وبهو فخم حيث قام عرش الخليفة المصنوع من الذهب. وهناك قاعة الزمرد بأعمدتها الرخامية الجميلة. أما الأثاث والزخرف فمن الآبنوس والعاج المطعّم بالحجارة الكريمة. والألبسة الحريرية والسُجف والأقمشة المقصّبة مطرزة بالذهب. 148
غير أن الدولة الفاطمية التي كانت بلغت ذلك المجد الدنيوي المطرّز بالذهب والزمرد مالبثت أن دار عليها الزمان فنزلت إلى الحضيض في زمن الخليفة العاضد الذي خلعه صلاح الدين الأيوبي معيداً سلطة العباسيين.
الآن ماذا نحصّل من كل ما تقدم، من هذا الشريط الاجتماعي ـ التاريخي الذي امتدّ قروناً؟ الجواب هو أن حزب الله الذي نجح في تأسيس دولة محمد نجح أيضاً في استمرار هذه الدولة عبر خلفائه من الصحابة وغيرهم من المسلمين، لكن، بفضل عاملين مهمين، ألا وهما: العقيدة المشتركة التي جمع نظامها عقول المسلمين وأفئدتهم جميعاً، على اختلاف شعوبهم وأعراقهم. هذا بصورةٍ عامة. ثم هناك مصالح الدنيا التي تنازع في طلبها الزعماء والطامحون إلى الزعامة من أهل البيت ومن قريش ومن آخرين من خارج أهل البيت وخارج قريش. ونقصد بمصالح الدنيا، بصورةٍ رئيسية تسلم مقاليد السلطة، الخلافة، أو الإمارة، أو الإمامة، أو السلطة عند العثمانيين في نهاية المطاف، إلى نهاية الحرب العالمية الأولى. بلى، ما كانت الدول الإسلامية في التاريخ، إلا دول البشر هي من صنعهم في ميدان صراعاتهم على الدنيا. لذلك انطبق عليهم قول الشاعر المصري حافظ إبراهيم:
والدهر دولاب فإن دالت له دولٌ فكم من دولةٍ ستدولُ
«فالدولة الإسلامية» دالت، أي تشتت وزالت. ومن هنا يصحّ القول، إن أي واحدةٍ منها لم تكن دولة الله. ولو كانت أي واحدة منها دولة الله لما كانت تزول. الأصح هو القول، من المنظور الاجتماعي، الذي اعتمدناه في هذا المقطع من كتبنا، هو أنها جميعاً، كانت دول «حزب الله»، الذي أسسه محمد في قريش ومن قريش وانتشرت أفكاره العالمية في بلاد العرب وفي العالم القديم كله.
غداً حلقة خامسة
هوامش
الهوامش:
117 – الدكتور حتّي، فيليب. صانعو التاريخ العربي ص 85 -86
118 – المرجع السابق ص 110.
119 – المرجع السابق ص 109، ص 111
120 – المرجع السابق ص 111 – 112
121 – المرجع السابق ص 113.
122 – المرجع السابق ص 113
123 – المرجع السابق ص 126
124 – المرجع السابق ص 127. أنطوان سيف، قزحيا خوري، محمد شيا. الفلسفة والحضارة، طبعة أولى، المركز التربوي للبحوث والإنماء، بيروت، 1999، ص 65.
125 – حتّي فيليب. صانعو التاريخ العربي ص 126
126 – المرجع السابق ص 131
127 – الموردي. الأحكام السلطانية، طبعة 3، مصر، 1973، ص 33.
128 – الغزالي، عبد الحميد. الاقتصاد في الاعتقاد، تقديم د. عادل العوّا، بيروت، 1969، ص 214.
129 – منيمنة، حسن. تاريخ الدولة البويهية، الدار الجامعية، بيروت، 1987، ص 182.
130 – الدتور حتّي، فيليب. صانعو التاريخ العربي، ص 133 -134.
131 – لينين: مختارات جديدة: نصوص حول الموقف من الدين، مقدمة بقلم العفيف الأخضر بعنوان: «من نقد السماء إلى نقد الأرض». ترجمة محمد الكبة، مراجعة العفيف الأخضر، دار الطليعة، بيروت، 1978، ص 51.
132 – المرجع السابق ص 66 – 67.
133 – المرجع السابق ص 60.
134 – المرجع السابق ص 62.
135 – المرجع السابق ص 58.
136 – المرجع السابق ص 59.
137 – بن سينان، ثابت، وابن العديم. تاريخ أخبار القرامطة، ترجمة الحسن الأعصم القرمطي، تحقيق الدكتور سهيل زكّار، دار الأمانة، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1391 هـ – 1971 م، فقرة 8، ص 13. وهناك محاولة قرمطية للسيطرة على سورية لكنهال فشلت. أيضاً: Bernard lewis, the assassins, London, 1967, PP.20 -23.
138 – لينين: مختارات، هامش ص 62 – 63.
139 – المرجع السابق ص 64
140 – المرجع السابق ص 71 وهامش هذه الصفحة.
141 – حتّي، فيليب. صانعو التاريخ العربي، ص 134، ص 141.
142 – المرجع السابق ص 156
143 – المرجع السابق ص 157
144 – المرجع السابق ص 149
145 – المرجع السابق ص 158
146 – المرجع السابق ص 151. كذلك: ابن عذاري. البيان المغربي في أخبار المغرب، طبعة درزي، ليدن، 1849، مجلد أول، ص 164.
147 – حتّي، فيليب. صانعو التاريخ العربي، ص 151.
148 -William of tyre: A history of deads done beyond the sea, trans. Emily A. B. babcok A.C. krey, vol. III, Newyork, 1943, PP.320 – 321.
أيضاً ابن الأثير. الكامل، طبعة طورنبرغ، مجلد 11، ص 242.