بيروت مقبرة الأسرار
حسين حمّود
إنجاز نوعي كبير ومهمّ أمنياً وسياسياً حققته المديرية العامة للأمن العام في نهاية الأسبوع المنصرم، وهو اعتقال الإرهابي الفارّ سابقاً أحمد الأسير. لكن ما هو أهمّ من ذلك هو كشف من هو خلف ظاهرة الأسير التي كادت أن تدخل البلاد في أتون فتنة مذهبية لولا تدخّل الجيش في الوقت المناسب والقضاء على بؤرة التوتر في عبرا شرق صيدا، والتي اتخذها الأسير منطلقاً لتحركاته الميدانية وإطلاق خطبه التحريضية ضدّ المقاومة وجمهورها. هذا من جهة، ومن جهة أخرى تعقّل وحكمة قيادة المقاومة كما جمهورها، في عدم الردّ على استفزازات الأسير وجماعته، ولا سيما قطع مناصريه طرق الجنوب، عبر بوابة صيدا مرات عديدة وحرمانه أهل الجنوب العابرين من الوصول إلى قراهم.
هذان العاملان، تدخّل الجيش وحكمة المقاومة، نزعا فتيل التفجير الذي كان يسعى إليه الأسير ليس نتيجة قرار اتخذه في «ليلة طرب ومزاح»، إذ أنه يعرف حجم ظاهرته وتواضع قدرته على اتخاذ قرار بهذا الحجم وتنفيذه بمفرده، بل كان الأسير ينفّذ أجندة قوى أكبر منه وضعتها الجهات التي خلقته فجأة من العدم، وسخّرت له إعلامها لتلميع صورته وفرضه لاعباً أساسياً على الساحتين السياسية والأمنية.
من هنا فإنّ الإنجاز الأهمّ بحسب ما ترى مصادر متابعة لهذا الملف، هو كشف الجهات التي أوجدت ظاهرة الأسير وموّلتها ورعتها وسلحتها ووفرت لها الغطاء والحاضنة السياسية والشعبية. وإلاّ سيجوّف هذا الإنجاز من مضمونه الأمني والسياسي، ليصبح محصوراً بالأسير كشخص، على محدوديته، وبعض مناصريه واتهامهم وحدهم بإنشاء عصابة مسلحة لزعزعة الاستقرار في البلاد، فينال الاسير عقوبته على هذا الجرم ويقفل الملف عند هذا الحدّ، وهو أقصى ما يريده مشغلوه. علماً أنّ الأسير ساءت أوضاعه بعد إنهاء حالته إلى درجة أنه «جاع ومنع عنه الدواء ونام في البساتين» بحسب آخر تغريدة له، ما يعني انه كان معدماً، قبل أن يعود ويتواصل مع جهات فلسطينية في عين الحلوة حمته ورعته إلى حين اتخاذه قرار الهرب إلى نيجيريا يوم السبت الفائت.
ولفتت الأوساط إلى سوابق في إقفال الملفات الإرهابية وحصرها بمن ألقي القبض عليهم الذين نالوا عقوبات مخففة وأطلق سراحهم، كما في حالة عناصر «فتح الإسلام» و«جند الشام» وقبلهما مجموعة الـ13 التي اعترفت باغتيال الرئيس رفيق الحريري في شباط 2005، من دون كشف الجهات المحلية أو الإقليمية أو الدولية التي كانت تقف وراء هذه التنظيمات الإرهابية وتموّلها وتزوّدها بالسلاح الذي استخدم في جرائم الإعتداءات على الجيش اللبناني والمدنيين.
لذا أبدت الأوساط خشيتها من أن يتكرّر هذا الأمر مع الأسير الذي سيُحال إلى المحكمة العسكرية للمحاكمة اعتباراً من منتصف شهر أيلول المقبل. ومردّ هذه الخشية إلى ملاحظتين: الأولى أنّ كلّ التسريبات عن التحقيقات تركّز على تنقلات الأسير الشخصية منذ تواريه عن العدالة، إثر معارك عبرا، من سيروب إلى عين الحلوة إلى جدرا… وكأنّ في ذلك الكنز الثمين، علماً أنّ ما سرّب عن التحقيق أيضاً هو سلاسة اعترافات الأسير وهي إجمالاً عن بعض مناصريه وهم قلّة وقد تمّ القبض عليهم سريعاً. وهذا التسريب لا يعني الأمن العام الذي يتولى التحقيق ولا القائمين به، بل قد تكون هناك جهات تتعمّد هذا النوع من التسريب لحصر الاهتمام في هذه النقطة فقط، من دون التوسع إلى المموّلين والراعين لـ«الشيخ» الإرهابي.
ومن هنا تأتي الملاحظة الثانية، وهي التسريب أيضاً بأنّ الأسير كان قاسي اللهجة على تيار المستقبل عند سؤاله عن علاقته بالأحزاب اللبنانية. وفي هذا السياق ذكرت إحدى الصحف الخليجية أنّ الأسير قال عند سؤاله عن علاقته بتيار «المستقبل» من سرّب للصحيفة؟ : «هم كانوا رأس الحربة في محاربتي سياسياً وشعبياً، ولولاهم لكنت أنا الزعيم السني الأول في لبنان. حتى انهم طوّقوني مالياً عبر قطع علاقاتهم التجارية مع كلّ من دعمني بقرش وكلّ من كان يحضر إلى مسجد بلال بن رباح»!
لكلّ ذلك، تمنّت الأوساط ألاّ تقزّم ظاهرة الأسير لتصبح في حدود مسجد بلال بن رباح في عبرا على ضفة نهر دم الضباط والجنود الذين استشهدوا في 23 و24 حزيران 2013 في عبرا، قبل أن يلتهم حريق الفتنة لبنان برمّته، وحتى لا ينطبق، مرة أخرى المثل القائل: «بيروت مقبرة الأسرار».