وثائقيّ يارا بوريللو… «بين الحروب»

ناريمان منصور

الصورة مخيّم… والمخيّم لجوء، لا فرق إن كنتَ فلسطينياً أو سوريّاً، فالمستنقع واحد.

يبدأ فيلم «بين الحروب» ليارا بوريللو من هنا المستنقع، لينشأ التساؤل: هل هذا توصيف لحالة المخيّم، أم للواقع الذي تصل إليه أجيال الحروب التي تكبر ويكبر وعيها غريبة عن الوطن؟ تكبر في اللجوء إلى فرصها في الحياة… سنة… سنتان… أربع… عشرون! ومن يعلم كم سنة سيستمرّ هذا!

لم يكن الفلسطينيّ يعرف أيّ فرق في سورية حيث لا تفرقة ولا تمييز، كانت الحقوق مثل حقوق أيّ سوريّ. أقطاب المشهد كثيرة. يأتينا صوت ثريا عاصي أم يارا: «لم آتِ للبحث عن لاجئين، جئت لأتعرّف إلى المخيم». خوف وتردّد ليكون المشهد «بيوتاً فقيرة، أكوامَ الزمن، لاجئين جدداً».

من لبنان إلى سورية، أو من فلسطين إلى لبنان إلى سورية عودة إلى لبنان وكل أصقاع العالم؟ وماذا يختلف بعد الآن أن تكون فلسطينياً أو سوريّاً؟

من البديهيّ أنّ اختيار يارا عائلةً فلسطينية لم يكن عبثاً. فثمّة رسالة تريدها أن تصل، ومن المؤكد أيضاً أنّ لثريا عاصي يداً في هذا، فهي لطالما كتبت عن الأمر وتحدّثت عنه. وأكّدت يارا هذا أيضاً عندما سألها أحد الحضور عند نهاية عرض الفيلم في مهرجان الفيلم العربي القصير لماذا اختارات موضوع اللاجئين. عندئذٍ، كان جواب يارا واضحاً: «ماما بتحكيلي كتير عن القضية… وهيي صحافية بتكتب عن القضية».

إنّ هذا يتجاوز حالة اللجوء إلى المخيمات، كان من الممكن اختيار عائلة سورية الجنسية وتوثيق ظروفها، لكن ما رأيناه في الفيلم أمراً آخر. إنّه تسليط الضوء على مجمل القضية بأبعادها ومعطياتها، لنستدرك بديهياً أنّ مهمة الفيلم، الكشف، وإنْ بطريقة غير مباشرة، عن حقائق ووقائع، لا بل تعرية الأسباب من خلال النتائج. فمن يريد هذه الحالة هو نفسه الذي يشنّ الحرب على فلسطين وسورية، هو نفسه الذي يطمح لأن يخلق أجيال مخيمات ليعزّز انتصاراته على أكتاف انكسارات الأجيال التي تترعرع في ظروف القهر والمواجع والحاجات ظروف لقمة العيش المغمّسة بالتراب فيقبّلها «حمودة» لأنها «نعمة». ظروف العواصف التي تشغل عن التفكير بكيفية العودة ومتطلّباتها. لكن العودة إلى أين؟ وعبر أيّ طرق؟ هل هي عبر الأزقة الفقيرة، أو العيادات العاجزة نسبياً عن الإحاطة بمتطلبات أيّ علاج كما يجب؟

تأتي المفارقة شاسعة البيان ففي الشام مشافي مجانية، ظروف حياةٍ أفضل. لكن بعد الآن من أفضل؟ وما قيمة الجغرافية إذا كان القتل واحد، والعَوَز واحد، واللجوء واحد؟

«أنا أول واحد ضدّ الحرية»، والضريبة أن يكون محمود، وهو ضدّ الحرية، لاجئاً قديماً جديداً. يتوسّع المفهوم فالحرّية في فلسطين غير الحرّية في سورية، وكم هي المفارقة مؤلمة. أيّ تخبّط تضعنا فيه الحروب، وأيّ ضياعٍ لكلّ شيء في علائقية شائكة لا نعرف كيف نفكفكها إلا باستقراء نتائجها. الحرّية ضدّ المستعمر «الإسرائيلي» في فلسطين قادت إلى لجوء قبل الولادة، والحرّية التي نشدها من قام بتهجير العائلات التي هي ضدّها، كحرّية، ذات توصيفات تقولبت في أطر غريبة عن كل ما عرفته عادات الشام وعلاقاتها، والتي يرفضها المهجرون أنفسهم، وأصبحوا لاجئين بسببها. هل كلّ حرّية تقود إلى اللجوء؟ لماذا؟

سورية غير. بكلّ تفاصيلها غير، على رغم كلّ ما يحدث، تبقى بمواجعها أوسع لكلّ «شتات»، محتضنةً آلام الدنيا وفقد تفاصيل البيوت ومعالمها، فالوضع «موقت». «ضاعت الملامح»، المهم لقمة العيش ولو من وراء العمل في النفايات أو دفع عربات الخضار، وعلى رغم أنّ «اللي بتقدّملك ياه سورية ما بيقدّملك ياه لبنان»، إلا أنّ المخيم أمان!

ينتهي الفيلم وقد تناوبت شاشتا «الإخبارية السورية» و«الفضائية السورية» ولاحقاً محطة «فلسطين اليوم» على عرضه، تزامناً مع الاحتفالات بذكرى النصر على المستعمر «الإسرائيلي». ينتهي، خالقاً فينا جوّاً مشحوناً بتفاعلاتنا الوجودية والعاطفية، مع أسئلة كثيرة موسومة بالدهشة أمام غباء ما حدث ويحدث. فأمور كهذه لا يمكن أن تحدث صدفة لا شيء من لا شيء، ولا الصورة التي تصلنا هي ادّعاء قهر. لا يمكن للقهر أن يكون ادّعاءً، فكيف إذا كان قهر مخيمات لاجئين قدامى أو «جدد»؟ النتيجة قاسية لكنه الواقع. أصبح السوريّ فلسطينياً والفلسطينيّ سوريّاً بتشابك دوافع اللجوء، الألم الذي يرافق هذا لا يمكن أن يوصف، وبمحاولة لقلب الصورة، قلبها قبل حرب الحرّية المفترضة، يأتينا التشابك كحالة صراع تجاه العدو الحقيقيّ ممزّقاً خيم اللجوء الفلسطينيّ، شاقّاً طريق العودة إن كان عبر أزقة المخيمات كلّها، أو عبر طرق دمشق ذات الوجهة الجنوبية لتكون الحرّية حرّية، ولتكون الحرب بأبعادها ميداناً لكسر طوق الذلّ، وتراكمات أكوام الأجيال التي فخّخها الزمن بالقهر كهزيمة أرادوها بكلّ وسائلهم.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى