خالد الأسعد شهيداً على محراب زنوبيا
يتغلغل الموت بين أنفاس الآثار، وكأن ملامح التاريخ صارت سراباً، من المحال أن تدركه أجيالنا التي لم تولد بعد. وماذا نقول لهذه الأجيال حين تغلبهم الحيرة في زمن «الردّة» و«الثورات» المستوردة على إيقاع الصهيونية الكامنة بين التفاصيل.
خالد الأسعد قرأ التاريخ وحفظ الجغرافيا، فخانه الظلام المهيمن على مفاصل الشام. هو لا يخشى الظلام، بقي راسخاً في الأرض التي بلغت مرتبة مقدّسة لا يدركها المارقون على أطراف الوقت باللحى المزيّفة والمناجل المستحضرة من غياهب الجحيم، لتحصد ثقافة الأمس واليوم وتحرقها على إيقاع طبول يهوذا الذي استباح فلسطين أولاً، ومزّق بلاد الحجاز ثانياً وعيّن فيها رُعاعاً يموّلون عصابات القتل المتنقلة من بلد إلى آخر.
لأن الشام كبيرة بحضارتها، يسعى أهل الظلام نحوها بنصوص عبرية مدبلجة على ألسنة تحمل هوية عربية، وتلتحف الدين ظاهراً يناقض ما في الباطن من حقدٍ دفين. لعل حسناء تدمر تذرف نبضها برداً وسلاماً عند أسفل العمود حيث عُلِق مكتشفها مسدلاً جفنيه على 50 سنة من العطاء قضاها في ترجمة نصوص المكتشفات الأثرية في «بالميرا»، وفي رئاسة بعثات التنقيب السورية ـ الأجنبية المشتركة، ومديراً لآثار تدمر.
تُرى، هل وجد الأسعد في خبايا الجغرافيا نصّاً يتفوّق على همجية «داعش»؟ وهل تصوّر أن شهادته سترسم لغة فريدة لا تُشبه ما سبقها من أساطير ورؤى خيالية؟ فأضحى طيفاً يسكن بين الأعمدة التي عشقها والتصقت به حتى في أقصى لحظات الغياب.
يجتاحك الخبر المتنقل من منبر إعلامي إلى آخر. من الإعلاميين مَن لا يعيره لحظة خشوع ربما لأن الموت في بلادنا أضحى لازمة تلتصق بنا كجلدنا المحترق من هول «الديمقراطية»،. ومنهم من يشمّ الحاضر ويلعن «الحرّية». ومنهم من يسجد ليمسح دمعة عن جبين الحجر الأثري المرمّم في تدمر حيث يصبح الوداع علقماً بين البشر والحجر. قد ينتفض ذلك العمود على حثالة القوم الذين يعيثون في الأرض فساداً، ولا تجد الهيئات الأممية مفرّاً لها سوى الاستنكار، فيما «داعش» يستمر في تدمير التاريخ بوحشية هادفة، وبإصرار حثيث على محو إرثنا الحضاري المشرقي، كما يفعل الصهاينة منذ علقوا شمعدانهم على أسوار القدس حتى يومنا الدامي هذا… كما صرّح لنا الزميل الشاعر زاهي وهبي.
يستمرّ مسلسل الإرهاب الوافد إلى سورية بحصد الأرواح البريئة تحت مسمّيات واهية لا يبرّرها منطق ولا يسترها ادّعاء الدين الذي هو براء من تنظيم «داعش» وإجرامه.
التنظيم الإرهابي الذي سيطر على مدينة تدمر منذ فترة، أطلق العنان لغريزته الإجرامية، إذ اغتال عالم الآثار والباحث الأثري السوري الدكتور خالد الأسعد، المعروف بنشاطه في هذا المضمار مع بعثات آثار أميركية وفرنسية وألمانية، كلها قامت بهّمته بعمليات حفر وبحوث لآثار عمرها 2000 سنة في تدمر، وأدرِاجت ضمن قائمة «يونسكو» للتراث العالمي.
قيمة الأسعد العلمية جعلت منه رمزاً من الرموز التي تتعدّى حدود بلاد الشام، ما دفع بالوكالات العالمية إلى بثّ خبر مصرعه على إيدي التنظيم الإرهابي، وذلك نقلاً عن مأمون عبد الكريم المدير العام للآثار السورية.
وكانت أسرة العالم الشهيد هي التي أبلغت عبد الكريم بإقدام تنظيم «داعش» على إعدامه والتمثيل بجثّته وتعليقها مقطوعة الرأس على أحد الأعمدة الأثرية التي ساهم في كشفها للعالم. ولم يكتفِ الظلاميون بهذه الوحشية، إذ وضعوا لافتةً على الجثّة، ضمّنوها «ذنوب» الأسعد، ومنها أنه موالٍ للنظام وأنّه مثله في المؤتمرات «الكفرية» بحسب تعبيرهم، إضافة إلى إدارته الأصنام في تدمر، وزيارته إيران، وتواصله مع ضباط في الجيش السوري.
سياسيون ومثقفون وإعلاميون أرسلوا كلمات الرثاء بالباحث السوري خالد الأسعد، قد يصل صدى كلماتهم إلى قلب زنوبيا لينتفض قومها من السبات، ويلفظوا طحالب الظلم والظلامية عن أرضها المقدّسة.
إعداد: عبير حمدان لورا محمود ــ رانيا مشوّح