سورية: البعد الرابع جاء حاسماً

وليد زيتوني

قلما يؤخذ البعد الاجتماعي/الشعبي في الحسبان على مستوى الاستراتيجية العسكرية، وإنما يحتل حيزاً أكبر في الاستراتيجية الشاملة للدولة، على رغم أن العامل السكاني يتموضع في تحليل الوضع العام على مستوى أي خطة أو أمر عمليات حتى ولو كانت تكتيكية.

فالبعد الرابع الاجتماعي، إضافة إلى الأبعاد الأخرى: العملياتية/التكتيكية، واللوجستية والتقنية، عادة يكون حاسماً في الاستراتيجية العسكرية، إذا ما أحسن استخدامه وحقق المفاجأة المطلوبة في سياق إدارة المعركة. بل ربما يكون العامل المميّز في الانتصار.

أُهمل هذا البعد، أو لنقل لم يأخذ حقه في الحروب السابقة، لأنّ معظم الحروب كانت بين القوى الاستعمارية على أرض ثالثة، وفيما بعد استخدم الإعلام كجزء من الحرب النفسية كأداة، وظيفتها إعادة تركيب الرأي العام بحسب مقتضيات القوة، وبالتالي خضع هذا العامل أو البعد لهيمنة البعدين العملياتي والتقني نتيجة طغيان الفجوة التقنية أولاً ورجحان القدرة القتالية لصالح الآخر.

في الحرب على سورية، اختلطت العوامل وتغيّرت الأولويات وأصبح الاستهداف الاستراتيجي هو الشعب. إذ اعتبر المشروع الأميركي ـ الصهيوني أنّ الاختراق على هذه الجبهة كفيل بتعديل ميزان القوى لصالحه من زاوية الوكالة المحلية. وهو ما يتوافق مع نظرية الحرب الناعمة المعتمدة أميركياً للوصول إلى الفوضى «البناءة». وعلى قاعدة هذه النظرية، أنشئت عشرات الوسائل الإعلامية وجُنّدت عشرات الوسائل الأخرى من مرئية ومسموعة ومكتوبة واستخدمت وسائل التواصل الاجتماعي، في سابقة ليس لها مثيل في الحروب السابقة، من أجل ربح المعركة الشعبية الداخلية. وفي هذه المعركة استُخدم أخطر الأسلحة الفتاكة اجتماعياً: الديني والطائفي والمذهبي والاتني والعشائري، مدعومة بمليارات الدولارات والإغراءات المادية والمعنوية. والهدف بالطبع تقويض البنية الجيوثقافية وإحلال مفاهيم أخرى بديلة منها وتدمير منظومة الولاء الوطني والقومي وتحطيم علاقة الإنسان بالأرض وذلك عبر تهجير أكبر عدد من السكان ووضعهم في مخيمات نزوح، خطط لها مسبقاً خصوصاً في تركيا والأردن إضافة إلى لبنان الذي اعتبر امتداداً طبيعياً للحالة في الكيان الشامي. كان النزوح الخارجي كما الداخلي جزءاً من عملية الإرباك الاستراتيجي الموضوع في وجه القيادة السورية، وهو المنصة الأساسية في العقل التدميري الأميركي، للانطلاق منها إلى التدخل العسكري عبر الممرات الآمنة وبروبغاندا المساعدات الإنسانية.

نجحت القيادة في سورية باستيعاب الهجوم الاجتماعي تماماً كما نجحت في احتواء الهجوم العسكري، وتعاطت بروية وحكمة وفضحت مسلسل الأكاذيب والافتراءات الكثيف. بل قامت بهجومها المعاكس عبر طرح المقارنة بين حالتين، حالة الدولة المستقرة التي قدمت وتقدم الضمانات الاجتماعية الحياتية كافة في السكن والتعليم والطبابة والنقل والغذاء والأمن الاجتماعي، وحالة النازحين في الشتات.

ولقد كان عمل الإدارات السريع لترميم البنى التحتية في المناطق التي أعيدت إلى حضن الدولة الأثر الكبير في إعطاء الأنموذج الفعلي على قدرة الدولة على تبيان الفوارق العملية في هذا السياق.

جاءت الانتخابات الرئاسية لا لتأكيد سيادة الدولة وشرعيتها فقط ولا تتويجاً لانتصار سياسي داخلي، بل لانتصار القيادة عبر المفاجأة الاستراتيجية التي حققتها ببعدها الاجتماعي على القوى الخارجية وعلى رأسها المشروع الأميركي. وقد تجلّى هذا الانتصار في المشاركة الكثيفة في الداخل تماماً كما كان صاعقاً على مستوى التأييد للسوريين المقيمين في الخارج.

جاء هذا الانتصار لينقل الإرباك إلى أصحاب مشروع تدمير سورية. لم تكن زيارة جون كيري، وزير الخارجية الأميركي المنطقة إلا إحساس عميق بفداحة الخسارة التي تلقتها إدارته. كما لم يكن مجيء رئيس البنك الدولي إلى لبنان تقليدياً. كون البنك الدولي هو إحدى أدوات السيطرة الأميركية على العالم والممهد الأساس لسياسة النهب الاستعماري للإمبراطورية العالمية بالاشتراك مع قرينيه صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية.

بلى، لقد نجحت سورية في إدارة المعركة، نجحت الإرادة السورية، نجح الشعب السوري. إنها مرحلة جديدة في تعليم العالم مضمون الكرامة القومية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى