عن الحراك السياسي… ومعادلة رابح ـ رابح
د. محمد بكر
مرحلةٌ سياسية جامعة تتسارع فيها عجلة الحلول السياسية بتواتر كبير تجاه صياغة توليفة دولية وإقليمية بات عنوانها الأوحد، على ما يبدو، «تصنيع الانفراجات السياسية». وبالطبع والمؤكد على قاعدة «المنتصرون معاً»، هكذا قالها وأكدها الرئيس الإيراني عصر الرابح ـ خاسر ولى إلى غير رجعة ، تُطلق المبادرات ويتنامى الحراك السياسي إلى مستويات غير مسبوقة، والعنوان أيضاً فرض الحلّ وفق مقاسات توافقية تسرّ نظر الجميع ، بعد سنوات دامية من الكباش والاشتباك وتناطح الرؤوس، فالوقت قد حان لإسدال الستارة، وما نشهده هو ربما مشاهد الفصل الأخير من لعبة الأمم التي أدلى فيها المشتبكون ما أدلوا من خطط وسيناريوات وتحشيد وعسكرة وسلاح وأدوات وكلّ عناوين ومقومات «كسر العظم»، لم يُكسر عظم أحد بالمعنى الاستراتيجي، قصص صمود تواردت وسيناريوات عناد استمرت، الهدف الأمريكي المعلن في خضم وتلافيف هذه النار كان واضحاً منذ البداية، الإطاحة بالرأس الإيراني عبر سورية والعراق.
صمدت سورية، وكذلك كان خيار العراق في وجه جحافل الإرهاب، إيران هي الأخرى دعمت بقاء سورية والعراق فهي تعلم جيداً ما ينتظرها في حال سقوط هاتين الجبهتين في يد الإرهاب، وبحنكة سياسية وباللين البطولي كما يسميه مرشد الثورة الإسلامية، استطاعت انتزاع اعتراف دولي بحقوقها النووية السلمية وصادقت على الاتفاق مع السداسية الدولية على قاعدة «تحصيل الحقوق وعدم امتلاك سلاح نووي .
هنا تحديداً تغير المشهد برمته، انتهى زمن الكباش والتعنت والمواجهة السيزيفية وكلّ الهيجان الميداني والتصعيد المتنامي في هذه الفترة، ما هو إلا نتيجة طبيعية وردّات فعل متوقعة على فعل التلاقي الحاصل بين الكبار. أوباما قالها صراحة إنّ عقلية الحروب تقوي إيران وإنّ أحداً لن يسلم سيادة بلاده في إيران سواءً كانت القيادة الحالية أم المعارضة أم الشعب، بمعنى حاولنا ولم نستطع. بدوره، الحديث الأميركي ـ الغربي عن إسقاط نظام في سورية أصبح من الماضي، وكلّ الخطر الكبير الذي كانت تمثله إيران بالنسبة إلى خصومها بات، بالمعنى الاستراتيجي للحراك الحاصل أيضاً وراء الظهر. تهرول الوفود إلى طهران، وكذلك إلى دمشق لفتح السفارات وليس للكشف كما قيل عن حالتها وأبنيتها في ظلّ الحرب. دمشق، بدورها، تدخل على الخط وترسل علي مملوك بصفته الأمنية إلى الرياض مرتين لتضع الأخيرة على المحك. يرتدُّ الإرهاب أو ربما أريد له أميركياً أن يرتدّ إلى الجغرافية السعودية والتركية، اللاعبَين الأساسيين في المشهد السوري. ينشط رأسا اللعبة نشاطاً فريداً، الروسي يُفصّل والأميركي يلبس ويُلبس. في الدوحة كان التدشين لصرح التوافقات، من الكبير حتى الصغير، حتى حركة حماس التقى رئيس مكتبها السياسي بوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف. تمضي اللقاءات الثلاثية وتتتابع كالبرق، ما يتسرب وما يُعلن وما يُسرّ بات منطوقه فقط «مواجهة الإرهاب»، فمصر العائدة بقوة في علاقتها مع الولايات المتحدة، بحسب زيارة وزير الخارجية الأميركي جون كيري الأخيرة للقاهرة والمشتركة في التحديات مع «الإسرائيلي»، كما صرح دوري غولد، أعلنت خارجيتها صراحة أنها تدعم سورية في مكافحة الإرهاب، حتى المبعوث الأممي إلى اليمن وخلال لقائه وفداً من حركة أنصار الله في مسقط أعلن لأول مرة ضمن خطته التي سمّاه توحيد الجهود لمحاربة الإرهاب، بل أكثر من ذلك، باتت «إسرائيل» أم الإرهاب في هذه المنطقة تتحدث عن احتمال ضرب مجاميع «داعش» في سيناء إذا ما شعرت بالخطر.
وهنا نسأل: ما الذي يحدث على الساحة الدولية، وما هي ماهية رابح ـ رابح ؟
في الوصفة المسمّاة أمريكياً «ربيعاً عربياً»، كان الهدف الرئيس يرتكز إلى جزئيتين أساسيتين: الأولى، مشروع الشرق الأوسط الجديد أو مشروع التقسيم المراد للمنطقة على أسس طائفية وإثنية وعرقية ومذهبية تمهيداً لشرعنة يهودية الدولة على أرض فلسطين، والثانية، الحفاظ على أمن «إسرائيل». نجح الأميركي في الثانية وفشل في الأولى بسبب صمود الدولتين السورية والعراقية وتصديهما الشرس للأدوات «القاعدية» الفاعلة في إتمام هذا المشروع، ومن هنا يمكن الحديث عن زمن الرابح ـ رابح الذي أفرزته لعبة الأمم، فالمحور الأميركي الذي تتسيده واشنطن استطاع من خلال «الربيع العربي» أن يراكم جبالاً من الدمار والقتل والتخريب والفوضى المسمّاة في أروقته «خلاقة»، وتحديداً في دول الطوق حيث استنزفت واستهدفت المؤسسات العسكرية، ودُمِّرت الموارد والمقدرات والبنى التحية بأدواتٍ مرتزقة وبتمويل خليجي ولم يخسر الأميركي لا جندياً ولا حتى دولاراً واحداً، وكلّ ذلك كرمى لعيون «الإسرائيلي» وضماناً لأمنه وبقائه بعيداً عن النيران المستعرة.
السعودي، بدوره، وبالرغم من فشله المتكرّر في تحقيق ما تصدر له من مهمّات أميركية، وما تعرضت له أدواته من هزائم متتالية، وبعد فشل عدوانه على اليمن الذي بات مستنقعاً غاص فيه حتى أذنيه، إلا أنه حجز مقعده في هذه اللعبة، وكلّ هذا الزعيق والعناد لن يوقف القطار التوافقي على قاعدة إما أن تركب أو أن تبقى وصراخك وحيداً ، وسيتم إشراكه في الحراك السياسي الحاصل وليكون شريكاً في التحالف المحضَّر لمواحهة الإرهاب، إضافة إلى ما يجري العمل عليه لصياغة نوع من النصر السياسي له في اليمن مقابل الكفّ عن الانخراط في المشهدين السوري والعراقي تمويلاً وتسليحاً. التركي، بدوره، حصد الحصاد السعودي نفسه، وسيكون جزءاً من ذاك التحالف مقابل وقف تدفق المسلحين عبر أراضيه وهذا المطلب سيتم صرفه دولياً لصالح التركي لجهة أنه لن يُسمح دولياً للأكراد بتهديد الأمن والسيادة التركيين، ولن يكون لهم أي إقليم أو حكم ذاتي على الأراضي التركية. أما فيما يتعلق بالمحور الروسي الذي تتسيّده موسكو، إذ استطاعت الأخيرة عبر بوابة «الربيع العربي» أن تشكل منظومة دولية عظيمة الشأن سياسياً واقتصادياً أفضت إلى فرض ثنائية القطب أنهت عقوداً من التفرد الأميركي في التسلط والسيادة. إيران، من جهتها، كانت صاحبة الدور الرئيس في صمود حلفائها وإفشال ما كان يحضر من مشاريع أميركية للمنطقة، واستطاعت بالمرونة السياسية المنتجة أن تصوغ الاتفاق النووي مع السداسية الدولية بما يضمن الحقوق وينهي العناوين الخطيرة وتدحرج كرة النار باتجاهها، وتالياً التأسيس لكلّ ما يحصل حالياً على مستوى المنطقة من توافقات. وأبدت سورية، دولة وشعباً وجيشاًَ، من ناحيتها، صموداً فريداً على مدى خمس سنوات، لم يمرّ خلالها مشروع الشرق الأوسط الجديد، وقدمت نفسها شريكاً فاعلاً لا بديل عن التعامل معه في مواجهة الإرهاب، هذا الصمود الذي كان الأساس في استيلاد انعطافات الخصوم، والمحرض لإيجاد حلّ سياسي للأزمة السورية بوجود الأسد والتوافق مع شخصيات معارِضة بعينها فقط، ولأنّ حزب الله من ضمن المعادلة السورية ويوميات ميدانها، فقد بات هو الآخر في قلب الحلّ، وسيكون خارج تصنيفات المنظمات الإرهابية وجزءاً فاعلاً في مواجهة الإرهاب، هذه المواجهة الذي اعتبرها الحزب مواجهة وجود، وعندها تؤجل المعارك الأخرى، بمعنى تأجيل الدخول إلى الجليل ويقين الدخول إلى القدس .
أمام كلّ ذلك، وبعد إنجاز الاتفاق النووي، وما تلاه من توحُّد جميع الإرادات الدولية والإقليمية تحت عنوان أوحد خلال المرحلة القادمة «مواجهة الإرهاب»، يمكن فهم الحديث وبدء التوافق على تسوية شاملة أساسها «رابح ـ رابح» لا حديث ولا شغل ولا حرب فيها إلا على الإرهاب والإرهاب فقط، وعند هذه النقطة تحديداً تقاطعت الإرادات ورُحّلت في اعتقادنا أي مواجهات محتملة إلى أجل غير مُسمّى.
كاتب فلسطيني مقيم في سورية
mbkr83 hotmail.com