العرب والتقدّم إلى الوراء بين الثنائية التركية ـ الفرنسية

ـ قبل قرن بالتمام والكمال، كان العرب يتطلّعون إلى مشروع مزدوج عنوانه ثنائية الوحدة والاستقلال، وكان الاستعمار العثماني يقبض على أنفاسهم ويحتل بلادهم ويسوق شبابهم إلى السخرة. وكان العرب في مشرقهم ومغربهم يتطلعون إلى حلم واحد، وهو دولة عربية مستقلة تجمعهم. وتوهمت بعض النخب التي قادت النضال ضد المستعمر العثماني أن الطريق الأقصر إلى التحرّر من نير المستعمر، يتمثل بالاستعانة بالفرنسي الذي كان يقاتل السلطنة لحساب مشروعه الصاعد والمتجه نحو أسواق الشرق بشركاته وعسكره معاً. وكان ما كان من سقوط العرب في فخ استعمار يرث استعماراً، ونير يتسبدل نيراً في أعناقهم.

ـ في منتصف القرن كان العرب ينتفضون على المستعمر الجديد ويخوضون حروب الاستقلال الضارية وفي بالهم بناء الدولة الوطنية المستقلة. وتراجع الحلم وصارت رقعته أضيق مضموناً وحغرافياً. فسقطت الوحدة من الأهداف وضاقت رقعة الاستقلال من المساحة العربية إلى المساحة الوطنية لكل بلد عربي، وتقدمت عناوين دولة الحداثة والمؤسسات، فصار الفرنسي المستعمر الذي يقاتله العرب مشروع صديق ما بعد الاستقلال، فورث العرب دويلات صغيرة تملك كل منها علماً ونشيداً وجيشاً ورئاسة، وولد في قلب العتمة على أرض فلسطين كيان يستجلب المتطوعين يقاتلون لبناء حلم دولة خلافتهم على الأرض في البلد الذي لم يعد مسؤولية عربية فقد صار كل شعب لبلد وكل بلد مسؤول عن حدوده، فقتل من قتل وهجر من هجر من شعب فلسطين قبل أن تولد له دولة كأخوتهم العرب.

ـ في مطلع القرن الجديد تغير الحلم العربي فصار بناء دولة الديمقراطية وحقوق الإنسان مفتاحاً لتعلمنا لغة العصر. فقد تقدّمنا وتطورت ثقافتنا وصار عندنا خرّيجون بالآلاف درسوا في الجامعات وتعلموا معنى القانون والإنسان ومفهوم الدولة، فسقط الوطن بعدما سقطت الأمة، وصححنا خطأ مطلع القرن ومنتصفه لأننا مرة ظلمنا الأتراك ومرة ظلمنا الفرنسيين، فرددنا لهما معاً الاعتبار كملهمين لثوراتنا وأضفنا لهما مرجعية فكرية تقدمية نباهي بها العالم، هي عائلة حكام الجزيرة بثنائيتها العائلية الحضارية التي اطلقت لنا أول منتج إعلامي حر بقناة فضائية تحدد لنا العدو والصديق ويخبرنا عبرها المفكر العربي عن الثورات. وجاءت لنا بأول إنجاز حضاري هو أولمبياد 2022 لنتعلم كيف ندخل المعادلات الدولية ولا نقع في ملاحقة المحاكم بتهمة الرشوة.

ـ في مطلع القرن الماضي كان يقف لبنانيون وتوانسة وفي كل بلاد المشرق والمغرب يقف شبابنا العربي يقدمون رقابهم للمستعمر ينشدون نموت نحن ويحيا الوطن، ويرددون أشعار أبي القاسم الشابي «إذا الشعب يوماً أراد الحياة». واليوم نباهي بأن خيرة شبابنا تذهب لتقاتل في سورية، ويذهبون مستوطنين جدداً على الطريقة الصهيونية إلى العراق يهجّرون سكان البلاد ويقيمون خلافتهم. فقد انتبهنا انه طالما لا بدّ من القتل والاستيطان والتهجير فلماذا لا نقوم نحن بالمهمة بدلاً من أن يقوم بها الأجنبي، وفي منتصف القرن كان شبابنا العربي يتباهى بالتطوع للقتال في فلسطين، وها هم شبابنا يهبون للتطوع للقتال في سورية، لأننا بعدما نجحنا بإسقاط الأمة لحساب الوطن وأسقطنا الوطن لحساب الدولة وأسقطنا الدولة لحساب السلطة، بقي من يؤرق سمعنا بالحديث عن الأمة والوطن ما يستوجب تأديبه. فهبّ العرب هبّة رجل واحد لإسكات الفضيحة السورية، كي يرتاح الضمير، فما لم نفعله لفلسطين فعلناه في سورية، واستل العرب سيوفهم التي تغمست بالدم الليبي لتتجرد لقطع رأس سورية، فيتم الصمت الذي يحتاجه الثنائي الفرنسي ـ التركي وتفرح به ثورات الحرية، ولم يرف لهم جفن عندما أبلغهم وزير حرب «إسرائيل» موشي يعالون أن حكومته تأتمن تنظيم «القاعدة» بفرعها الشامي «جبهة النصرة» على حدود كيانها، وبقيت عندهم ثورة حرية.

ـ بقي في فلسطين من يقاوم وبقي في لبنان من يحمل راية المقاومة وبقي في تونس من يحيي عيد المقاومة، وبقي نبض لم يتوقف ودم لم يتعفن، وعقول وقلوب لم تنطفئ شعلتها ولا تزال تؤمن بأن السلطة التي لا تظللها دولة هي مشيخة بدوية لا نحتاجها، والدولة التي لا تصلي في محراب وطن ويشكل استقلاله أيقونة بنيه ويشكل جيشه درعاً لمواطنيه هي صنم لا يعبد، وأن الوطن الذي لا ينتمي لأمة يفخر بها وتفخر به يستقوي بها وتستقوي به هو قطعة حلوى في الصحراء يأكلها الذباب، وأن الأمة التي تنسى فلسطين يعرف مستعمروها أنها تقعل ذلك جبناً وخوفاً فيكتشف نقطة ضعفها التي سيستنزف عبرها منها كل عناصر العزة والكرامة وصولاً لدفعها تبيع مستشفياتها ومدارسها ومحطات الكهرباء وشبكات المياه والطرق لشركاته بقوة الخوف نفسه الذي باعت بسببه فلسطين.

ـ بذرة الأمل أن ينهض بيننا هؤلاء الشباب يهتفون لفلسطين والمقاومة، يحدوهم إيمان عميق بأن الاستقلال مدماك الحرية الأول، وأن الأمة هوية تأسيسية لأوطاننا، وأن هذا الوعي الذي أخذ شبابنا في القرن الماضي إلى فلسطين ما كان حماسة ولا انفعالاً، إنما فعل يقين بأن لا أمن لأوطان لا تسورها هوية الإنتماء لأمة، وأن أمن الأمة وخط دفاعها الأول في فلسطين وأن سورية هي جبهة القتال، لكن من جولانها ولبنان ولكن من جنوبه، والأردن ولكن من بحره الحي قبل أن يموت، ومصر ولكن من سيناء والعريش حتى تزهر عناقيدها وتعقد ثمراً، عناقيد لا تنام عنها نواطيرها ولا يسرقها كافور آخر، فلا تضيع أندلس ولا تسقط غرناطة بأيدينا مرة أخرى.

ناصر قنديل

تنشر هذه الزاوية بالتعاون بين صحيفة «البناء» اللبنانية وصحيفة «الشروق» التونسية صباح كل جمعة، ما استحق التحية والشكر للزملاء والأصدقاء في «الشروق».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى