لا مكان للنفاق

ناصر قنديل

– مشهد وسط بيروت يدخل الفرحة والغصة إلى القلوب اللبنانية، حيث شباب يتظاهرون وهم يرفعون شعارات ويطلقون هتافات تهتف لها القلوب ويجسّدون مشهداً طال انتظاره، خصوصاً لجهة التنديد بالتقاسم الطائفي للنظام أو الرفض المطلق للفساد، والتكوين المتعدّد طائفياً ومناطقياً للمتجمّعين، خصوصاً مطالبتهم الواضحة بإعادة تكوين الدولة على أسس غير طائفية تحترم المواطن وتعمل تحت سقف القانون الذي يساوي بين الجميع، وتتحمّل مسؤولية تأمين الخدمات للمواطنين بلا تمييز، وتتولى معالجة الشأن الاقتصادي والتنموي، فتجد فرص العمل للشباب والخرّيجين وتحدّ من هجرة الأدمغة، وتحترم حقوق الإنسان والحريات العامة، وتمنح الجيش الوطني السلاح الذي يحتاجه ليتمكن من حماية الوطن وحدوده، ومع فرحة هذا الحشد المتزايد عدداً، غصة التعامل الفظ والخشن من بعض العناصر الأمنية وظاهرة التسيّب التي رافقت تحديد المسؤولية عن إطلاق النار على المتظاهرين، ودخول البازار السياسي على الخط لمزايدات وتقاذف للمسؤوليات وتناوب على تصريحات التضامن مع المتظاهرين.

– القلب ينبض لما يجري، لكن العقل يجب أن يقول شيئاً آخر، فثمة ما لا بدّ من تسجيله في هذه اللحظة، حيث غالبية الناس المندفعة بحماستها وعفويتها رفضاً لواقع ظالم وفساد فاقع واستهتار لا يحتمل، وحيث الشعور بالمهانة أمام مشهد النفايات، ووجود بلد بلا رئاسة وبلا حكومة ومجلس نيابي ممدّد لنفسه مرتين، وحيث الشباب بغالبيتهم يتحرّكون غضباً لشعور باليأس من الغد وغياب بصيص أمل، وانعدام الفرص واليقين بأنّ الكفاءة ليست ما يقرّر فرصة العمل، ولا أنّ العلم طريق لبلوغ المكانة اللائقة في المجتمع، وحيث النظام السياسي معقم ضدّ التغيير والإصلاح ويتكفل بترويض كلّ متمرّد يدخل للمشاركة فيه، ويتكفل بتطييف كلّ علماني ينزلق إلى غابته التي تحكمها قواعد لا رجعة عنها للعبة الحكم، «حكلي بحكلك ومرّقلي بمرقلك» وما يستدعيه العقل هنا هو التساؤل عن ثلاثة، أولها هل يمكن بلوغ تغيير بسقف عالٍ كتغيير النظام عبر تحرك لا يملك أكثر من هبّة عفوية، وثانيها ماذا سيحدث إذا تحققت كلّ المطالب التي يرفعها المتظاهرون كآلية للتغيير وعنوانها انتخابات نيابية ومن ستحمل الانتخابات إلى البرلمان الجديد، وثالثها هو ماذا إذا طال التحرك واتسع بلا قيادة وبلا تنظيم، ودخلت الفوضى ودخل الاستغلال والاستثمار وصار يشبه ما شهدته تونس ومصر.

– لا تهدف هذه الأسئلة إلى إحباط الشباب المتحرّكين بقدر ما تهدف إلى منع المتاجرة بهم، ومنع إحباطهم بفشل أو بنجاح ظاهري تعود معه التركيبة الحاكمة ذاتها بعد انتخابات نيابية، ومنع تصدّر هبّتهم الجامعة لمجموعة من الوجوه التي تحمل يافطات مؤسسات مجتمع مدني ومعلوم أنّ أغلبها يتلقى تمويله الشهري من السفارة الأميركية وفقاً للائحة منظمة المساعدات الأميركية بمن فيهم إعلاميون وناشطون بيئيون ومنظمات للتشجيع على السلام والديمقراطية، وهم مسيّسون كفاية ليفهموا معنى شعار لا للسياسة، لأنهم يصوّبون على الانخراط الحزبي بطريقة عدائية يعرفون جيداً أنها نحر للديمقراطية، فألف باء الديمقراطية التشكل في أحزاب.

– الحفاظ على نقاء التحرك وفاعليته وقدرته على الإنجاز، تستدعي رسم أهداف ترتبط مباشرة بقضية قابلة للتحقق وتشكل تراكماً على طريق التغيير، وهنا لا يبدو أنّ الطريق مغلق، فالدعوة إلى حلّ لقضية النفايات بإعادتها إلى المسؤول الأصلي عنها، وتخصيص أموال البلديات للبلديات، وتسديد فواتيرها كما كانت تسدّد لشركة «سوكلين»، ومنح نسبة لا تقلّ عن نصف القيمة من السعر المخصّص للتخلص من كلّ طنّ من النفايات، لاتحادات البلديات التي ترتضي إنشاء مطامر لديها كحافز تنموي يعوّض ضرر المطامر، وهذا الحلّ يستدعي أن تتشكل هيئة من اتحادات بلديات الأقضية اللبنانية توضع بين أيديها الموازنة المقرّرة لملف النفايات لتتولى توزع المسؤوليات بالجمع والفرز ضمن نطاقها البلدي، وتأمين الطمر لقاء بدل عادل للاتحادات التي تقدّم المطامر ضن نطاقها، وهذا الحلّ ينجز بأيدي الناس تفوّقاً على الحكومة في ملف حاز هذا القدر من الوقت والاهتمام ويثبت أهلية العمل الشعبي على الإنجاز ويشق طريقاً يمكن اتباعه نفسه في ملفات الكهرباء والمياه.

– في السياسة لا شيء يمنع الذهاب فوراً إلى انتخابات نيابية على أساس لبنان دائرة واحدة وفقاً للتمثيل النسبي خارج القيد الطائفي وتشكيل مجلس للشيوخ لتمثيل الطوائف وهو نص المادة الثانية والعشرين من الدستور اللبناني، ولملاقاة هذه الدعوة دعوة موازية لقيام «تحالف الدولة المدنية»، يضمّ الشخصيات والأحزاب والتكتلات التي تؤمن بدولة مدنية تفصل الدين عن الدولة، وتخوض الانتخابات بلوائح موحدة أملاً بوصول كتلة تغييرية وازنة إلى المجلس النيابي الجديد.

– أسهل الكلام هو النفاق اليوم والقول إنّ ما جرى عظيم وكفى، لكن لا مجال للنفاق في ما نحن أمامه، ولسنا من الذين يقبلون اللجوء إليه.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى