ألغاز وتساؤلات في الذكرى التاسعة والسبعين لاغتيال الشاعر والمسرحي الإسباني غارسيا لوركا
محمد محمد الخطابي
الشاعر الأندلسي الذائع الصيت فديريكو غارسيا لوركا 1898 ـ 1936 الذي اغتيل في منتصف آب عام 1936، مع اندلاع الحرب الأهلية الإسبانية، ما زالت قضية اغتياله تثير عدداً من التساؤلات المحيّرة، وتطرح غيرَ قليل من الألغاز في الأوساط الأدبية والثقافية والتاريخية والسياسية في إسبانيا وخارجها حول هذا الحدث المؤلم، الذي ما انفك يسيل بسببه، ومن أجله حبر غزير منذ حدوثه إلى اليوم، ذلك أن اغتيال الشاعر لوركا تم من دون محاكمة، وفي ظروف غامضة في العهد الفرانكاوي الديكتاتوري المطلق، الذي حكم إسبانيا بيدٍ من حديد زهاء أربعين سنة.
ألغاز وظلال
احتفلت أوساط ثقافية عدّة مؤخراً ابتداءً من يوم الاثنين 17 آب بذكرى هذا الاغتيال في مختلف المناطق والمدن الإسبانية، وبشكل خاص في مدينة غرناطة مسقط رأس الشاعر، وباقي مناطق الأندلس وأصقاعها وبقاعها، لا بل نُشر في هذه المناسبة كتاب جديد تحت عنوان «لغز الموت وقائع المراسلات بين أغوستين وإيميليا يانو والتعليق عليها»، للباحثة مارتا أوسوريو، وقد صدر هذا الكتاب المثير عن دار النشر «كوماريس» التي سبق لها أن أصدرت من قبل كتاب «الخوف والنسيان والخيال» وقائع مباحث الكاتب أغوستين بينون حول فديريكو غارسيا لوركا ، ويضم هذا الكتاب عدداً من المراسلات التي تمت بين هذا الباحث الكبير لحياة الشاعر لوركا وموته، الذي كان من أكبر المعجبين به وبأعماله، وبين صديقته إيميليا، ويعتبر هذا الكتاب تكملة أو امتداداً للكتاب السابق الذي يعالج الموضوع ذاته، وفي وقتٍ يلقي هذا المؤلف المزيد من الأضواء الكاشفة حول هذا الاغتيال، فإنه في الوقت ذاته ينشر ظلالاً وشكوكاً حوله كذلك، وتتمثل أولى الشكوك الرئيسية التي تحوم حول هذا الموضوع الشائك في التساؤل التالي: هل نُقلت رفات لوركا من المكان الذي دُفن فيه، حيث اغتيل، كما أشار إلى ذلك شاهدو عيان الذين سبق لهم أن حددوا مكان إطلاق الرصاص على لوركا..!
لوركا ما زال حياً!
وعلى رغم هذا الاغتيال، فإن الشعراء والكتّاب والنقاد والدارسين والباحثين والمؤرخين والقراء إسباناً كانوا أم غيرَ إسبان، كلهم يؤكدون أن الشاعر فديريكو غارسيا لوركا لم يمت، وهو ما زال حياً، نابضاً، مشعاً، ومتالقاً بيننا، لا بل أنه في منظورهم، سيعيش أبداً في قلوب الناس والقراء من عشاق شعره، وفي أفئدتهم وألبابهم، ومن بين هؤلاء الكتاب والكاتبات والباحثين والباحثات صاحبة الكتاب الأول الآنف الذكر التي أثبتت فيه شهادة أغوستين بينون نفسه في هذا السياق منذ عام 1955، حيث تؤكد الكاتبة مارتا أوسوريو أن هذا الباحث قد سبق عصره، وأخبرنا بما نراه ونسمعه حول هذا الموضوع اليوم، وهو أنه بعد مرور 79 سنة، ما زلنا نردّد التساؤلات نفسها، ونفجر الألغاز نفسها حول هذا الحادث المؤسف والمؤلم.
وتتساءل الكاتبة متأسفة ومتحسرة «أنه لماذا لم يقم المهتمون، ولا الباحثون بشيء ذي بال في هذا الاتجاه؟ وبالتالي فلا أحد يعرف شيئاً عن هذا الموضوع حتى اليوم». وتطالب الكاتبة الباحثين والمؤرخين القيام بعمل جاد، وإجراء بحوث علمية دقيقة بناءً على المعلومات التي جمعها بينون في كتابه القديم، وأنه ليس الشاعر لوركا وحده جدير بهذا الاهتمام، بل جميع هؤلاء الأبرياء الذين لحق بهم حيف كبير، وعانوا من ظلم عاتٍ، هم كذلك جديرون بأن يكون لهم مكان في ذاكرتنا، وحيّز في تاريخنا، ولم يكن هؤلاء من المواطنين الإسبان فحسب، بل كان بينهم أجانب كذلك. وتسرد الكاتبة في هذا القبيل ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ قصة فتاة ألمانية يهودية كانت قد فرّت من بطش النازيين في بلدها ألمانيا، ولكنها لقيت حتفها إلى جانب لوركا، إذ اغتيلت معه في المكان نفسه لأنها كانت صديقة لمهندس اشتراكي إسباني مناهض للفرانكاوية.
الخوف والنسيان
ورأت الكاتبة بأمّ عينيها من منزلها في قلب مدينة غرناطة عدداً من الأسَر التي فقدت أفراداً منها، ومن عائلات إسبانية أخرى من الأساتذة، والكتاب والشعراء والمثقفين الذين تعرضوا هم كذلك إلى أشكال مختلفة قاسية من التعذيب والتنكيل والمتابعة والتضييق، لا بل للاغتيال القهري والقسري الجائر أيضاً، الأمر الذي ترك في أعماقها وطبَعَ في ذاكرتها صوراً فظيعة من الخوف والنسيان والخيال المهول، تماماً كما انعكس ذلك في كتابها الأول حول هذا الباحث الشجاع بينون.
وفي السياق نفسه، هناك كتاب آخر حول هذا الموضوع بالذات وهو للصحافية الإسبانية إيزابيل ريفيرتي، وهو تحت عنوان «حقيبة بينون»، إذ أماطت فيه هي الاخرى اللثام عن غير قليل من الحقائق المرة، والوقائع المذهلة التي لها صلة بحادث اغتيال لوركا. وتعتبر ريفيرتي كتاب «بينون»، والدراسة المستفيضة التي أنجزتها عنه الكاتبة مارتا أوسوريو، عملين جليلين جديرين بكل إعجاب وتقدير، كما تعتبرهما وسيلتين أساسيتين، وطريقين جادين للوصول إلى الحقيقة التي ينشدها الجميع.
إنها تحكي لنا أن أغوستين بينون صاحب الكتاب وهو مواطن من مدينة برشلونة يحمل الجنسية الأميركية وصل إلى مدينة غرناطة عام 1955 مع صديق له آخر أميركي وهو وليام تايلور، الذي كان يحمل نسخة من الطبعة الأولى من كتاب لوركا الشهير «أغاني الغجر»، الذي كان قد ترجم إلى اللغة الإنكليزية وقتذاك، فوجدا غرناطة وكأنها مدينة محظورة غارقة في الخوف والهلع، كان ممنوعاً فيها حتى ذكر اسم لوركا على الألسن.
وتقول مارتا أوسوريو في هذا الصدد: «كانت غرناطة في ذلك الإبان مدينة حزينة لا تبعث على الحبور والبهجة». فترك بينون المدينة على حين غرة وطار إلى نيويورك وبيده حقيبة ملأى بعدد من الوثائق والمراجع والمستندات حول قضية اغتيال لوركا، وهذه الحقيبة هي التي ستقع في ما بعد في يد مارتا أوسوريو.
وفي يوم 17 آب الجاري 2015، صدحت الأصوات قرب مسقط رأس الشاعر في غرناطة وفي المكان نفسه، الذي اغتيل فيه، مجلجلة بصوت المغنية الإسبانية الغرناطية سُوليا مورينتي ابنة المغني الأندلسي الشهير الراحل إنريكي مورينتي وهي تشدو بما معناه «لا بدّ لنا أن نذهب إلى حيث يعشش الصمت الرهيب، لاسترجاع أصوات هؤلاء الذين حاق ولحق بهم الظلم الآثم واغتيلوا ظلماً وعدواناً من طرف الفرانكاويين»، وانطلاقاً من هذا المعنى، وتأسيساً على هذا المفهوم تعرف فحوى إقامة تكريم للشاعر فديريكو غارسيا لوركا، وإلقاء الأضواء على مأساته، وعلى بُعدها الإنساني العميق الغور والمدى.
كما أقيمت احتفالات مشابهة في الأماكن الأخرى التي قضى فيها لوركا أيامه الأخيرة، بما فيها قريته «فوينتي باكيرو» المحاذية لغرناطة الحمراء مسقط رأس الشاعر .
صديق الشاعر السيئ الطالع فديريكو غارسيا لوركا، ورفيقه في مجموعة الجيل الأدبي الإسباني الذائع الصيت المعروف بجيل 27، الشاعر الأندلسي رفائيل ألبرتي كان قد كشف النقاب قبيل رحيله عام 1999 من جهة أخرى عن تفاصيل مصرع لوركا، وكيف أنه واجه الموت بشجاعة وصلابة وثبات. ويقول في هذا الخصوص: «إن طبيباً إسبانياً اسمه فرانسيسكو فيغا دياث كان شاهد عيان في حادث اغتيال الشاعر لوركا المؤسف، قد حكى قصة في هذا الشأن ردّدها له سائق السيارة الذي قاد لوركا، إلى جانب معتقل آخر وثلاثة من العساكر الذين ينتمون إلى الحرس المدني الإسباني، الذين ينعتون في اللغة الإسبانية بغوارديا ثبيل فقال: إن الطريقة التي قتل بها لوركا كانت حتى الآن لغزاً محيراً، وقد أعطيت تفسيرات مختلفة حول هذا الأمر، وبحسب فرانسيسكو فيغا دياث فإن سائق التاكسي كان قد زاره في عيادته في 13 آب 1936، أي قبيل مقتله بأربعة أيام. الأحداث وقعت في الليل، وقد تعرّف سائق التاكسي إلى واحد من الذين تم القبض عليهما وهو الشاعر الغرناطي، بواسطة الكشافات التي أوقدها الحراس للقيام بعملية الاغتيال.
وكان غارسيا لوركا قد سافر من مدريد إلى مسقط رأسه غرناطة ، وكان يعتقد أنه في أرضه سيكون في مأمنٍ من الخطر الذي كان يداهمه ويحدق به من كل جانب. وأضاف ألبيرتي: «لوركا كان يغشاه خوف الأطفال، وكان يعتقد أنه في غرناطة لن يحدث له شيء»، فركب القطارَ إليها على عجل، إلا أن الموت فاجأه هناك، فكل منا يحمل موته معه». ولقد سمع سائق التاكسي الشاعر لوركا يقول لقتلته: ماذا فعلتُ حتى تعاملوني هكذا؟ ثم ألقى الحراس بعد ذلك بلوركا والشخص الذي كان معه كان مسناً وأعرج داخل حفرة منخفضة أعدت من قبل خصيصاً لهذه الغاية، فعمل الشاعر على مساعدة زميله على الوقوف، ما زاد في حنق الحراس حيث ضربه أحدُهم بمؤخرة سلاحه وشجّ به أمّ رأسه، ثم بدأ القتلة يشتمون الشاعر، ويرمونه، وينعتونه بأحط النعوت، وطفقوا بعد ذلك في إطلاق النار عليه على الفور. وأكد السائق أن اثنين من مصارعي الثيران، وعشرة من الأشخاص الآخرين كانوا قد قتلوا كذلك في تلك الليلة نفسها.
وتشير الكاتبة والناقدة المكسيكية إيرما فوينتيس معلقة على ذلك: «الشعراء مثل الأبطال والأنهار، يطبعون شعوبهم بطابعهم ويجعلون شعبهم يختلف عن الشعوب الأخرى، فالشعراء يتركون في العالم ضوءاً مشعاً متعدد الألوان، يجعلون الرجال يجتمعون ويتحدون على رغم تباين أجناسهم وثقافتهم، وعلى رغم الخلافات السياسية والإيديولوجية والمذهبية والمشاحنات، التي قد تنشب بينهم، وقد تصل حد الحروب والعنف واستعمال القوة. فكل شاعر من هؤلاء بغضّ النظر عن الزمن الذي يولد فيه، يصبح بمثابة معزف كوني متعدد الأوتار والأنغام، وإن اختلفت تنويعاته وتقاسيمه، فهو يعزف لحناً واحداً يعظمه كل موجود حي في أي صُقع من أصقاع العالم».
وتضيف الناقدة: «وعليه، فإن فقدان أي شاعر لدى أي أمة مثل حالة لوركا هو حدث تراجيدي يمس الإنسانية جمعاء، لا رقعته الجغرافية أو بلده وحسب، هذا على رغم وجود شعراء آخرين كبار، وأما إذا اغتيل شاعر فإن الشعور بالمأساة يتفاقم ويزيد ويكون أفظع أفدح».
أصوات الموت دقّت
من ذا الذي يمكنه أن يعوّضنا ما ضاع مع الشاعر، بدأ غارسيا لوركا قرض الشعر في العشرين من عمره واستمر في الكتابة حتى يوم اغتياله عام 1936. وقد خلّف لنا عشرات القصائد مبثوثة في عدد من دواوينه مثل «كتاب الأشعار»، و«قصائد غنائية»، و«القصائد الأولى»، و«أغاني الغجر الشعبية» و«شاعر في نيويورك»، و«بكائية عن إغناسيو سانشيس ميخياس». ثم كم من الدواوين كان يمكن أن تضاف إلى هذه القائمة لو استمرت حياته على وتيرتها الطبيعية؟ كيف ستكون أعماله الآن؟
قال لوركا عندما كان على بضع خطوات من نهر «الوادي الكبير» الذي ما زال يحمل اسمه العربي والإسلامي القديم إلى اليوم:
أصوات الموت دقّت
قرب الوادي الكبير
أصوات قديمة طوّقت
صوتَ القرنفل الرجولي
ثلاث دقّات دموية أصابته
ومات على جنب
على رغم شغفه بالمسرح، فإنه في حياته الأخيرة لم يتوقف عن نظم أشعار رقيقة مؤثرة وحزينة، كانت الأندلس من أبرز علامات هذه الأشعار. كان لوركا مجدداً وفريداً، وطائراً غرّيداً في الشعر، كان من الطليعيين إلى جانب بابلو بيكاسو في عالم الصوَر والتشكيل والرسم حتى أصبح من أعظم شعراء القرن العشرين.
مات لوركا مقتولاً مجندلاً، مات مغتالاً برصاص الغدر والخيانة، والكراهية من أعداء الشعر، وأعداء الحياة، وأعداء المحبة والحرية والسلام.
باحث مغربي