الديمقراطيّة الأصيلةالمكتوبة بالصوت السوريّ
د. سلوى الخليل الأمين
لطالما أتحفونا بالقول إنّ الشعب العربي قاصر وجاهل وهو في حاجة إلى من يعلمه أصول الحرية ويدرّبه على ممارسة الديمقراطية، ولطالما استباحوا العقول الضعيفة التي تذهب مذهب الريح في الانشداد إلى عصرنة زائفة، لا تحمل في تلافيفها سوى الغدر والمكر واستباحة الأرواح البريئة والعقول الضعيفة. هكذا فعل الاستعمار سابقاً بأمّة العرب على مدى قرون وعصور، وإلى اليوم ما زال يضخّ السموم الفتاكة لهلاك هذه الأمة التي ابتليت بحكام لا يعرفون قيمة الشعب المناضل والمجاهد والصابر، وكلّ ما يعرفونه هو: «أمرك سيدي… ويا طويل العمر».
في ما مضى وقفت امرأة لتجادل الخليفة الإسلامي الفاروق عمر بن الخطاب، وعندما حاول أحدهم إسكاتها، التفت إليه الخليفة الفاروق أمام الجموع المحيطة به قائلاً: « دعها، صدقت إمرأة وأخطأ عمر». أليس هذا الموقف هو الأساس لديموقراطية عرفها العالم منذ اختار رب العالمين هذه الأرض المقدسة مكاناً لشرائعه السماوية التي أنزلت للعالمين دستوراً كرست في مضامينه أسس العدالة والمحبة والتسامح والحرية وحتى الديمقراطية التي جعلت الأساس في معاملة الناس بعضهم للبعض الآخر، بعيداً عن العصبية الجاهلية والغزو القبلي المنظم.
هذه الشرائع حوّلت المجتمعات القديمة إلى مجتمعات متطوّرة في العقل والفكر، بحيث تماهت القصيدة الجاهلية مثلاً من مضامينها المحلقة في بيئة البداوة، لتصبح في ما بعد في العصر الإسلامي والأموي وبعده العباسي والأندلسي مفتوحة على مختلف التطوّرات الميدانية، البعيدة تماماً عن البكاء على الأطلال. لذلك بدأ التخاطب مع القيادات من منطلق ديمقراطي بحت، أسسه حرية المعتقد وحرية التجارة وحرية التعلم وحرية التفقّه، وأسس المعرفة المتنقلة من الهند واليونان وبلاد فارس إلى بلاد العرب، حتى أصبحت الحضارة العربية المدماك الأساس الذي منه قطفت الحضارة الغربية أسس انطلاقتها وحداثتها وتطورها الراهن في عصر العولمة.
هنا علي ربّما الاستشهاد بما قاله عالم الفضاء الكبير البروفسور شارل العشي، رئيس مركز الدفع النفاث في وكالة الفضاء الأميركية «الناسا» JPL ، الذي أنزل أول مركبة على سطح المريخ، وكنا استضفناه في لبنان بدعوة من «ديوان أهل القلم» الذي أترأسه، عام 2006، إذ وقف أمام الجمهور اللبناني المحتشد في القاعة الكبرى في قصر الأونيسكو قائلاً: «إنّ العرب هم أول من عرف علم الفلك، ومن حضارتهم وعلومهم انطلقنا في عالم الفضاء باحثين منقبين عن أسرار المجرّات والعالم الخارجي.
أسوق هذه الشهادات للقول إنّ منبت الديمقراطية من بلادنا، خصوصاً من بلاد الشام أرض التاريخ والحضارات، لذا لا غرو في خروج الشعب السوري تحت وابل التهديدات المنظمة والمبرمجة إلى صناديق الاقتراع لاختيار رئيسهم الدكتور بشار الأسد قائداً للمرحلة المستقبلية لسورية العظيمة، وهي بوابة هذا الشرق العربي، شاء من شاء، وأبى من أبى، فالشعب السوري قال كلمته الصادقة والوطنية، وحريته ليست خاضعة للتصدير والاستيراد، بل هي عقيدة ثابتة لا تتزحزح، مثل جبل قاسيون المطلّ على شامة الدنيا دمشق، ويحدّث الغادون والآتون عن حكايات بطولات سلفت حطمت سيوف المستعمرين وجمّدت قراراتهم الدولية الهادفة إلى تدمير سورية وقتل شعبها وتفتيت جيشها.
أثبت زحف الشعب السوري في الداخل والخارج أنّ الجهل مكتوب على جبين كلّ من لا يقرأ التاريخ من الأميركيين والأوروبيين، وحتى من حكام تركيا والعرب الأعاريب، فأميركا حسب ما أفادني مسؤول كبير في الإدارة الأميركية: «لا يقرأون التاريخ»، وبالتالي يرسمون الخطط للسيطرة على ثروات الشعوب المستضعفة بشكل متوازٍ لا يعرف الاختلاف، علماً أنّ لكلّ شعب حضارته وتاريخه وخصوصياته المختلفة، ولذلك لم ينجحوا في أفغانستان والعراق وسورية، وحتى في فلسطين المحتلة، ولا في رسم الخطط للقضاء على حزب الله في لبنان، فرهاناتهم دوماً خاطئة، وأساليبهم لا تلامس العدالة ولا الديمقراطية ولا حتى حقوق الإنسان، ولذلك هي مفقودة عبر العالم، والدليل الفقر طاعون العصر، والأمراض المستعصية التي لا علاج لها، والبيئة الملوثة، والحرب الجرثوميّة الخفية المقبلة، والأرض التي على قاب قوسين أو أدنى من الانفجار العظيم… لذا يتفاعل الخوف في رؤوس المعتدلين عندنا من تراكم الجهل السياسي باختلافات الشعوب وحضاراتها، لكن لا حياة لمن تنادي، ولذلك على الشعوب المضطهدة أن تقاوم وتقاوم لأجل تغيير المسارات المتسلطة، ولأجل أن تعرف الولايات المتحدة الأميركية قراءة الدرس من جديد.
اليوم الشعب السوري كتب بصوته ديمقراطيته التي يريدها، رافضاً الإرهاب المنظم المصدّر إلى سورية من 85 دولة غربية وعربية، ومؤكداً على حرّيته والتمسك بأرضه ووطنه. أمام هذا المشهد، يفترض أن تعترف السلطة الأميركية بفشلها بطريقة علنية لا مواربة، كتلك التي صرّح بها وزير خارجيتها جون كيري في بيروت، ولذلك لا يجوز استمرار الرهان على مقولة فرّق تسد، والحكم للأقوى، فالشعب العربي، بخاصة في سورية، أثبت أنّ الحقيقة تستعيد عافيتها من بوابة الاستحقاق الرئاسي السوري، فالمواطن السوري أعلن عبر صوته الممنوح للرئيس بشار الأسد سقوط الهيمنة الغربية من طقوسه وقواميسه، ولا مكان لتنصيب بعض الجهلة العرب حكاماً في الحارات السورية وفي عقول السوريين وقلوبهم، ومن ظنّ في لحظة خريفية أنّ في استطاعته تدمير سورية وزعزعة أسس الدولة فيها وإسقاط رئيسها ومحو دورها الوطني والقومي عن الخريطة هو واهم وغبي لا يتقن الغوص في خصوصيات الشعوب وحضاراتها المعتقة.
من جديد، أثبت الشعب السوري أنه القادر على تصدير الحرية والديمقراطية إلى العالم أجمع، فهو ابن التاريخ التليد، وابن الحضارات المتعاقبة، وابن الشرائع السماوية والأحزاب العقائدية التي استقى منها عنفوانه وعزته وصون كرامته. فهو لم ينحن لجبروت أميركا والصهيونية العالمية ولا لحلفائها الأشاوس حكام النفط والغاز، ولا للعملاء الفريسيين الذين وقفوا ضدّ بلدهم، وضدّ كلّ من يقاوم العدو «الإسرائيلي» في سورية ولبنان وفلسطين.