معلّم ناجي العلي: كان يشبه «حنظلة» بسخريته!
وديع عواودة
نحو ثلاثة عقود مرّت على استشهاد فنان الكاريكاتير الفلسطيني الشهير ناجي العلي، وما زال الفلسطينيون يحيون ذكراه ويبدون اشتياقهم لرسوماته الحادة والرشيقة.
ومنذ أيام قليلة، أحيت حركة «فلسطينيات» داخل أراضي 1948 ذكرى استشهاد ناجي العلي، بزيارة مسقط رأسه قرية «الشجرة» في قضاء الناصرة، وإقامة معرض فنّي بمشاركة الفنانة التشكيلية رنا بشارة.
وعرضت رسومات ناجي العلي بجوار عين قرية «الشجرة» التاريخية حيث كانت مراتع طفولة الراحل وبداية صباه، هو الذي استشهد برصاصة مجهول حتى الآن في لندن قبل 28 سنة.
يقول زملاء المدرسة ناجي العلي وجيرانه إنه ـ منذ كان طفلاً ـ تميّز بالرسم على حيطان الجيران.
هاني ذيابات أبو نعمان 78 سنة ابن قرية ناجي العلي التي دمّرتها القوات الصهيونية عام 1948، يستعين بذاكرته القوية لاستعادة ذكريات ست سنوات جمعتهما على مقاعد الدراسة. أبو نعمان اللاجئ في قرية «طرعان» المجاورة يوضح أن المدرسة كانت صغيرة، وضمّت نحو 60 طالباً. ويعدد أسماء معظمهم وكل المعلمين.
ويشير إلى أن معلّماً من بيسان يدعى حريص، علّمهما الرياضة والأناشيد الوطنية والقومية والرسم، وتنبّه مبكراً لموهبة ناجي العلي. ويتابع إنه منذ طفولته اعتبر ناجي العلي رسام المدرسة والحيّ. وخلال اللهو في لعبة «الحيزة»، كان ناجي يتولى مهمة رسم المربّعات على الأرض. ويقول أبو نعمان الذي يكويه الشوق والحنين لمسقط رأسه إنه وأترابه كانوا يسرقون حجارة الجير الطباشير من المدرسة لتزويد ناجي العلي بها كي يرسم على الجدران والبوابات.
يذكر أن الشهيد كان يكثر من رسم الحيوانات كقطعان الماعز والجمال والطيور بسرعة ودقة فائقتين، وكان بمقدوره أن يرسم حيواناً أو طيراً في ثوانٍ بعدما يمرّ من أمامه بلمح البصر. وأشار أبو نعمان إلى أن ناجي العلي نزح مع عائلته إلى قرية «العزير» المجاورة ومنها إلى لبنان نتيجة تصاعد اعتداءات العصابات الصهيونية على «الشجرة». وأن العلاقات بينهما انقطعت منذ النكبة عام 1948.
من ناحيته، يذكر محمد ذيابات أبو إبراهيم 79 سنة من «الشجرة» أصلاً والمقيم في بلدة «كفركنا» المجاورة منذ النكبة، أن ناجي العلي كان في طفولته نحيفاً مسالماً وهادئاً، لكنه كان يميل إلى الكلمات اللاذعة.
نجية هياجنة أم عادل 79 سنة المقيمة في قرية «كفركنا» المجاورة ولدت في العام نفسه الذي ولد فيه ناجي، عام 1936. وتؤكد هي الأخرى أنه كان مغرماً بالرسم على الحيطان. وتشير إلى أنه أحبّ الرسم على جدران وبوابات المنازل في قريته، وأنه كان ذكياً لمّاحاً وسريع البديهة، وتستذكر أنه دأب على مساعدة والده في العمل بعد الظهر في دكان يملكه في حيّ «المنزول» في قرية «الشجرة».
ويؤكد المربّي المتقاعد محمود عبد الفتاح أبو الرائد 86 سنة ، المقيم في مدينة الناصرة ما قاله أتراب ناجي. ويقول إنه يذكر ناجي العلي طالباً نبيهاً لمّاحاً. ويشير أبو الرائد الذي يقرض الشعر ويتمتع بذاكرة قوية، إلى أنه عمل في التدريس في مدرسة «الشجرة» لسنتين قبل نكبتها عام 1948 ويقول إنه عرف ناجي وعائلته عن قرب.
ويذكر أنه درّس ناجي العلي يوم كان تلميذاً في العاشرة من عمره بعمر «حنظلة»، موضحاً أن بينهما شبهاً بالروح. وأضاف: على رغم صغر سنّه، كان يمكن استشعار روحه الساخرة.
وقبل وفاته، أكد ذلك على مسامعنا الفنان الراحل إبراهيم محمد صالح أبو عرب ابن قرية «الشجرة» التي هُجّر منها وهو في السابعة عشرة من عمره بالقول إنه لم يكن في القرية سوى 17 أمّياً.
أبو عرب زار «الشجرة» في 2012 للمرة الأولى، وفوق ترابها استذكر رفيق دربه في الفنّ الملتزم. وقال إنه حينما كانا يسافران سوياً اعتادا على المبيت في غرفة واحدة، فيقضيان الليل في استحضار ذكريات جميلة وأليمة من أيام الطفولة والصبا في «الشجرة» التي أثّر الشوق إليها فيهما وبفنّهما عميقاً. ويتابع: «كنا نلفّ الجبال والسهول ونتجوّل بين الكروم والحقول لالتقاط ثمار الذرة وتناولها بعد شيّها على الحطب».
كما استذكر سمفونية «الأجراس الرنانة» المثبتة في أعناق الماعز وهي عائدة عند المساء من الرعاية، فيما كان الرعاة بدورهم يملؤون الفضاء بألحان الناي الشبّابة . ويضيف: كان ناجي يقول لي إن أصوات صياح الديوك في الصباح وهي تملأ الفضاء ظلت ترن في أذني.
«أنت عدت بالساعة وناجي لم يعد؟»، سألنا الشاعر الذي أسّس للأغنية الفلسطينية التراثية الملتزمة، فأنشد بصوت حزين شجيّ مرتجلاً قبالة موقع «توتة الدار»: «أوف أوف أيام الدهر يا ناجي لو أنك لو أنك حزين وسمع هالوادي. لو أنك لو أنك قبل ما تغادر كحّلت عيونك بشوف التراب».
ويرجّح أبو عرب أن ناجي العلي دفع ثمن رسوماته الجريئة ومواقفه الصلبة يوم أطلق عليه مجهول رصاصة في رأسه في 22 تموز1987. واستشهد بعد أكثر من شهر، ودفن في لندن بخلاف وصيته بأن يدفن بجوار والده في مخيم عين الحلوة الذي عاش فيه تاركاً زوجة وأربعة أبناء ونحو 40 ألف لوحة رسم.