حق العودة في القانون الدولي

عصام الحسيني

عبر التاريخ الإنساني الطويل، كانت النزاعات والصراعات والحروب، من الحقائق والمسلمات التاريخية، التي لا يرقى إليها الشك، ولا تزال.

فقد قامت حضارات في العالم القديم، على أنقاض حضارات أخرى، حضارات ما قبل الحقبة القانونية، تستمد شرعية حقوقها من قوتها، ومن حريتها المطلقة غير المقوننة، حضارات تكون فيها الغلبة للقوة، كمعيار لولادة سلطة حاكمة، تلغي كلّ السلطات الأخرى، أكان على مستوى الحضارة السابقة، أو على مستوى الجماعة نفسها، أو على مستوى الحيز الجغرافي الخاضع لها، وتعيش خارج إطار المجتمع القانوني. هي سلطة مطلقة، سلطة الحقوق الطبيعية اللاقانونية.

ومع انتقال المجتمعات والحضارات الإنسانية، من حالة الحقوق اللاقانونية، إلى حالة الحقوق المقوننة، بعد مؤتمر وستفاليا ، برز مفهوم الحقوق القانونية الإنسانية المختلفة، والتي عُرفت فيما بعد بالقانون الدولي العام.

ومع تطور الفكر الإنساني، وتطور الحضارات القائمة، تطور مفهوم الحقوق الفردية والجماعية، للجماعات والمجتمعات الوطنية والدولية، ثم صدرت هذه الحقوق في مواثيق واتفاقيات ومعاهدات وعهود، كانت الحالة الضامنة لمجتمع أفضل، على المستوى الفردي والجماعي، الوطني والدولي.

أقرّت كلّ الشرائع الوضعية حقوقاً ثابتة لكلّ المجتمعات الإنسانية، من مدنية وسياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، وتمّت صياغتها كحقوق ملزمة للمجتمع الدولي، لا يمكن تجاوزها أو إغفالها أو المسّ بها، وهي تعرف في القانون الدولي بـ«القواعد الآمرة». وقد تضمن القانون الدولي لحقوق الإنسان، مجموعة من الاتفاقيات التي ترعى احترام حقوق الإنسان مثل: «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان»، «العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية»، «العهد الدولي الخاص بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية»، وغيرها. كما تضمن القانون الدولي الإنساني، مجموعة من الاتفاقيات، منها اتفاقيات جنيف الأربعة، والمتعلقة بحماية المدنيين زمن الحرب. وتضمن ميثاق الأمم المتحدة، مجموعة كبيرة من المبادئ العامة، التي تحضّ على مأسسة الحقوق العامة الإنسانية، ووجوب العمل بها، وحمايتها.

تحدث ميثاق الأمم المتحدة في الديباجة، عن تأكيد الإيمان بالحقوق الأساسية للإنسان وبكرامة الفرد وقدره، وبما للرجال والنساء والأمم كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية.

كما تحدث في المادة الأولى الفقرة 1 ، عن حفظ السلم والأمن الدولي، وعن قمع أعمال العدوان، وغيرها من وجوه الإخلال بالسلم، وفقاً لمبادئ العدل والقانون الدولي.

وفي الفقرة 2 من المادة نفسها، أقرّ الميثاق بحقّ الأمم في تقرير مصيرها.

إنّ حق تقرير المصير، هو من الحقوق الأساسية للشعوب، وهو يأتي في سياق «القواعد الآمرة» التي يجب احترامها، والعمل بها، ووجود شعب أو أمة تعيش خارج إطار هذا المفهوم، يرتب عملية محاسبة قانونية دولية، على اعتبار أنه خالف «قاعدة آمرة» ملزمة.

وفي مثال عالق في القضايا الدولية، القضية الفلسطينية، وما تحمله هذه القضية، من تداخل لعوامل متعدّدة، منها الديني والإثني والإنساني والقانوني.

تلك القضية تختزن في واقعها تراكمات من التجاوزات القانونية في حقها، من الاحتلال إلى التهجير إلى الاستيطان، فالتهويد، خلافاً لكلّ ما نصّت عليه حقوق الإنسان. فقد قامت المليشيات الصهيونية منذ العام1947، باحتلال القرى والمدن الفلسطينية، ومارست الإرهاب والتنكيل والقتل الجماعي ضدّ الشعب الفلسطيني، وترافق ذلك مع أكبر عملية تهجير قسري لمئات الآلاف من الفلسطينيين إلى مناطق مجاورة، لتتشكل مشكلة اللاجئين والتي تُعتبر من أبرز ظواهر قضايا اللاجئين في القرن العشرين.

فقد فرضت مشكلة اللاجئين نفسها على المجتمع الدولي، ما أجبر منظمة الأمم المتحدة على إصدار العديد من القرارات الخاصة باللاجئين الفلسطينيين، وحقهم في العودة إلى ديارهم. وكان من أبرز هذه القرارات، القرار رقم 194 الصادر بتاريخ 11 كانون الأول عام 1948 ، والذي تحدث في الفقرة في الفقرة 11 عن حقّ العودة وحقّ التعويض «تقرر وجوب السماح بالعودة في أقرب وقت ممكن للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم، ووجوب دفع تعويضات عن الممتلكات للذين يقرّرون عدم العودة إلى ديارهم، وعن كلّ مفقود أو مصاب بضرر، عندما يكون من الواجب وفقاً لمبادئ القانون أن يعوض عن ذلك الفقدان أو الضرر من قبل الحكومات أو السلطات المسؤولة».

وإذا كان الهدف الحقيقي من القرار، هو إنشاء لجنة توفيق دولية، تقوم بإجراء الاتصالات مع الأطراف المتصارعة، بهدف التوصل إلى تسوية سلمية، لكنه أكد على حقّ العودة بشكل قاطع.

ثم توالت القرارات الدولية، التي تؤكد على حقّ العودة، ومنها نذكر: القرار الدولي 394 الصادر عام 1950، والقرار 494 الصادر عام 1950، والقرار 513 الصادر عام 1952، والقرار رقم 2452 الصادر عام 1968، والقرار رقم 2535 الصادر عام 1969، والقرار رقم 2963 الصادر عام 1972، والقرار رقم 3089 الصادر عام 1973، والقرار رقم 3236 الصادر عام 1974.

وقرارات مجلس الأمن: رقم 89 الصادر عام1950، والقرار رقم 93 الصادر عام 1951، والقرار رقم 237 الصادر عام 1967.

واعتبر القانون الدولي أنّ قرارات الجمعية العامة، المتكرّرة بنفس الموضوع، ولمرات متعدّدة، وبأكثرية موصوفة، تشكل قاعدة عرفية من قواعد القانون الدولي، وهي قرارات لها قوة الزامية، لأنها تعكس رأياً عاماً دولياً لم يتغير. لذلك تعتبر القرارات التي تتناول أحقية حقّ العودة، الصادرة عن الجمعية العامة، هي بمثابة «قاعدة آمرة» يجب العمل بها، وهي قرارات ملزمة.

إضافة إلى قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، هناك العديد من الإعلانات والمواثيق والعهود الدولية، التي تتحدث عن حق العودة ومنها:

أ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، المعتمد من الجمعية العامة للأمم المتحدة، تاريخ 10 كانون أول 1948:

حيث ذكر في المادة 13 الفقرة 2 «يحقّ لكلّ فرد أن يغادر أية بلاد بما في ذلك بلده كما يحق له العودة إليه».

وفي المادة 14 الفقرة 1 : «لكلّ فرد الحقّ في أن يلجأ إلى بلاد أخرى أو يحاول الالتجاء إليها هرباً من الاضطهاد».

وفي المادة 15 الفقرة 2 : «لا يجوز حرمان شخص من جنسيته تعسفاً أو إنكار حقه في تغيرها».

وفي المادة 17 الفقرة 2 : «لا يجوز تجريد أحد من ملكه تعسفاً».

إنّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، قد رسخ حقّ العودة لكلّ من يغادر بلاده، طوعاً أو هرباً، ورسّخ حقه في الاحتفاظ بجنسيته وملكه، وأي تجاوز لهذه الحقوق، يعتبر خارج إطار الشرعية الدولية.

ب اتفاقية جنيف الرابعة، تاريخ 1949 : والتي تعتبر أحكامها آمرة، لجهة وجوب حماية المدنيين زمن الحرب. وجاء في المادة 49 منها: «يحظر النقل الجبري الجماعي أو الفردي للأشخاص المحميين أو نفيهم من الأراضي المحتلة إلى أراضي دولة الاحتلال، أو إلى أراضي أي دولة أخرى، محتلة أو غير محتلة، أياً كانت دواعيه».

ج العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، المعتمد من الجمعية العامة للأمم المتحدة، بموجب قرار رقم 2200 الصدر بتاريخ 1966 : والذي يعتبر ملزماً للكيان الصهيوني، لأنه وقع عليه بتاريخ 3/10/1991 . وجاء في المادة 12 الفقرة 2 منه: «لكلّ فرد حرية مغادرة أي بلد، بما في ذلك بلده».

وتنصّ الفقرة 4 من نفس المادة: «لا يجوز حرمان أحد، تعسفاً، من حقّ الدخول إلى بلده».

إذاً ومما تقدم، فإنّ معظم التشريعات الحقوقية الدولية، قد أسّست لشرعية حقّ العودة، وفلسفته كحقّ يتمتع بالخصائص التالية:

أولاً: هو حقّ غير قابل للتصرف، وهو من الحقوق الثابتة الراسخة، مثل باقي حقوق الإنسان.

ثانياً: هو حقّ ثابت لا ينقضي بمرور الزمن.

ثالثاً: هو حقّ لا يخضع للمفاوضات أو التنازل.

رابعاً: هو حق لا يسقط أو يعدل أو يتغير مفهومه، في أي معاهدة أو اتفاق سياسي من أي نوع.

خامساً: هو حق شخصي إضافة إلى كونه جماعياً، ولا يسقط أبداً.

غير أنّ كلّ القرارات الدولية الملزمة، التي دعت العدو الصهيوني إلى الاعتراف بحقّ العودة للفلسطينيين لم يستجاب لها، لثلاثة أسباب:

الأول: أنّ العدو الصهيوني وفي تاريخ وجوده، لم يعترف بالقرارات الصادرة عن الأمم المتحدة، إلا بقرارين كانت لهما ظروفهما الخاصة، ولم ينفذ منها إلا ما يتناسب مع مصالحه، وهما:

أ القرار الدولي رقم 181 تاريخ 27/11/1974 ، وهو قرار تقسيم فلسطين، والتزام العدو الصهيوني باتفاقية بروتوكول لوزان، القاضية «بانسحاب العدو من الأراضي التي احتلها خارج حدود التقسيم»، واستعداد العدو للسماح لأهل فلسطين بالعودة إلى ديارهم.

لقد تبين بعد ذلك، أنّ توقيع العدو على بروتوكول لوزان، كان مناورة خادعة لإيهام الدول الأعضاء في الجمعية العامة للأمم المتحدة، بأنه سيلتزم بالتسوية التي توصلت إليها لجنة التوفيق الفلسطينية في لوزان، وكان الهدف منها إقناع الجمعية العامة بقبول كيان العدو عضواً في الأمم المتحدة.

وبعد قبول عضوية كيان العدو في المنظمة الدولية، أعلن أنه لن ينفذ ما تمّ الاتفاق عليه في لوزان بتاريخ 28 7 1949 ، وبعثت وزارة خارجية العدو، بمذكرة رسمية إلى اللجنة الفنية التابعة للجنة التوفيق الفلسطينية تقول فيها «إنّ الساعة لا يمكن أن ترجع إلى الوراء، وإنّ عودة أي لاجئ إلى مكان إقامته الأصلية هو شيء مستحيل».

ب القرار الدولي رقم 425 الصادر بتاريخ 1978، والذي يقضي بانسحاب العدو من لبنان، والذي نفذه مرغماً بعد أكثر من عقدين من الزمن، تحت وقع ضربات المقاومة اللبنانية، وهو لم ينفذ بالكامل لتاريخه.

الثاني: أنّ العدو الصهيوني، عمل على خطة بديلة لعودة اللاجئين الفلسطينيين، وخلافاً لما نصت عليه القرارات الدولية، وفي مقدمتها القرار رقم 194 والذي يعتبر مرجعية قانونية أساسية لحقّ العودة، تقضي بتوطينهم في البلدان التي يعيشون فيها، ومعظمها من البلدان العربية.

لكنّ الكيان الصهيوني لم ينجح حتى الآن، في الحصول على قرار دولي، يسمح بالتوطين والالتفاف على حقّ العودة، والقول «أنه بعد أكثر من ستين سنة من الالتحاق باللجوء، لا يمكن المطالبة بالعودة».

لقد تمكن العدو الصهيوني، من زرع فكرة التوطين لدى الكثير من الطبقة السياسية العربية الحاكمة، الملتزمة بمدرسة التسوية ونظرية السلام وقوننته عبر اتفاقيات ومعاهدات منفردة، كمعاهدة «وادي عربة»، والتي تضمنت في المادة 8 الفقرة 3 دعوة لتوطين اللاجئين: «من خلال تطبيق برامج الأمم المتحدة المتفق عليها، بما في ذلك العمل على توطينهم».

وحتى في اتفاقية أوسلو ، والتي تعتبر بحقّ الاغتصاب الثاني لفلسطين، من خلال الاعتراف بالعدو المغتصب، وشرعية وجوده، نجح العدو في وضع اتفاقية دون طرح موضوع اللاجئين، عبر ترحيل قضايا أساسية إلى الوضع النهائي القدس، اللاجئين، المستوطنات البند 5 الفقرة 1و 2 و3 .

الثالث: أنّ كيان العدو الصهيوني، هو كيان خارج على القانون، بحماية أميركية، وهو بمثابة محمية عسكرية في الشرق الأوسط، يدير مصالح الغرب الاستعمارية. فكيان العدو هو كيان عسكري له دولة لحمايته، خلافاً لكلّ دول العالم التي تمتلك جيوشاً لحمايتها. لذلك فإنّ هذا الكيان غير ملزم بتطبيق القرارات الدولية، لعلمه المسبق، بعدم قدرة المجتمع الدولي على محاسبته.

كلّ هذه الأسباب الموضوعية، جعلت من العدو الصهيوني، يتفلت من القرارات الدولية، ولا يعترف بحقّ العودة للاجئين الفلسطينيين، مع ما يملكون من قوة قانونية.

إنّ اتفاقية أوسلو، إضافة على ما فيها من محرمات، فوتت فرصة تكريس حق اللاجئين بالعودة إلى ديارهم، كما فوتت بحث قضية القدس، وكان أجدى بالمفاوض الفلسطيني، أن يلحظها في البند الأول، على اعتبار أنّ نسبة ما يشكله حجم اللجوء، هو ثلثي الشعب الفلسطيني، وعلى اعتبار أنّ العدو يسعى إلى الحرب من أجل نيل الاعتراف العربي، وخصوصاً العربي الفلسطيني صاحب القضية، وهي نقطة كان أجدى بمن اعترف بشرعية الاحتلال، أن يوظف اعترافه بحقّ العودة وهو حقّ أساسي لا يمكن التسامح به أو إغفاله. غير أنّ الشعب الفلسطيني بمعظم شرائحه، في الشتات وفي الوطن السليب، هو شعب مقاوم صابر، لا يتخلى أو يتنازل عن حقوقه المشروعة، ولا يقبل بمشاريع التوطين الصهيونية، ولا يرضى بديلاً عن تراب الوطن، بعد الزمان أم قصر.

لذلك وبعد «أوسلو»، نشط اللاجئون في التعبير عن أنفسهم وتأطير مؤسساتهم الخاصة باللاجئين، والهدف هو الحفاظ على قضية اللاجئين وإبقائها حية في أذهان الأجيال القادمة.

إنّ نضال الشعب الفلسطيني، هو نضال الضمير الإنساني، أمام القوة الغاشمة المتفلتة من القانون. وتعتبر عملية تهجير الفلسطينيين في القانون الدولي عملية تطهير عرقي وجريمة حرب يتحمل العدو الصهيوني مسؤوليتها التاريخية والقانونية والأخلاقية والمادية، كما تتحمل الأمم المتحدة، ومعها الغرب الاستعماري، المسؤولية الكاملة عن عدم تنفيذ قرار العودة رقم 194 ، الصادر عن المنظمة الدولية.

كما يتحمل أبطال «أوسلو» المسؤولية الأخلاقية، عن الاغتصاب القانوني لفلسطين، كلّ فلسطين، وفي مقدمتها قضية حقّ العودة.

والمسؤولية الكبيرة يتحملها النظام العربي الرسمي، الذي سارع إلى توقيع اتفاقيات مع العدو الصهيوني، متنكراً لقدسية القضية ولأحقيتها، ومتناسياً جرائمه المروعة.

إنّ الشعب الفلسطيني، يملك الكثير من أوراق القوة القانونية، التي تحفظ له حقه القانوني في العودة، وهي مهمة جداً كونها تضع الإطار الواضح للحقوق والواجبات. لكنّ الحقّ يحتاج إلى قوة تحميه، ما هو غير متوفر في المدى الزمني المنظور، ويؤسس لمرحلة نضال طويلة الأمد.

وإذا كانت موازين القوى تميل لمصلحة العدو الصهيوني، إقليمياً ودولياً، فإنّ نضال الشعوب يبقى خياراً مفتوحاً ينتقل إلى الأجيال القادمة وما تحمله من عناصر متغيرة.

إنّ الحق يبقى قوياً ما دام أصحابه يعتقدون بذلك، وإنّ نضال للشعوب لا يقاس بمدة زمنية محدّدة، بل بمسيرة متصاعدة، والزمن يكون فيها تفصيل.

فلسطين حرة، وستبقى حرة، رغم سوط الجلاد، ورغم إرهاب المحتل، ورغم أصحاب النفوس الصغيرة، والعباءات المرتهنة، لأنها ابنة القدس، زهرة المدائن، السجينة.

حقّ العودة آتٍ، مع فلسطين، كلّ فلسطين، ولو بعد حين.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى