وبعد 37 يوماً تمّ إعدام الخائن حسني الزعيم
فجر الثامن من تموز 1949 ارتفع سعاده شهيداً في أروع نضال ختمه بدمه، وفي أبشع مؤامرة نسجها يهود الخارج والداخل.
وفجر 14 آب 1949 كان حسني الزعيم ورئيس وزرائه محسن البرازي يساقان إلى حيث تمّ إنزال حكم الإعدام بهما، ليدفعا ثمن جريمتهما بحق زعيم هذه الأمّة.
« فأمسكت حسني الزعيم بيدي اليسرى ومحسن البرازي بيدي اليمنى وسرت بهما الى المكان الذي تقرر أن يلقيا فيه حتفهما، هو يقع على مقربة من مقبرة كانت للفرنسيين في مكان منخفض، وقد أدرت وجهيهما صوب الشرق، صوب دمشق، وكان الجنود في موقف التأهب لإطلاق النار.
أوقفتهما جنباً الى جنب، وتراجعت مفسحاً للجنود مجال التنفيذ، فإذا بمحسن البرازي يصيح: « دخيلكم ارحموني، أطفالي… أنا بريء».
وما كاد محسن يصل الى هذا الحد من كلامه، حتى انطلق الرصاص يمزق الرجلين ويمزق أزيز سكون الليل».
هذا ما يرويه الرفيق الملازم أول فضل الله أبو منصور في مؤلفه «أعاصير دمشق» عن لحظة تنفيذ حكم الإعدام بمن غدر بسعاده ناكثاً بشرفه وقسمه، وبرئيس وزرائه.
قبل ذلك يروي الرفيق أبو منصور كيف عقد اجتماعاً في الحادية عشرة ليل 13 آب 1949 لعدد من الضباط في الجيش الشامي تقرر فيه القيام بالانقلاب فوراً. كتبنا المهمات على أوراق صغيرة وتركنا للضباط حرية اختيار العمل الذي يريدون القيام به، ولما طرحت مهمة احتلال قصر الرئاسة واعتقال حسني الزعيم، ساد صمت ثقيل وعلا الاصفرار بعض الوجوه. فمددت يدي الى الورقة وأخذتها قائلاً: « هذه مهمتي والله لو أخذها غيري لما رضيت».
ويشرح الرفيق فضل الله أبو منصور كيف تم اعتقال حسني الزعيم، يقول: « ولما تمت عملية التطويق مشيت الى باب القصر يرافقني أدهم شركسي والرقيب فايز عدوان، وقرعت الباب بقوة… فلم أسمع جواباً… وكررت قرع الباب ثانية وثالثة والليل ساج، والهدوء شامل، والصمت تام… حتى خيّل الى الجنود المتربصين أنهم يسمعون نبض قلوبهم!…
واصلت قرع الباب بشدة، فإذا بالأنوار الكهربائية تشعّ، وإذا بحسني الزعيم يطل من الشرفة صائحاً: « ما هذا؟ ما هذا؟ من هنا … ماذا جرى؟ «.
أجبته بلهجة الأمر الصارم:
استسلم حالاً، فكل شيء قد انتهى، وإلا دمرت هذا القصر على رأسك!
فانتفض حسني الزعيم، وتراجع مذعوراً!
عاجلته بوابل من رشيشتي، إلا أنه دخل القصر وتوارى فيه.
ولما مزقت طلقات الرصاص سكون الليل، حدثت في الحي رجة رعب.
فتحت نوافذ، وأغلقت أبواب، وسرى في العتمة ما يشبه الهمس والتساؤل، ثم سيطر كابوس الخوف فعاد كل شيء الى الصمت الشامل التام.
ورأيت أن الانتظار مضيعة للوقت، فأطلقت رصاص رشيشتي على باب القصر حتى حطمته ودخلت…
واذا بحسني الزعيم ينزل من الدور الثاني وهو يرتدي بنطلونه فوق ثياب النوم البيجاما- وزوجته وراءه تصيح:
حسني، حسني الى أين يا حسني؟
وقبل أن يتمكن حسني من الرد على زوجته، دنوت منه واعتقلته ثم صفعته صفعة كان لها في أرجاء القصر دوي…
قال حسني محتجاً:
لا تضربني، يا رجل، هذا لا يجوز، احترم كرامتي العسكرية!
أجبته بقسوة نمّ عنها صوتي المتهدّج:
أنا أول من يحترم الكرامة العسكرية، لأني أشعر بها وأقدّسها وأبذل دمي في سبيلها، أما من كان مثلك فلا كرامة له ولا شرف… أما أقسمت للزعيم سعاده يمين الولاء وقدمت له مسدسك عربوناً لتلك اليمين ثم خنته وأرسلته الى الموت حانثاً بقسمك، ناكثاً بعهدك؟
قال حسني: والله يا بابا أنا بريء… اتهموني بذلك ولكني بريء.
فانتهرته قائلاً:
هيا بنا، اخرج، لا مجال لكثرة الكلام!
ومشى حسني الى الخارج صاغراً وهو يحاول أن يكبت الخوف الذي أخذ يبدو بوضوح في قسمات وجهه وحركاته المرتبكة.
وكنت في ثياب الميدان، وقد أرخيت لحيتي السوداء الكثة فبدوت أشعث رهيباً.
لم يعرفني حسني في بادئ الأمر، وحسبني شركسياً، فأخذ يخاطبني باللغة التركية، ولكني أمرته بالصمت، ثم أدخلته الى المصفحة التي كانت تنتظر على الباب الخارجي وسرت به صوب المزة…
كان حسني في المصفحة ساهماً تائه النظرات، كأنه لا يصدق ما يرى ويسمع… كأنه يحسب نفسه في منام مخيف… ثم تحرك محاولاً إنقاذ نفسه وتفرّس بوجهي فعرفني، وتظاهر بشيء من الارتياح ثم قال لي:
يا فضل الله، أنا بين يديك، معي ثمانون ألف ليرة، خذ منها ستين ألفاً ووزع عشرين ألفاً على جنودك وأطلق سراحي، دعني أهرب الى خارج البلاد.
أجبته سائلاً:
من أين لك هذه الثروة؟ ألست أنت القائل إنك دخلت الحكم فقيراً وستخرج منه فقيراً؟ كيف انقلب فقرك ثراء؟
فأخذ يتمتم:
والله يا بابا أنا بريء… هذه مؤامرة عليّ دبرها الإنكليز لتقويض استقلال البلاد.
في الصفحة 84 يورد الرفيق متّى أسعد في مؤلفه «الماضي المجهول وأيام لا تنسى» المقطع التالي: « علمنا في ما بعد أن الضباط القوميين أديب الشيشكلي وفضل الله أبو منصور وعصام مريود قاموا باعتقال حسني الزعيم ومحسن البرازي واقتادوهما الى المزة، هناك بدأ حسني الزعيم يحاول رشوتهم بالمال… فضحك الشيشكلي وقال له: «لا ..لا، كل هذا لا ينفعك «، فبدأ محسن البرازي يرتجف، فقال له حسني الزعيم بالفرنسية: «لا تخف»… وقال لفضل الله أبو منصور: « أريد أن أشرب» وكان بين العسكريين الحرس جندي معه مطرة مياه فقال له فضل الله أبو منصور: « أعطه إياها «، وراح حسني يشرب ويداه ترتجفان والمياه تشرشر على وجهه وثيابه، فتقدم منه فضل الله أبو منصور وصفعه بالكف على وجهه، وقال له: « الزعيم سعاده لم يرتجف على خشبة الإعدام يا كلب»، هنا عرف حسني الزعيم لماذا سيعدم وقال لمحسن البرازي: «رحنا». وسحب الضباط القوميون مسدساتهم 1 وأعدموا حسني الزعيم ومحسن البرازي. وجرى دفنهما في قرية أم الشراطيط.
أخذ أديب الشيشكلي وفضل الله أبو منصور وعصام مريود جاكيت حسني الزعيم الملطخة بالدماء وسلموها الى الأمينة الأولى، وقالوا لها: «هذا هو انتقامنا للزعيم سعاده».
هوامش:
1 – نحن مع الأخذ برواية الرفيق فضل الله أبو منصور لجهة قيام الجنود بإطلاق النار على حسني الزعيم ومحسن البرازي، على اعتبار أنه كان قاد شخصياً عملية اعتقال حسني الزعيم فتنفيذ حكم الإعدام. وقد نقلنا ما أورده بالنص الحرفي في مؤلفه «أعاصير دمشق».