أبناء الخوف… الحروب المستمرّة وتأثيرها على الأطفال في فلسطين
ترجمة: ليلى زيدان عبد الخالق
كتبت جين مارلو لموقع «thenation.com»:
«لقد قتلني اليهود». كنتُ ألتهم الإفطار مع الطفل إبراهيم عواجة، في بلدة بيت لهيا شمال غزة، حين قال هذا. رأى والده كمال الدهشة على وجهي، فصحّح مسرعاً لابنه الصغير: «لا، لا، أنت إبراهيم الثاني. لقد كان أخوك هو من قُتل، لا أنت».
إبراهيم الأول، في عامه التاسع، أطلق عليه جنديّ «إسرائيلي» الرصاص وقتله خلال الهجوم على القطاع عام 2009، العملية التي أطلق عليها الجيش «الإسرائيلي» اسم «الرصاص المصبوب». شاهد الوالدان والأقارب موت الصغير، وهدم المنزل بأعينهم. بعدها وُلِد إبراهيم الثاني، في 2011، وسمّي تيمّناً بأخيه الشهيد. شهِد إبراهيم منذ مولده حتى الآن، حملتين عسكريتين موسّعتين، وعاش معظم حياته الصغيرة في مبانٍ هي أشبه بالخيام، مرّةً في الفترة التي كان يُعاد بناء بيت العائلة فيها بعد تدميره في عملية «الرصاص المصبوب»، ومرّة أخرى بعد تدميره مجدّداً، في صيف 2014.
بدأت «إسرائيل» عمليتها «الجرف» الصامد، في الثامن من تموز من العام الماضي هدفها المعلن كان إعادة الهدوء إلى جنوب «إسرائيل» بعد القصف المتزايد بصواريخ الفصائل من قطاع غزة. خلّفت مذبحة الأيام الخمسين 2.131 قتيلاً من الفلسطينيين، سبعون في المئة منهم مدنيون، ومنهم 539 طفلاً. قوّات «حماس» في غزّة أعدَمت، على الأقل، 23 متعاونين مزعومين مع «إسرائيل». قُتل 71 «إسرائيلياً»، منهم 66 جنديّاً، وطفل في الرابعة. تم تدمير أو الإضرار بأكثر من 16 ألف وحدة سكنية، وتشريد حوالى 118 ألفاً من السكان، ما زالت عائلة عواجة من ضمنهم. صحيحٌ أنّ منازل متضرّرة كثيرة رُمّمت، لكن لم يُعد بناء ولا حتّى منزل واحد من تلك التي دُمّرت بالكامل.
تسلّقت مع وفاء عواجة الأطلال التي كانت منزلها. «هنا كانت غرفة البنات، وغرفة الأولاد بجوارها. هذا كان المطبخ، هنا الحمام، وهنا السلالم. كلّ أحلامي مدفونة تحت هذا الركام. حتّى لو أُعيد بناء المنزل، سأظلّ خائفة دوماً من أن يدمّروه مجدّداً».
سألت عن صبحي، الابن البالغ 15 سنة من العمر. بدا هذه المرّة أكثر انسحاباً عن العالم من المرات السابقة التي زرت فيها العائلة، عندما كنت أصوّر الفيلم الوثائقي «عائلة في غزّة». صبحي، الذي كان تلميذاً متلهفاً، لا يذهب إلى المدرسة الآن. يقول والده كمال: «لقد فقد صبحي الأمل في أمور كثيرة. فقد أخاه إبراهيم، وفقد منزله. لقد حاولنا دعمه نفسيّاً. قلنا الحياة تمضي، كل شيء يمكن إعادة بنائه. لكن مع حرب 2014، وتدمير المنزل مرّة أخرى، تضرّرت حالة صبحي العقلية والنفسية، ولا أدري كيف أتعامل مع هذا».
قدّرت «يونيسف»، في تقريرها الصادر في شباط 2015، أنّ ثلاثمئة ألف من أطفال غزة ـ حوالى ثلث أطفال القطاع ـ ما زالوا بحاجة إلى الدعم السيكولوجي والاجتماعي بعد انتهاء الحرب.
إيلينا شيريبانوف، اختصاصية في الصحة العقلية، وخبيرة في حالات الصدمات الجماعية الثقافية. تقارن الأثر السيكولوجي من العنف في غزّة بالأزمات التي رأتها في الشيشان، وليبيريا، وأبخازيا. وتقول: «المشكلة تكمن في الحرب الدائمة التي لا تؤدّي إلى التعافي السريع. الحرب الدائمة تعني تأثيراً صادماً ممنهجاً على المجتمع، يتغلغل في كل نواحي الحياة. هذه أجيال تنشأ من دون فرصة في العيش بأمان، أو التخطيط للمستقبل، وهذان أمران شديدا الأهمية لعملية التعافي من الصدمة».
كنت أجلس مع الدكتور جميل عبد العاطي، مدير مركز الطبّ النفسي والجسدي، في منزله في غزّة. كان وجهه مضاءً بكشّاف هاتفه الخلوي لانقطاع الكهرباء. بعد ستة أشهر من وقف إطلاق النار، لم تنعم غزّة سوى بستّ ساعات من الكهرباء يومياً، بسبب الضرر الذي وقع في محطّة الكهرباء الوحيدة، والحصار «الإسرائيلي» الذي استمر منذ تولّي «حماس» سلطة القطاع في 2007. ومنذ نيسان الماضي، كان تقنين الكهرباء ضمن جدول ثابت: ثماني ساعات من الانقطاع، ثم ثماني ساعاتٍ من التغذية.
سألت عبد العاطي عن تلك التغييرات التي لاحظتها على عائلة عواجة. عندما قابلتهم للمرّة الأولى بعد ستة أشهر من انتهاء عدوان 2009، كانت العائلة في حالة صدمة. الآن، بعد ستة أشهر من حرب 2014، يبدون في حالة من الخدر. شرح لي عبد العاطي: «أحد أعراض الصدمة هو الخدر خدر الأحاسيس وخدر الجسد. عندما يعيش الناس في هذه الحالة من الصدمة المستمرة، فإنهم يخلقون واقعهم الخاصّ الجديد».
كفاح قهمان، مديرة الحضانة التي يرتادها إبراهيم عواجة، وصفت لي ذلك الواقع الجديد وهي تقودني وسط الحطام: «ما زال الأطفال يبكون، خائفين، حتى الآن. قضينا شهراً كاملاً نمدّهم بالدعم السيكولوجي، ونجتثّ خوفهم من الحرب».
وعلى رغم أن السقف الإسمنتي ما زال سليماً، وأعمدته التي تدعّمه أيضاً، فإن معظم الجدران سقطت. أشارت قهمان إلى جسم يبلغ طوله 15 سنتمتراً بين قطع الإسمنت والحديد المتناثرة. «هذا أحد الصواريخ التي دمّرت المكان»!
دمّر الجيش «الإسرائيلي» عشرين مدرسة في غزّة خلال الحرب، منها 11 دار حضانة، وألحق الضرر بأربعمئة وخمسين منشأة تعليمية. من ضمنها كانت ثلاث مدارس تابعة للأمم المتحدة، تحوّلت إلى ملاجئ هاجمها «الإسرائيليون» وقتلوا 44 فلسطينياً. صحيحٌ أن تقريراً للأمم المتحدة أفاد أن ثلاث مدارس تابعة للأمم المتحدة اتُّخِذت كمخازن سلاح من قِبل مسلّحين فلسطينيين ـ لكنها ثلاث مدارس مختلفة عن تلك التي آوت العائلات المشرّدة.
تكدّس تلاميذ قهمان الصغار البالغين من العمر من ثلاث إلى خمس سنوات على سجادة بلاستيكية صغيرة، وحدّقوا في وجهي. كلّهم تأثروا مباشرة بالحرب: قُتل فرد من العائلة أو أصيب، أو أُجبرت العائلة على مغادرة المنزل. تناقضت الألوان الزاهية لحقائب «هالو كيتي» و«دورا» بحدّة مع النظرة المتبلّدة في العيون، كما لو كان قد غطّاها حجاب رقيق. والصاروخ على مقربة من أقدامهم.
تقول قهمان: «بعض الأطفال أصبحوا عدوانيين، يضربون زملاءهم ويحطّمون محتويات الفصل. أحد الأطفال كان مبتهجاً قبلاً، والآن لا يكفّ عن البكاء طوال اليوم».
امتلأ فناء الحضانة، خلف الحائط المدمّر، بالركام. تجاوز أحد الأطفال الحائط غير الموجود إلى الفناء، والتقط قطعة صغيرة من اللِّبنة. غرسها في الرمال بإحكام، ثم عاد ليلتقط أخرى. انضمّ إليه طفل آخر. وخلال دقائق، كان جميع الطلبة يبنون، في صمت، أبراجاً من ركام حضانتهم المدمّرة.
تقول شيريبانوف: «لقد رأيت وسمعت عن مشاهد مماثلة في كوسوفو وأوكرانيا. يبني الأطفال مبانٍ من الركام ثم يدمّرونها، ويمثّلون مع بعضهم مشاهد من جنازات. هي طريقة عادية في معظم الحالات يعالج بها الأطفال الذين تعرّضوا للصدمة خبراتهم».
على رغم تزايد الاهتمام الذي تحظى به صحة الأطفال العاطفية والعقلية في مناطق الحرب، فإنه يبقى الكثير مما يجب فعله. خصوصاً من أجل تدعيم بنية المجتمع التحتية، مثل العائلة، المنظمات المجتمعية، والمدرسين. يوفّر هذا نوعاً من الدعم الانسيابي للأطفال ولأعضاء المجتمع الآخرين المتعرّضين للصدمة.
يوسف أحمد، مدرّس ابتدائي ممتلئ الجسد، أشقر، يقطن في حيّ الشجاعية شرق غزّة، ويقول: «كانت حرب الصيف الماضي أسوأ الحروب الثلاث. لقد عانى الأولاد بشدّة».
كنت قد رأيت مسبقاً الآثار المروّعة للحملة «الإسرائيلية» التي استمرّت أربعة أيام في الشجاعية. مناطق بأسرها دمّرت. لا منزل مأهولاً فيها على مدّ البصر. سوّت طائرات «F-16» المنازل بالأرض، وتكدّست طوابقها فوق بعضها، وفجّرت قذائف الدبابات والهاون جدران عددٍ من المنازل الأخرى. رسومات بالرذاذ الغازيّ لعائلة قتلتها الطائرات على حائط مزدانٍ بالرصاص. وشبابٌ يحمّلون عربات «الكارو» بالركام، لينظفوا مخلّفات الحرب شيئاً فشيئاً.
عندما عاد تلاميذ أحمد إلى مدرسة الشجاعية الابتدائية، بعد أسبوعين ونصف من وقف إطلاق النار، يقول: «كان حديثهم كلّه عن الحرب والتفجيرات، والدمار الذي شهدوه: مَن فُجِّر، وكيف قُطعت رجلاه، كيف مات أحد أفراد عائلته، كيف وإلى أين هُجّروا؟ يتحدّثون عن صوت الطائرات الذي لا يتوقّف للحظة. أحد التلاميذ كان نجماً في الصف الأول، ولكنه عندما بدأ صفّه الثاني، لاحظت تغيّراً في سلوكه. كان منعزلاً، لا يتحدّث إلى الناس. أخبرتني عائلته أنّه رأى أخاه وهو يُقتل غارقاً في دمائه».
عدّد أحمد التغيّرات السلوكية التي يراها الآن في الفصل: «هناك الانسحاب، قضم الأظافر، الخوف، نوبات الفزع الليلي والتبوّل في الفراش. ليس فقط في الليل، لكن أحياناً بعض الأطفال يبللون سراويلهم في الفصل. هناك مشاكل في التخاطب، وتلعثم. أصبح سلوكهم أكثر عدوانية وعنفاً».
يدعم التقرير الصادر عن فريق عمل حماية الأطفال في غزّة في تشرين الأول 2014، مشاهدات أحمد. من دون استثناء، كل من عاينهم التقرير يمرّون بتغيّرات ملحوظة في السلوك. الأولاد يميلون أكثر إلى العدوانية، بينما تبدي البنات حزناً عامّاً، بكاءً، كوابيس متكررة وتبوّلاً سريريّاً.
لاحظ أحمد أيضاً تأثر قدرة التلاميذ على التعلّم، ويقول: «لديهم ضعف في الذاكرة، تشتّت في الانتباه، وتركيز منخفض. لا يستقبلون إلا قليلاً من المواد التي يتلقّونها. لقد فقدوا الرغبة في التعلّم. لا يمكنني أن أطلب من أحدهم عمل الفرض المدرسي وأنا أعلم أن الكهرباء مقطوعة عنه. أو أنه لا يستطيع شراء أقلام الرصاص والدفاتر، لأنّ والده لا يجد عملاً».
أيضاً، فإن المدرّسين أنفسهم مرّوا بالصدمة ذاتها التي مرّ بها تلاميذهم. يجعل الحصار، والأزمة الاقتصادية الناتجة عنه، وكذلك الانقطاع شبه الدائم في الكهرباء، يجعل كل ذلك الحياة جحيماً. توقّفت المرتبات بسبب المواجهة بين «حماس» و«فتح». نقص الوقود يجعل الانتقال من المدرسة وإليها صعباً للغاية. يقول أحمد: «المعلّمون بشرٌ أيضاً. حالتهم العقلية تدهورت وأصبح تفكيرهم مبعثراً، لا يقدرون على التركيز. صاروا أكثر عنفاً مع تلاميذهم، لا بل مع زملائهم».
مدرسة أحمد تعرّضت للقصف، لكنّ عملها ما زال مستمرّاً. أما المدرسة المجاورة فقد دُمّرت كلّياً، وتوزّع طلبتها على مدارس أخرى.
أوضح التقرير أيضاً أن سفر الأطفال بعيداً عن منازلهم للالتحاق بالمدرسة له تأثيره القاهر على الأطفال. طبقاً للدكتور ياسر أبو جامع، المدير التنفيذي لبرنامج غزّة للصحة النفسية، فإن العيش وسط بقايا الحرب له التأثير ذاته.
يحاول العاملون في مجال الصحة النفسية إصلاح هذا. طبقاً لفريق عمل حماية الأطفال، فإن الدعم توفّر لأكثر من 50.000 طفل و20.000 بالغ في غزّة. درّب برنامج الصحّة النفسية التابع للأمم المتحّة ثمانية آلاف معلّم في التغلب على خبراتهم المتعلّقة بالصدمة، وخبرات تلاميذهم كذلك. والعمل مع منظمات المجتمع لا غنى عنه كما تقول شيريبانوف. لأن نجاح الطفل في التعافي يعتمد بقدر كبير على الدعم العائلي، لكن عندما تكون العائلة نفسها معرّضة للصدمة، ومثقلة، ربّما لا يتوفّر الدعم الكافي.
أرتني ليلى الحلو مقطعاً مصوّراً على هاتفها، لحفيديها التوأمين البالغين من العمر ستة أشهر، كرم وكريم. يرتديان ثياباً خضراء متماثلة ويجلسان على الأريكة، يتمتمان لبعضهما، يمسك كلٌّ منهما إصبع الآخر. كان شكلهما متماثلاً بغضّ النظر عن شعر كرم المجعّد. «صوّرت هذا المقطع، قبل يومٍ واحد من مقتلهما».
قلّبت ليلى في كومة من الصور لأحبابها الراحلين، مغمغمة: «رحمة الله عليهم». يستعيد زوجها طلال ما حدث في الثالثة صباحاً، يوم الواحد والعشرين من تموز عام 2014، في الشجاعية. قُتل سبعة جنود «إسرائيليون»، وتلت ذلك ليلة من القصف العنيف انتقاماً، كما يؤمن سكان كثيرون من الشجاعية. كانت ليلى تُعدّ وجبة السحور عندما اتّصل أخو طلال، جهاد، ليطمئن على العائلة من منزله على قارعة الطريق المقابل. بعد دقائق، أطلقت طائرات «F-16» صاروخين نحو منزل جهاد.
قادني طلال، وهو رجل أنيق بنظّاراته وشاربه، إلى كومة الركام التي سُحق تحتها أحد عشر فرداً من عائلته. ذكر طلال أسماءهم بهدوء: «أخي جهاد، وزوجته سهام، وأبناؤهما: محمد، وأحمد، وتحرير، وأسماء، ونجيّة، وابنتي هداية زوجة أحمد، وأطفالهما: مرام ذات السنتين، والتوأمان كريم وكرم».
أشار طلال إلى عمود إسمنتي في الحطام. ثمّ خفض رأسه، الذي بدا فجأة أكبر بعقد كامل عمّا كان عليه.
«كانت أسماء حيّة وذلك العمود على صدرها. كانت تحترق، طالبة النجدة».
لساعتين، حاولوا تخليصها. ثمّ بدأ القصف مرة أخرى على رؤوسهم، واضطروا للهرب من أجل الاحتماء، تاركين أسماء تناديهم. لم يأتِ وقف إطلاق النار إلا بعد الظهر، ليسمح لسيارات الإطفاء بالوصول وإزالة العمود. «كانت أسماء لا تزال حيّة، لكنّها فقدت وعيها وبقيت كذلك في المستشفى. ثم ماتت في اليوم التالي».
أشار جهاد إلى أجزاء مختلفة من الحطام الإسمنتي المتناثر والحديد الملتوي. «من هنا أخرجنا جهاد وزوجته. كان هذا بعد ثمانية أيام. ثمانية أيام ظلّا تحت الركام ولم يستطع أحدٌ الوصول إليهما. أحمد أخرجناه من هنا. محمد كان إلى جانب والده. عندما أخرجنا الجثث كانت منتفخة، متعفّنة». بدا لوهلة عاجزاً عن التعبير، ثمّ كرّر التفصيل الذي يبدو أنه طارد ذهنه مراراً. «ثمانية أيام تحت الركام».
لم تكن هذه أولى مآسي عائلة الحلو. قُتل ابن طلال وليلى، عزّ الدين، عام 2002. ثم في 2011، اخترقت شظية من قذيفة مدفعية «إسرائيلية» بطن ابنهما البالغ من العمر تسع سنوات آنذاك، أحمد. سمح له والداه أن يخلع ملابسه ليريني الجروح. لكن والديه كانا أكثر قلقاً حول سلوكه.
تقول ليلى: «أحمد وهديل يخافان ليلاً، ويبلّلان نفسيهما. يرفضان النوم في سريريهما وينامان معنا في الغرفة».
لا يخرج أحمد من المنزل بعد غروب الشمس. يصاب بالغضب بسهولة في المنزل، يصرخ في أمّه أو يكسّر الأطباق. يقول طلال: «لا نؤدّبه على ذلك. نحن نعلم جيّداً كيف يشعر».
عندما سألته عن شعوره كأب، ردّ طلال: «وماذا يمكنني أن أفعل كأب؟ لا أستطيع شيئاً». شعور العجز ذاته الذي يمرّ به أولياء أمر كثيرون في غزّة.
يقول الدكتور عبد العاطي: «لا يستطيع الآباء حماية أبنائهم، والأطفال يفهمون ذلك جيّداً ويشعرون به. الآباء أنفسهم خائفون باستمرار».
يتفاقم هذا الخوف مع حالة الضبابية المنتشرة ـ هل ستكون هناك حرب أخرى أم لا؟ متى ستصل مواد البناء لنعيد بناء المنازل؟ كم ساعة سنحظى بالماء والكهرباء؟ هل سيكفينا الغاز حتى نهاية الشهر؟
كانت المرّة الأولى التي قابلت فيها أحمد أبو حطّاب، من مخيّم خان يونس للاجئين في جنوب غزّة عام 2001، كان حينذاك صبياً في الحادية عشرة، يحبّ الخدع السحرية، وعلى وجهه ابتسامة لا يمكن إزالتها. لم تختف ابتسامته لحظة عندما ركب معي في سيارة الأجرة. تخرّج أحمد من الجامعة، بشهادة في تكنولوجيا المعلومات منذ خمس سنوات، لكنه لم يستطع العثور على عمل. «لا عمل. لا كهرباء. لا أمل. لا مستقبل».
بدأ يأس عائلة أبو حطّاب مع حصار 2007، وازدادت حدّته بشدّة بعد حرب 2014، كما علمت. حاول صديق لأحمد الهرب إلى إيطاليا في قارب. لكن القارب انقلب، والصديق غرق.
عبير، شقيقة أحمد 30 سنة ، المدرّسة ذات البنات الثلاث تقول: «لم تدمّر الحرب المنازل والمستشفيات والمساجد فقط. لقد دمّرت المشاعر أيضاً. أين نجد الأمل في الحياة؟».
عندما سألتُ العائلة عمّا يمكن أن يجلب لهم الأمل، تواترت الإجابات وتراكمت: «أن نفتح المعابر. ننهي الحصار. نبني مطاراً. يُسمح لنا بزيارة الأقصى. أن نحظى بحقوقنا كالآخرين».
لكن شيريبانوف تنبّهت إلى مصدر آخر غير متوقّع للأمل: «عندما يكون المستقبل ضبابياً، تأتي القوّة من تجارب النجاة الماضية. لقد ابتُليت الإنسانية بالحرب منذ بداية الزمان، وطوّرت مهارات محفورة في الثقافات. مهارات تساعد في التغلّب على الماضي، والمحافظة على قيَم الكرم والتسامح والتعاطف. من خلالها يمكن لتجارب الصدمة أن تتحول إلى مصدر قوّة».
ليلى الحلو مثال على هذا. بعد الحرب مباشرة، بدأت حياكة فساتين للبنات الصغيرات في منطقتها مجّاناً. «يساعدني ذلك في التعويض عن خسارتي، وفراغي العاطفي بعد موت أحبائي». وعلى رغم الوضع المتزعزع الذي يشوب المستقبل، فإن الابنة الكبرى لعائلة عواجة تخطّط لمستقبلها، إذ تجاوزت المرحلة الثانوية، وتخطّط للدخول في الجامعة خلال الخريف لتدرس الصحافة.
لكن الدكتور أبو جامع يقول: «عندما يكبر هؤلاء الأطفال الذي مرّوا بثلاثة اعتداءات. عندما يقودون المجتمع. كيف ستؤثر عليهم خبراتهم وذكرياتهم، والضغط والصدمات التي وقعت عليهم؟ لقد نشأوا في بيئة معادية بلا نافذة على المستقبل. فماذا تبقّى لهم؟ لا شيء غير الغضب واليأس، اللذين سيقودان إلى العداء الذي سيرتدّ على الإسرائيليين».
عندما كانت كفاح قهمان محاطة بالأطفال، أثناء لعبهم في البناء من قطع الركام، قالت إن ما تحلم به لنفسها ولهؤلاء الأطفال بسيط: «أن نجد خبزاً نأكله، وأن نتعلّم، وأن نحيا بكرامة»!