الهجرة والتهجير بين المنهجية والتغرير!

محمد ح. الحاج

نهايات القرن الماضي اجتاحت منطقة الجزيرة السورية، وبعض مناطق الشمال العراقي موجة واسعة من الهجرة تركزت في أوساط العائلات والشباب السرياني والكلدو آشوري باتجاه مناطق الشمال الأوروبي الدول الاسكندنافية وخصوصاً السويد، والقليل اتجه نحو استراليا أو أميركا الشمالية، وقلنا في حينه عبر الصحافة والندوات إنها هجرة مخططة ترعاها منظمات دولية وغايتها ليست بريئة بالمطلق، وربما كان الخوف على ما يطلقون عليهم تسمية أقليات هو الدافع المعلن، لكن أصابع الصهيونية العالمية لم تكن بعيدة عن المساهمة والمشاركة، وقد شجعت تلك الهجرة أوساط دينية لأسبابها وأيضاً لا نقول إنها كانت بريئة بالمطلق، فالأحداث في الشمال العراقي، وربما على كامل التراب العراقي شكلت مبرّراً لحركة النزوح الداخلي وتوجه البعض نحو الشام ولبنان، لكن الشمال الشرقي السوري كان في أوج الأمن والأمان، والانفراج المادي، ولم يكن هناك «داعش» أو «النصرة» ولا «جيش الفتح» أو «فتح الإسلام»… قلنا في حينه إننا نرفض تجريد سورية من جذورها الحضارية والتاريخية وما زلنا عند موقفنا هذا.

المخطط الذي لم يستكمل في حينه بقي برسم التنفيذ، وطاعون الحرب التي تستهدف وجود الشعب السوري منذ العام الأول في القرن الحادي والعشرين تجري تغذيته ورعايته وتنمية أسباب استمراره، ومنها عمليات التهجير بشتى الأساليب، التهجير القسري، والتهجير الاحتيالي، ترهيباً وترغيباً وضمن مخططات واسعة تشمل الأراضي السورية والعراقية وقبل ذلك اللبنانية وقبلها الفلسطينية، التهجير الذي يستهدف شرائح مختارة من الشعب السوري، اثنياً، عرقياً، وطبقياً، بمعنى أوضح استهداف مجموعات مختارة ممّن يسمّونهم أقليات، يسهّلون استيعاب الأجيال الشابة المثقفة، وأيضاً أغلب الأثرياء ممّن تمّ تشجيعهم على التخلص من ممتلكاتهم وتهريب أموالهم نحو الدول المخطط لهم أن يصلوها، وهي دول تحتاج إليهم لأكثر من سبب، من ذلك نسبة الكهولة العالية في تلك الدول ومعاناتها من نقص الشباب، والحاجة إلى المواليد لمنع الانحدار نحو الانقراض، ومن ذلك أيضاً استنزاف دول المنطقة ديمغرافيا، ومالياً، وإفقارها عقلياً وعلمياً عن طريق استدراج العقول إلى الهجرة وتقديم الحوافز والمغريات، ولو عن طريق الإشاعة الكاذبة، وهنا يلعب الإعلام دوره، سلباً أو إيجاباً.

الخروج الجماعي باتجاه الشمال تركيا والجنوب الأردن وغرباً إلى لبنان مع بداية الأحداث كان مبرمجاً والغاية منه ممارسة الضغط على الحكومة السورية، شيطنتها وإظهارها أمام العالم على أنها دولة تضطهد مواطنيها، وبدا ذلك جلياً بعد أحداث جسر الشغور وما تعرّض له اللاجئون من ممارسات الأتراك ومحاولة الكثير من العائلات العودة وقيام السلطات التركية بمنعهم واستخدامهم كرهائن للمتاجرة بأوضاعهم على المستوى الدولي، وما تلا ذلك من انكشاف مضمون الاتفاقيات التركية الفرنسية في هذا الخصوص، كذلك كان حال أبناء حوران الذين لجأوا إلى الأردن تحت ضغط الضخ الإعلامي وما أفرز من رعب وخوف في نفوس السكان الآمنين ودفعهم للاعتقاد طبقاً لقنوات أعراب العدوان «الجزيرة» و«العبرية» وأخواتهما أنّ الحكم في سورية يتجه إلى الانتقام من هؤلاء المواطنين دون تمييز أو رحمة وعلى قواعد لم يخطر في بال الحكومة السورية مجرد التفكير بها، وهكذا كان النزوح الجماعي باتجاه الزعتري وما نتج عنه من متاجرة بالسوريات والقصة معروفة، أما في الاتجاه اللبناني فقد كان لأحداث القصيْر وتلكلخ ويبرود ومنطقة القلمون منعكساتها أيضاً، وأخذت طابع النزوح رغم أنّ حركة الانتقال كانت قائمة بشكل طبيعي وموسمي ما عدا هجرة الفلسطينيين رغم المطالبة بتحييد المخيمات ، لكن جهات لبنانية أرادت لهذه الحركة أن تأخذ نفس المنحى والتوصيف الذي أخذته حركة النزوح القسري شمالاً وجنوباً، وتاجرت هذه الجهات بآلام السوريين ومعاناتهم ووظفتها سياسياً لكنها لم تحقق النجاح المرغوب إذ جاءت الانتخابات الرئاسية لتكشف الحقيقة وزيف ادّعاءات الجماعة فكانت الخيبة والانتكاسة ومحاولات الانتقام من السوريين المتواجدين على الأرض اللبنانية حتى الذين مضت عقود على وجودهم في لبنان ولهم فيه مصالح وأموال، وأبناء من زيجات متبادلة الخ…

هل ما يحصل حالياً، عمليات هجرة أم تهجير؟ ونعلم أنّ جماعات وعائلات تتجه نحو أوروبا عن طريق تركيا حصراً عبر لبنان في مغامرة بالغة الخطورة وتعرّض بعضهم للغرق في البحر أو السجن والإهانة في بعض البلدان، أو تعرّضهم للموت بطرق مجهولة والمتاجرة بأعضائهم!

لماذا يفتح تنظيم «داعش» المعابر باتجاه تركيا فقط، ويقول البعض إنه ممنوع على سكان محافظة الرقة أو من جاء إليها التوجه إلى دمشق أو حمص إلا في حالات نادرة، ثم بعد السيطرة على تدمر تمّ توجيه، بل إجبار أبناء تدمر على الخروج إلى الرقة، ومن هناك مسموح الذهاب إلى تركيا…! ولماذا تسمح تركيا، بل تسهّل دخول هؤلاء؟ هل هي اتفاقية سرية يجري تطبيقها خدمة لجملة من الأغراض والأهداف أوردنا أغلبها قبلاً، وهل تكون الحرب الديمغرافية وإفراغ البلد من شرائح مجتمعية هامة على كلّ الأصعدة هي الفصل الجديد من فصول الحرب؟

حمّى التوجه نحو ألمانيا أو النمسا والسويد، تجتاح المهاجرين، الغالبية من المتواجدين على الأراضي التركية واللبنانية، يساهم في التشجيع على التوجه نحو ألمانيا، عناصر مافيا من سوريين ولبنانيين وعرب وبلغار يقيمون في أوروبا وكأنه تمّ توظيفهم لهذه الغاية، ورغم الحقائق المريرة المرعبة التي ينشرها بعض الشباب الوطني عبر صفحات التواصل الاجتماعي والشبكة العنكبوتية فإنّ حركة الهجرة تتضاعف، وتتضاعف أعداد المغامرين من جيل الشباب وخاصة من المناطق الداخلية الآمنة وكأنّ الجنة هبطت إلى اوروبا، وألمانيا بالذات – العمليات منظمة ومبرمجة ويتمّ اختيار المقبولين بعد دراسة وتدقيق جيل الشباب حملة الشهادات العليا – وربما من يحملون معهم مبالغ مالية تكفيهم لبدء حياة جديدة حيث يتمّ تأهيلهم لها بعد اتباعهم دورات تعليم اللغة، يقول البعض. ألمانيا أيضاً بحاجة إلى التجدّد فنسبة الكهولة فيها مرتفعة ونسبة الولادات دون المعدل المقبول…!

فرنسا وألمانيا تنتقدان دول أوروبا الشرقية التي أغلقت حدودها في وجه حركة الهجرة، وربما تمارسان ضغوطاً سرية على هذه الدول، أو تقدّمان معونات ومساعدات لإغرائها على فتح معابرها، ومن هذه الدول اليونان ومقدونيا والمجر وبلغاريا وغيرها، ويبدو أنّ إيطاليا تتحمّل أعباء عمليات النقل والإنقاذ البحري وتوفير مراكز تجميع لاستكمال الرحلة، وحتى الآن تشير الإحصاءات إلى أنّ نسبة المهاجرين الأعلى هي من السوريين… فهل حقاً أصبح نصف سكان سورية خارج البلاد؟

أياً تكن أسباب الهجرة، البحث عن ملاذ آمن، عن فرص عيش أفضل، الخوف من «داعش» أو «النصرة» وباقي العصابات التكفيرية، أو خوف عائلات المسلحين المطلوبين للدولة وهم النسبة الأقلّ بين المهاجرين، فإنّ عمليات التهجير التي يطلقون عليها «هجرة» هي تطبيق لمخطط ومنهاج لا يمكن إدراجها ضمن ردود الفعل، بل تقوم على رعايتها وتشجيعها جهات لا تضمر الخير لأمتنا أو شعبنا، لا في القديم ولا في الراهن، ولم تتوقف في يوم من الأيام عن العمل الجادّ لهدم بنيان هذه المنطقة وتفتيتها وتشريد شعبها واستبداله بـ«شعب آخر»، المحزن أنّ كثيراً من أبناء شعبنا تنطلي عليهم اللعبة ويصدّقون الدعايات، يحلمون بالثروة والجنة الجديدة في أوروبا، ولو اجتهد بعضهم لوصل إلى الحلم بأقلّ تكلفة، موفراً الكثير من الجهد والمغامرة، الأهمّ محافظاً على كرامته الوطنية فلا يقال: لاجئ، أو متسوّل ومشرّد… متى كان السوري لاجئ أو متسوّل؟ يمكننا فهم اللجوء السياسي، ولكن ما لم نفهمه هو اللجوء الكنسي…!

من يؤمن بالوطن والكرامة كما تؤمن مجموعة: أنا أنتمي… I BELONG TO، عليه أن يتذكر أسماء الخونة الذين أشعلوها وقبضوا لقاء ذلك ثلاثين من فضة…

يقيمون في الفنادق الفخمة وينفقون من ثمن دماء السوريين ومعاناتهم، – على شعبنا أن يلعنهم مع كلّ نسمة هواء تعبر سماء الوطن ومع صوت كلّ قذيفة أو طلقة أو تفجير، ومع كلّ ذكر لـ«داعش» و«النصرة»، في كلّ لحظة ينقطع فيها التيار ومع عودته، مع معاناة كلّ مسافر، أو طالب علم، وآلام مريض أو موظف تقطعت به السبل ولا يستطيع الوصول إلى عمله… خرّبوها وتراهم يرقصون في جنازات الوطن بعد أن ماتت ضمائرهم وحسّهم الوطني… وقد أصبحوا أدوات العدوان على أمهاتهم.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى