معالم الشرق الجديد
د. مروان فارس
إنّ النظر إلى الحراك الشعبي الكبير في التاسع والعشرين من شهر آب الماضي إنما يشير إلى دلالات عدة لا بدّ من التوقف عند أبرز ما فيها:
1- إنّ التعبير الشعبي خرج من حالة السكون التي هو فيها منذ تأسيس النظام السياسي القائم راهناً في لبنان. إنّ جوهر النظام هذا يقوم على الاقتسام الطائفي لإمكانات البلد وقوامه. حالة السكون هذه تحمل في طياتها احتمالات الانفجار المستمر. ما يعني أنّ السكون أبلغ من الضجيج في الحالة العائمة في لبنان، فالخروج من الصمت إلى التعبير عن الاستياء بلغ ذروته في النزول من حالة الاستتباع إلى حالة الانفجار.
2- إنّ جوهر الانفجار لا يتمثل فقط في المطالبة بحاجات المجتمع المدني، إنما يتمثل في احتمالات حدوثه المستمرة. هذه الاحتمالات لا تلغي معالجة سريعة من قبل المتحكمين بالنظام راهناً. إنما تلقى، كي لا تستمرّ، استجابة فورية من قبل الذين يريدون التغيير.
3- جوهر التعبير الذي تريده الحركة الشعبية التي ظهرت بقوة في شهر آب، يتمثل في إرادة التغيير، تغيير البنية التي يقوم عليها النظام السياسي في لبنان. والتي هي بنية طائفية وليدة حركة الاستعمار الغربي. فحركة الاستعمار الغربي التي رسمت في اتفاق سايكس – بيكو عام 1916 من القرن الماضي، لم تكتف بتقسيم الأمة السورية أجزاء متفرقة بغية إقامة الدولة اليهودية على حساب فلسطين. هذا على المستوى القومي، أما على المستوى الاجتماعي فقد كان جوهر المشروع الاستعماري يقوم على مبدأ تجزئة الأمة في الجغرافيا على قاعدة تقسيم الناس في المجتمع. لذا كانت الدعوة من قبل الزعيم أنطون سعاده لإقامة المجتمع الجديد، دعوة دائمة ومستمرة. فجوهر المجتمع الجديد الذي ينقذ الأمة من التقسيم الجغرافي هو الجوهر ذاته الذي ينقذ المجتمع المدني من التقسيم الاجتماعي. لذلك كلّه كانت الطائفية في الجوهر أداة للتقسيم الجغرافي. التقسيم الجغرافي كان أداة حركة الصراع مع الفكر القومي.
4- في هذه المرحلة من تطور الأحداث في بداية القرن الحادي والعشرين تظهر مؤشرات عدّة في انطلاقة جديدة للقرن الحادي والعشرين. هذه الانطلاقة تتمثل في ما حدث من هزيمة للمشروع الاستعماري الغربي في الاتفاق النووي الذي قضى بإمكان الحصول على إنجازات حركة العلم النووي تبرز قدرة الشعوب في المواجهة مع حركة الاستعمار. ما يعني أنّ حركة الاستعمار يمكن مواجهتها ويمكن الانتصار عليها. تماماً كما حدث في لبنان في حرب تموز عام 2006. ففي هذه الحرب استطاعت المقاومة أن تهزم الجيش «الإسرائيلي» الذي اعتبر طويلاً جيشاً لا يهزم. كما أننا نرى أنّ الاتفاق النووي الغربي الإيراني سيشكل بوابة فعلية للقرن الحادي والعشرين. فإننا نستطيع القول بأنّ هزيمة الدور «الإسرائيلي» في لبنان على أيادي رجال المقاومة هي بداية فعلية للقرن الجديد.
5- لقد أكدت المقاومة بغضّ النظر عن انتماءاتها العقائدية أنها واحدة في مشروعها الذي تمثل في إرادة هزيمة المشروع الصهيوني. فلقد أصبحت هزيمة المشروع اليهودي احتمالاً ممكناً في زمن كان يعتبر فيه سقوط الجيش «الإسرائيلي» غير محتمل. هذا الاحتمال الذي أصبح واقعاً، يشير إلى إمكان حصول وقائع جديدة في هذا الشرق الذي بفعل الهزائم التي مُني بها في حرب حزيران وغيرها من الحروب منذ عام 1948، وتقسيم فلسطين كمقدّمة لإنشاء الدولة اليهودية فوق أرضها بدأت تظهر معالمه الجديدة بفعل المقاومة.
6- في مطالع القرن الجديد، تظهر معالم للقرن الجديد. وكي لا تكون هذه النظرة نظرة تفاؤلية فقط لا بدّ من الإشارة إلى أنّ حركة الاستعمار الغربي لا يمكن لها أن تظلّ حركة دائمة، طالما أنّ هناك إرادات تتمثل في العالم بفعل تغيّرات كبيرة تحصل على المستوى الدوليّ. فالولايات المتحدة الأميركية التي حاولت أن تبرز ذاتها قوة وحيدة في العالم بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وسقوط دول المنظومة الاشتراكية، لم تعد القوة الوحيدة في العالم، بل نشأت قوة مواجهة لها تمثلت في استعمال حق النقض – الفيتو في مجلس الأمن الدولي من قبل روسيا والصين حفاظاً على سورية والنظام السياسي فيها القائم على المواجهة مع مشروع الغرب الاستعماري. في هذا السياق، تثبت سورية بأنها في المواجهة مع أكثر من ثمانين دولة أنها قادرة على الاستمرار في المواجهة ومن ثمّ على الانتصار في الاحتفاظ بوحدة سورية وبقوة النظام لمواجهة العدو الصهيوني. فثبات سورية في هذا الموقع، موقع المقاومة، يشير فعلاً إلى أنّ بداية القرن الحادي والعشرين هي بداية في كامل خريطة القرن الجديد.
7- إنّ معالم هذا القرن هي معالم جديدة في جوهرها احتمال الانتصار على العدو الصهيوني وعلى مخططات الغرب الاستعمارية، فما كان غير ممكن في القرن الماضي، أصبح بفعل المقاومة ممكناً في الشرق العربي وفي إيران وفي كلّ الأمكنة من هذا العالم الذي تتفوّق فيه إرادة الحياة بعزة وكرامة على الخضوع والتبعية لإرادات الآخرين.