غربة

في مساء هادئ خالٍ من أي ضوضاء، ومع خيوط الليل الأولى وهي تعانق بقايا نزع الضوء الأخيرة، تتداخل في السماء ألوان شفق أحمر معلنةً ساعة الغروب،

كان حديثي مع صديق طفولة في قرية وادعة صاخبة، تقع على سفوح جبال تبدو كجزءٍ من السماء، تتخلّلها وديانٌ وجداول وأسرار كثيرة. ويعتقد معظم سكان قريتنا أنّها مركز الكون، وأنّ الكون ينتهي على حدود قريتهم.

إنّه التمركز نحو الذات وسيطرة الـ«أنا» من دون عناء. تجمع سكّان القرية بشكل بارع قصص قصيرة وأحداث يعيدون صوغها وتأويلها وسردها، يتداولونها نقلاً يخضع للإضافة والبهرجة، وتحصد تلك القصص والأحداث في طريقها الحقيقة وتطحن الحدث وتحلّله وتعيد صوغه بسرعة البرق.

أبواب المنازل مشرّعة لا تغلق. ربّما سبب ذلك قلة النوافذ في تلك البيوت البسيطة ذات البناء المميّز. وإن وجدت نوافذ، عادة ما تكون صغيرة جدّاً ومرتفعة. وكان يسميها أهالي القرية «طاقة». لهذا، تبدو البيوت مشرّعة لاستقبال أيّ طارق. حارات القرية تتداخل وإن بدت وحدات شبه منفصلة. تتوزّع في تلك الحارات عائلات، وتحمل كلّ حارة اسم عائلة.

خريطة البلدة سهلة التداول، يكفي أن يقف الزائر في محطة باصات البلدة «الكاراج»، ويسأل عن أيّ بيت يريد، ليتلقّفه المارّة، ويتبرّع أحدهم بتوصيله. وفي الأثناء يكون قد عرف كلّ شيء عنه وعن أسباب الزيارة ومرامي الزائر.

يستطيع المرء أن يتجوّل في حارات القرية وأزقتها خلال ساعتين على الأكثر.

حين عدت إلى قريتي بعد عمر طويل، أصابتني الدهشة. شعرت بالغربة. البلدة التي أعرفها لم تعد هي ذاتها. لم أعرف حتّى حارتي. معالم جديدة استوطنت معالمها القديمة. شاخت قريتي التي أعرفها وخطّ الشيب وقارها، وبدت مدينة جديدة عصرية لا صلة لها بطفولتي ولا بذكريات المكان.

تحدّثت مع صديقي في الأدب والفلسفة والسياسة. مدارسها ونظرّياتها وما يجري في العالم العربي. كان حديثاً علمياً وفلسفياً بحتاً وراقياً. وفي لحظة، تسلّلت قريتنا وذكرياتها من دون استئذانٍ إلى حوارنا.

كانت نقلة ممتعة ذات مذاقٍ ورونق خاصَّيْن. أزقة القرية أهاليها عجائبها وغرائبها، قصصها وأحداثها. ذكريات أشبه بعمل فنّي سرياليّ تتناغم فيه الألوان وتتناسق.

على رغم بُعد المكان والزمان، بدت قريتنا بكلّها وكليلها حاضرة، وساحة للعرض والتحليل. نوادر وشخصيات وأسماء غلب عليها طابع الأصالة والمتعة.

كنت أحبّ الورود جدّاً. ولشَحّ المياه كنت أحنّ إلى الألوان. وأمامي تربض بيوت الطين تتخلّلها بيوت من حجر. كان مجيء الربيع عودة للروح والألوان وجمال قريتنا. كان منظر المروج والأشجار وهي تزهر، وتكسو الأرض أزهار شقائق النعمان، والورد الأصفر البرّي يتماوج على سفوح التلال، منظراً أخّاذاً. كنّا ننطلق لجمع ما تيسّر من زهور وأعشاب. كانت الطبيعة ممتعة وأخّاذة.

كثيراً ما ذهبت إلى باحة مدرستها الثانوية، حيث حديقتها ووردها الجوري، وأتسلل من بين الأسلاك الشائكة بجسدي النحيل لأقطف وردة بهيّة رائحتها عطرة. ولم تكن تسلم الجرّة كلّ مرّة!

ذات يوم، صادف تسلّلي حضور ناطور المدرسة. أطلقت ساقَيّ للريح هاربة. كنت أطير من الخوف كفراشة تخشى حتفها. وصلت إلى منزلنا لاهثةً خائفةً. جلست في زاوية بعيدة عن تفحّص والدتي، وفتحت يديّ. كانت الورود قد ماتت وذبلت من شدّة قبضتي. نظرت إليها مبتسمةً وحزينةً، تناولت كتاباً ووضعتها بين صفحاته. كفناً وتابوتاً لها!

عادةً، كنت أزور التابوت وألقي نظرة تفحّص لحال الورود تلك. فتفوح منها ذكرى الحدث!

ماجدة أبو شرار

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى