فاعلية الخشب في زمن الجفاف العربيّ

د. سلوى الخليل الأمين

حين يتكلم السيد حسن نصرالله تشنّف الآذان، وتشتدّ العقول في يقظاتها حين تتقطر المهج بالحب لهذا القائد العظيم المتمنطق بالصدق. حالة وطنية لم يلمسها سياسي من قبل ولا من بعد، ولم يتمكن منها إلاّه، لأنه ابتعد عن ألاعيب السياسة المخجلة، لعلمه أن السياسة هي فن الممكن وفن الإدارة الصالحة وفن الحق الجماهيري الذي لا نزاع فيه، أي أنه لا يعترف بها إسلوبا مشاعا للعب على الحبال عبر التلاعب بمخارج الألفاظ وتنضيد العبارات وتنسيقها وزخرفتها لأجل إيصالها إلى الجماهير الشعبية رسائل مزهوة برموز تثير العواطف وتبلع الحقائق، وتدفن الحق العام في طيات الزمن، كما تشطب مواعيد الحب في الوطن الآمن الذي يريده المواطن الأول بين الأوطان.


لدى الاستماع إلى حسن نصرالله تختلف الأمور اختلافاً كلياً عما قيل وعما يقال فتاريخه منذ بدء مسيرته المقاومة لم يعترها الخلل، ولا النفاق السياسي، ولا التلاعب بعواطف الناس، بل كانت ولا تزال تضج بالحقيقة الذهب وتضعها علناً على بساط أحمدي، فتبدو واضحة مثل نور الشمس لكل من يسمع أو يقرأ أو يتابع، فلا زغل يشوبها، ولا خلل يعتريها، ولا كلام مبطناً يتماهى بين السطور. لهذا أصبح العدو «الإسرائيلي» يرسم استراتيجيته وخططه العسكرية بناء على ما يرصده ويسجله من خلال الإمعان في مضمون خطاب قائد المقاومة، لعلمه أن هذا القائد العربي لا يشبه الكثير من الحكام الأعاريب، فهو الصادق الصدوق في مساره ومسيرته، والوطني الأمين في ثباته على القيم الوطنية والعربية، والمناضل الصامد والشجاع لأجل تحرير فلسطين، والجسور حين يتخاذل الآخرون، والمقدام حين الخوف يعكر صفو المسارات، والمقاوم بصلابة المؤمن لجميع حالات الفقر والقهر والظلم والاستعباد والاستكبار العالمي.

فالحقيقة معه لا تعرف اللف ولا الدوران، لذا من المستحيل ألاّ يصدقه العدو، وإن أنكر البعض من أهل الوطن انتصاراته الوطنية ضد العدو الصهيوني، حتى وإن غضّ أولئك المجتمعون في قمة الكويت النظر عن أهمية وضع استراتيجية دفاعية موحدة تساند المقاومة لتحرير فلسطين من براثن المحتل «الإسرائيلي» الشرس. يبقى السيد صاحب العهد القائم، والوعد الصادق، والوفي لدماء الشهداء، والمجاهد بشرف لأجل بناء الدولة القادرة العادلة التي تعطي كل ذي حق حقه، بلا منة من سياسي أو زعيم شارع أو قائد محاور عرف كيف يبيع ضميره الوطني مقابل حفنة من المال تخزن ليوم الحشر «ساعة لا ينفع مال ولا بنون».

إنه العارف العالم بخبايا الصدور، لهذا هو المدرك مسارات المتخشّبين من أبناء الوطن الذين يكذبون على الناس لغايات باتت مكشوفة، إذ يظنون أن الشعب برمته يصدقهم، علماً أنهم يقومون بالشيء وضده من دون اعتبار لحسيب أو رقيب، ربما لأنهم يظنون أنهم المخولون بنشر البيانات الاستفزازية، ولهم وحدهم يعود الحق بشطب عباراتها متى شاؤوا في ليلة ليلاء، ولهم الحق في طرح أفكارهم توقعات مؤكدة وترسيم خرائط للطرقات مضللة، وهذا ما أشار إليه السيد حسن نصر الله في خطابه الأخير في بلدة عيناتا الجنوبية لمناسبة افتتاح المنتدى الثقافي والأدبي لجبل عامل، حين قال: منذ ثلاث سنوات راهنوا على رحيل الرئيس بشار الأسد خلال شهرين، ولم يحصل ما اعتبروه منجزاً حكماً، وها هم في قمة الكويت الأخيرة يطالبون بالحل السياسي في سورية، بعد دمار سورية وخرابها وسقوط الضحايا بالآلاف وتهجير سكانها، أما كان الأجدى بهم أن يتوكلوا منذ البداية ويعقلوها، ويخففوا من سقوط الضحايا ومن دمار سورية؟

من يسمع ويحلل يدرك أنهم هم الخشبيّون في تفكيرهم ، وأن عقولهم أصابها الصدأ ، أما المقاومة وجماهيرها فتعتبر الخشب مادة صالحة في جميع الفصول، وفاعليتها قوية في زمن الجفاف العربي والبرد القارس، حين يشهد الجميع على انهزام الجيوش العربية في حروبها مع «إسرائيل»، والذاكرة ما زالت تحفظ انهزامات بعض القادة العرب وهرولة أحدهم لزيارة «إسرائيل» علنا وفي وضح النهار، وتوقيع معاهدات سلام مجتزأة وإفرادية، أفظعها معاهدة كامب دايفيد التي أخرجت مصر، القوة العربية الجبارة، من معادلة العداء لـ«إسرائيل» في زمن الرئيس المصري الراحل أنور السادات، وتلتها معاهدة وادي عربة مع الأردن، ثم أوسلو التي لم تحرر حتى الآن الضفة الغربية في فلسطين من سيطرة العدو «الإسرائيلي» المشرف على كل شاردة وواردة في عمليات الدخول والخروج من الضفة وإليها. حتى العملة الوطنية غير موجودة، وغير مسموح صكها، والفلسطيني في الضفة الغربية يتداول بالعملة «الإسرائيلية»، «الشيكل»، وهذا كاف لاستفزاز شعور كل مواطن عربي يدرك حقيقة الأشياء الحاصلة على الأرض، والتي يحاول البعض طمسها وعدم غرسها في ذاكرة الأجيال الجديدة وإيقاظها على الدوام. أضف إلى ذلك ما كان يردد على مسامع الجميع من أن قوة لبنان في ضعفه. هذه المقولة التي نسفتها المقاومة حين أثبت فوارسها الأشداء خلال تصديهم للعدو «الإسرائيلي» عام 2000 وعام 2006، أن قوة لبنان في مقاومته، وتعاون جيشه مع المقاومة، فضلاً عن صمود المخلصين من قادة الوطن ومواطنيه الشرفاء. لهذا يبقى للخشب فاعلية الذهب في أيام الجفاف حتى لو ظن البعض أن الناس أصبحوا أغبياء لا يفقهون مضامين الكلام.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى