الرقم الصعب
إنعام خرّوبي
هي أزمة يرى البعض أنّ العالم لم يشهد مثيلاً لها منذ الحرب العالمية الثانية، مع تدفق اللاجئين بأعداد هائلة إلى دول أوروبا هرباً من الصراعات والحروب أملاً بحياة أفضل، فاستقلوا قوارب غير مؤهلة قد تقلهم إلى حتفهم وساروا في رحلة محفوفة بالمخاطر، واضعين مصيرهم رهينة تلاعب المهرّبين وعصابات الهجرة غير الشرعية، حتى بدوا كمن يهرب من الموت إليه. وفق بعض الإحصاءات، ازدادت نسبة المهاجرين إلى أوروبا في العام الحالي بنسبة 175 في المئة مقارنة بالعام 2014.
ويبدو أنّ هذه الأزمة انعكست انقساماً حاداً داخل دول الاتحاد الأوروبي حيث تتضارب الآراء داخل البيت الأوروبي الواحد، بين من يؤيد استقبال اللاجئين والتعامل معهم باحترام ومن يرى أنّ أوروبا ليست مستعدة لاستيعابهم لأسباب متضاربة منها ما يتعلق بالاستعدادات اللوجيستية والخدمية والبنى التحية وفرص العمل، ومنها ما يعود إلى أسباب دينية، بحيث يخشى البعض أن يؤثر تدفق هؤلاء اللاجئين، ومعظمهم من مسلمي سورية والعراق وأفغانستان، خطراً على «الجذور المسيحية لأوروبا»، كما جاء على لسان رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان، في حين وافقت سلوفاكيا وجمهورية التشيك على استقبال عدد صغير من اللاجئين، و»من الأفضل أن يكونوا مسيحيين».
حتى الآن لم تستطع دول الاتحاد الأوروبي الاتفاق على سياسة مشتركة للتعامل مع هذه الأزمة، ومن المرتقب أن يجتمع وزراء داخلية ألمانيا وفرنسا وبريطانيا في قمة أوروبية طارئة في 14 أيلول الحالي لبحثها والوقوف على أسباب رفض بعض الحكومات الأوروبية استقبالهم، وخصوصاً دول شرق أوروبا، ولا سيما المجر التي تعاملت مع المهاجرين بقسوة، فيما توقعت ألمانيا استقبال نحو 800 ألف لاجئ هذا العام، وكانت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل قالت في تصريح: «إذا فشلت أوروبا في قضية اللاجئين فستتدمّر رابطتها القوية بالحقوق الإنسانية العالمية ولن تكون بعد الآن أوروبا التي حلمنا بها».
وكانت المستشارة الألمانية اتفقت والرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند على فرض حصص إلزامية على الدول الأوروبية لاستقبال المهاجرين وطالبي اللجوء.
وقد وصل آلاف المهاجرين الآتين من هنغاريا أواخر الأسبوع الماضي إلى النمسا، في حين حذّرت وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي فيديريكا موغيريني من أنّ هذه الأزمة «طويلة الأمد». وقال المستشار النمساوي فيرنر فايمان: «نحن بحاجة لنكون نموذجاً للبشرية، فلا يجوز أن نترك النارحين يقفون تحت المطر أمام الحدود المغلقة»، مؤكداً أنّ مشكلة اللاجئين «لا يمكن أن تحلّ بالأسلاك الشائكة».
وتقدّر المنظمة الدولية للهجرة أنّ ثلث مليون شخص عبروا البحر المتوسط هذا العام للوصول إلى جنوب أوروبا. كما لقي أكثر من 2300 مهاجر حتفهم أثناء عبورهم البحر المتوسط أو على أراضي الاتحاد الأوروبي.
وبعد أن تمسك رئيس الوزراء البريطاني دايفيد كاميرون برفض انضمام بلاده إلى خطة أوروبية لإعادة توطين اللاجئين، يبدو أنه تراجع عن قراره أمام الضغوط الإعلامية والشعبية حيال صورة تداولتها وسائل الإعلامية ومواقع التواصل للطفل السوري إيلان غريقاً على شاطئ بيدروم في تركيا.
وفي المقابل، نجد أنّ الدول الخليجية تعير «الأذن الطرشاء» لكلّ ما يجري، رغم أنّ عدداً كبيراً من هؤلاء اللاجئين فرّوا من جحيم في سورية صنعته أيدي بعض الدول الخليجية بمساعدة أميركا والغرب، والتي لم تتب حتى يومنا هذا عن دعم التنظيمات الإرهابية المتطرفة وتسليحها لتدمير البلاد والقضاء على كلّ مقوّمات العيش فيها. ورغم تشدّقها بالشعارات الداعية إلى إعطاء الشعب السوري حريته وحقوقه، تخلت الدول العربية وخصوصاً دول الخليج عن هذا الشعب الذي يبدو أنّ مهمته بالنسبة إليها كانت فقط إسقاط الدولة السورية ورئيسها بشار الأسد. وفي حين يقيم معظم اللاجئين السوريين في لبنان وتركيا والأردن والعراق ومصر، فإنّ دول الخليج لم تستقبل لاجئاً سورياً واحداً، رغم أنها دول غنية وليست بها كثافة سكانية، وهي بالتالي قادرة على استيعاب أعداد من هؤلاء اللاجئين، لكنها تخلت عن واجبها الإنساني والأخلاقي حيالهم وأقفلت أبوابها في وجههم، بذريعة أنها تخشى أن يتحوّل الشعب السوري إلى شعب شتات، كما جرى للشعب الفلسطيني بعد عام 1948. علماً أنه تصاعدت الأصوات في الآونة الأخيرة لمطالبة دول الخليج باستضافة لاجئين سوريين، حيث أطلق ناشطون خليجيون على موقع تويتر وسم «استضافة لاجئي سورية واجب خليجي».
وإذا كانت بعض الدول العربية تساهم بوسائل شتى في ما يُسمّى «الترانزيت الجهادي» في المنطقة، وبالتالي في تعزيز الدوافع للهجرة عبر المتوسط، فإنّ على الدول الغربية، ومنها الأوروبية، مسؤولية لا تقلّ شأناً في هذا الاتجاه تتمثل في «الإمداد التسليحي» للنزاعات هناك نظراً لما توفره من فرص لصادراتها من الأسلحة. على هذا الأساس تخلص صحيفة «دير شبيغل» الألمانية إلى القول بأنّ «إجمالي تصدير الأسلحة من ألمانيا إلى العالم العربي وشمال أفريقيا بلغ هذا العام 587 مليون يورو، بعد أن كان في العام الماضي 219 مليوناً. بالتالي فإنّ على الاتحاد الأوروبي بذل كل الجهد حالياً من أجل إعادة الاستقرار لتلك الدول، بعدما ساهم، في وقت من الأوقات، في تقديم الدعم للأنظمة الديكتاتورية في تلك البلدان».
الغريب أنّ أوروبا عقدت العزم في وقت سابق على التعامل مع أزمة الهجرة أمنياً وعسكرياً، قبل أن تواجه عقبات قانونية وسياسية وأخلاقية في هذا الصدد. كما سبق للمفوّض الأعلى في الأمم المتحدة لحقوق الإنسان زيد رعد الحسين أن انتقد سياسات الهجرة التي يتبعها الاتحاد الأوروبي واتهمها بتحويل المتوسط إلى «مقبرة مفتوحة».
غياب الاستراتيجية الأوروبية الموحدة والواضحة أمام تحدّي «موجات المهاجرين» ما زال يضيف إلى الأزمة أزمات، وتكمن المشكلة في أنّ «صناع القرار» يميلون إلى معالجة عوارضها وليس أسبابها الجوهرية والعميقة، على وقع ما تكشفه تقارير أوروبية حول مطالبات بتغيير آلية العمل والقيام بإصلاحات في سياسة الهجرة واستقبال اللاجئين داخل أوروبا. وكان للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تصريح لافت في 16 آب الماضي، حين دعت الدول الأوروبية إلى «إيجاد تقديرات مشتركة وتوحيد المعايير في التعامل مع الوافدين من اللاجئين، تفادياً لتفاقم المشكلة مستقبلاً»، مشيرة إلى أنه «من المرجح أنّ قضية اللاجئين ستشغل الأوروبيين أكثر بكثير من اليونان واستقرار اليورو».
فإلى متى ستبقى هذه الأزمة تشغل الأوروبيين، وتقتل «المهاجرين من الموت» بمثله أو أبشع؟