الرسالة الموجهة من الأمين عبدالله سعادة إلى الطلبة القوميين الاجتماعيين في ستينات القرن الماضي
إعداد: لبيب ناصيف
في الصفحة 192 من مذكراته «أوراق قومية» يورد الأمين عبدالله سعادة التالي:
« تحسنت أوضاعنا كثيراً في سجن القلعة لجهة حرية التنقل بين الغرف، وممارسة الرياضة البدنية ولعبة الكرة الطائرة «الفوليبول»، وإقامة مطبخنا الخاص نموّنه من التموين الناشف المعطى لنا، ومن مشترياتنا. وبدأنا نشهد إقبال الطلبة من الجامعات لمقابلتنا، وكان رفقاؤنا الطلبة إذا أرادوا أن يكرموا زميلاً لهم، يصطحبونه لزيارتنا في سجن القلعة».
ويتابع في الصفحة 193 فيقول: « وقد طلب ليّ رئيس مكتب الشؤون الطلابية في الحزب أن أوجه رسالة إلى الطلبة لما كان لانتشار الحزب بينهم من زخم، فلبيتُ طلبه».
وفي الصفحة 214 يورد ما يلي: « أريد أن أذكر أن بين الوافدين لتهنئتي بالخروج من السجن، كان هناك الكثير من الرفقاء القوميين الاجتماعيين من مختلف منفذيات الحزب. ولكن عدد وفد الطلبة الجامعيين القوميين الاجتماعيين في بيروت، لفت نظري بصفة خاصة، لأنه، علاوة على عدده الذي قارب الخمسمئة، كانت نوعيته مميزة لجهة استعداداتها النضالية وسويتها الفكرية المتقدمة التي ظهرت جلياً في حوارات الطلبة معي «.
عن موضوع تلك «الرسالة» كنا تحدثنا ضمن النبذة عن العمل الإذاعي في ستينات القرن الماضي ونشرنا النص الكامل للمحاضرة التي ألقاها الأمين محمد بعلبكي في كانون الثاني 1961.
في مقدمة العرض الذي نشرناه عن العمل الإذاعي قلنا: « في السنوات الصعبة التي أعقبت الثورة الانقلابية، لم تكن الكتب الحزبية متوفرة إلا بشكل نادر جداً، وبحيطة أمنية متناهية، كذلك لم يكن عدد الرفقاء المقتدرين عقائدياً وإذاعياً متوفراً فيغطي الحاجة المتزايدة لمئات الطلبة الجامعيين والثانويين.
من الكتب الحزبية أذكر أن نسخة واحدة من «نشوء الأمم» كانت متوافرة للعمل الحزبي في البقاع الشمالي، الذي تولاه في أواسط ستينات القرن الماضي الرفيق السابق حكمت سمعان، وبفضل نشاطه انتمى العشرات من الرفقاء في رأس بعلبك، القاع وفي غيرهما من القرى.
الرفيق أنطون الخوريالمتحرك في معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية، كانت بحوزته نسخة من كتاب «نشوء الأمم»، استعارها منه زميله الطالب وديع الحلو، ليقرأه بدقة في فصل الصيف، حتى إذا اطلع عليه، أدى القسم وراح ينشط متولياً لاحقاً مسؤوليات حزبية عميد الخارجية، ناموس الرئاسة… ومحققاً حضوراً متقدماً في العمل الصحافي.
من الرفقاء المذيعين في تلك السنوات الصعبة أذكر: الأمينين هنري حاماتي وجمال فاخوري، والرفقاء الياس مسوح، يوسف المسمار، جورج قيصر، وجوزف بابلو.
إزاء هذا الوضع، وتلبية للحاجة المتزايدة، اعتمدنا الوسيلتين التاليتين:
الأولى: تنظيم زيارات للرفقاء المنتمين حديثاً أو للمواطنين الراغبين في التعرف إلى الحزب، إلى سجن القلعة، فتلتقي كل مجموعة مع أحد قياديي الحزب الأسرى: عبدالله سعادة، منير خوري، محمد بعلبكي، إنعام رعد، بشير عبيد، شوقي خيرالله وغيرهم، يطرحون عليهم الأسئلة في العقيدة والنظام والتاريخ ويتلقون الأجوبة المفيدة.
كانت تلك الزيارات تدوم ما يزيد على الساعة، وكانت إدارة السجن تعرف، فتغض النظر.
أما الوسيلة الثانية: فهي طبع ثلاثة كتيبات بشكل سرّي، وتوزيعها على كامل فروع العمل الحزبي في الجامعات والثانويات والمعاهد في العاصمة والمناطق، فتشكل بديلاً من الكتب الحزبية غير المتوافرة، وهي التالية:
رسالة من الأمين الدكتور عبدالله سعادة إلى الطلبة القوميين الاجتماعيين.
إعادة طبع المحاضرة التي ألقاها الأمين محمد بعلبكي وكان رئيساً للمجلس الأعلى في الجامعة
اليسوعية في شهر كانون الثاني 1961، بدعوة من الطلاب الجامعيين، في سلسلة التعريف بأحزاب لبنان.
دراسة أعدّها الأمين إنعام رعد، باسم قيس الجردي وهو الاسم المستعار الذي كان يعتمده عند نشر المقالات والدراسات في ملحق جريدة «النهار» ، بعنوان: « في ذكرى النكبتين بين 15 آيار و5 حزيران، الوعي سلاح الثوار الأمضى في معارك تقرير المصير».
بالنظر لأهمية مضمون الرسالة التي وجهها الأمين عبدالله سعادة في تلك السنوات من القهر والملاحقات والاعتقالات التي كان يتعرض لها القوميون الاجتماعيون، ننشرها أدناه بنصها الحرفي:
إلى الطلبة القوميين الاجتماعيين
أيها الرفقاء الطلبة
من وراء قضبان الشرف أتوجه إليكم لأحيي فيكم الرجولة النامية والعقلية المتفتحة والعزيمة الصادقة والخُلق السليم، وأجدد فيكم إيماني وأملي. إيماناً وطيداً وأملاً أكيداً بأن الحقيقة الاجتماعية العلمية، والمناقب السامية، والقيم الإنسانية العليا، لا بد أن تنتصر في نفوسكم الصافية نظاماً جديداً يحقق للحياة أغراض الحياة الراقية ومراميها الباقية.
كان الطلاب المرتكز الأساسي لنشوء الحركة السورية القومية الاجتماعية ففيهم بذر المعلم القائد بذور النهضة الأولى ومنهم انطلق الاشعاع القومي الاجتماعي يغمر الأمة كلها بنوره المضيء وأمله المحيي: ومنهم انبثقت أكثرية الطاقات القيادية في نهضتنا الرائدة.
إن أمتنا، على رغم أصالتها ونفسيتها الجيدة العريقة، رزحت طوال أجيال سحيقة تحت طبقات كثيفة من التفسّخ والبلبلة والتخلف، شوّهت نفوس أبنائها وعطلت قدرتهم على الإدراك وألغت المؤسسات القومية والتقاليد الاجتماعية الصحيحة. فكان بديهياً في هذا الضياع القومي والاجتماعي والحضاري أن يبتدئ رائد النهضة وقائد أجيالها الصاعدة في صفوف الطلاب يبني عليهم أسس النهضة القومية الاجتماعية، ويرفع معهم بنضال دائب مداميكها الثابتة وبروحها المتنامية.
لأنه من الصعب أن تنمو البذور الجديدة في النفوس التي انتهى تكوينها على عقد الحياة العتيقة أو على فوضى مفاهيمها المتنافية مع العقيدة العلمية الشاملة وثورتها الكلية.
إن نفوس الطلاب المتفتحة على العلم، والتي أذاب لهب المعرفة فيها جليد الضعف والغيبية والقدرية هي طليعة النفوس المؤهلة لفهم نهضة الأمة وإدراك قواعدها العلمية وحمل أعبائها الجسيمة. لأن هذه النفوس الجديدة، التي لا تزال على أصالتها وسلامة جوهرها، ولما تفعل فيها القضايا الرجعية المعطلة والحميّات الغوغائية المخرّبة، هي النفوس التي تنتصر فيها الحقيقة وتستهويها القيم الصحيحة والمثل الراقية.
إن الرجعية العتيقة تبدل ثيابها البالية وشعاراتها الباهتة بثياب جديدة وشعارات مغرية، فتتجمع تكتلات وجبهات إنقاذ، تستهدف منها إلهاء النفوس الجديدة عن حقيقتها لتظل تائهة عن قضيتها، غارقة في الانحلال والتخاذل والتصادم والانحطاط المناقبي والفوضى الاجتماعية، لتؤمن استمرار تسليطها على الشعب واستعبادها له ومتاجرتها بآلامه واستغلالها لحيويته وخيراته. وهنالك نفوس مخلصة، تواّقة الى التقدم والانتفاض على مستنقعات الرجعة وشلل التجزئة، تقع تحت سحر القضايا المتضخمة وتستهويها الأفكار التقدمية الثورية المستوردة، فتطعّمها على أحلامها الموروثة من عهود الدولة الدينية وعقلية الاستسلام الغيبي، فلا تلبث عند الصدمة الأولى أن تستفيق على الآمال المعقودة على سحر الملهمين وعجائب الإيمان المقعد، وحرارة المسّ المسعور.
إن الطلبة يشكلون أهم إمكانات إنقاذ الأمة من مستنقعات الرجعة العتيقة ودجل الرجعية الجديدة، ومن حميات الثورية العاطفية المسعورة، باعتمادهم العلم والمعرفة الصحيحين، وباهتمامهم في بناء نفوسهم بناءً سليماً يمكنهم من أن يكونوا قوة مدركة، قوة مقررة، قوة فاعلة، قوة تستخدم العلم لتحسين الحياة وترقيتها. لأن العلم إذا انحصر في فضائل الاطلاع والاقتباس فحسب، بقي شيئاً خارجياً. شيئاً ميتاً. يلتصق بالإنسان من الخارج لا يزيد إلا بلبلته وتناقضاته.
الاطلاع على المدارس الفكرية المتعددة والإلمام بالخبرات الإنسانية المتنوعة شيء ضروري لإغناء الإنسان بالمعارف والمعلومات، وتسلحه بالخبرات والتجارب. إلا أن الأهم هو اقتباس الأسلوب العلمي والعقلية العلمية التي لا تحجم عن إخضاع كل أمر لمحك العلم وحكمه، والتي ترفض المطلقات والحتميات مهما هلل لها المتعصبون وصفق لها المزينون.
والأهم من العلم وأسلوبه هو التزام الإنسان المتعلم بأحكام العلم واهتمامه بنصرة الحقائق التي يكتشف وبخدمة أغراض الحياة السامية بشجاعة وتصميم ورسالة، وإلا بقي العلم وحقيقته معرفة لا تنفع متساوية مع الجهالة التي لا تضرّ.
كثيرون من الطلبة يقبلون على النهضة القومية الاجتماعية، تجذبهم إليها أَسسها العلمية وأصالتها النفسية ونظامها الدقيق ومبادئها المحبوكة في قضية كلية شاملة، وتستهويهم ثوريتها وبطولات جنودها الخارقة ونضال رجالها الرائع. فيقبلون عليها في صفائهم العقلي ومناخهم النفسي المثالي. فتنعقد عليهم الآمال الكبار. ولكنهم ما أن تجابههم الحياة، بعد تخرجهم، بمطالبها القاسية ومشاكلها المعقدة وإغراءاتها المثيرة، حتى يقعوا في تجارب الضعف والترهل والتراجع، فيرمون المشعل ويركنون الى سلامة العيش والتراخي. والقسم الأسوأ بينهم تتهرأ نفوسهم فيتعللون بتبريرات فكرية مرائية ويقعون فوق نقيصة النكوص، في نقيصة الرياء وعار الدجل الفكري. ويمسي علمهم وفكرهم سلعة تعرض للبيع في مناخس الرجعية وأسواق العمالة الداخلية والخارجية التي تدفع بأقلامهم المستعبدة في معارك الحرية وميادين الثورية بقصد تشويه الحرية وتعطيل الثورية. وقسم تأخذه الخيلاء الغرارة وتفعل فيه مركبات الاستعلاء التي هي غالباً متنفس لمركبات النقص فيتنكر لقضية الشعب ونهضته ويحجم عن المشاركة في ركب النهضة الذي يأتلف فيه كل من تذخر نفسه بمبدأ الحياة من العمال والفلاحين والحرفيين والمفكرين، فينفرد عن موكب الحياة الى برجه العاجي و«محششته» الفكرية يحسبها صومعة النفس ومنسكة الفكر ومحبسة التأمل، ولكنها صومعة من دون إيمان، ومنسكة من دون محبة، ومحبسة من دون قضية.
هذه بعض الأشراك التي تصطاد أقدام الطلاب في مسيرة الحياة. لم آت على ذكرها إلا لأنبه لها وأحذر منها. إشراك اعترضت وتعترض سبيل كل رائد ومجاهد، ولا ينجو منها إلا الإيمان المبني على صحة العقيدة ووضوح الفهم والرؤية، والتدرب على الممارسة النظامية، وتنمية القيم الراقية والمثل العليا التي بها يصبح للحياة معنى يتعدى مستوى العيش والسلامة، وإلّا تعرضنا لخسارة نفوسنا في معترك الحياة الحامي، ولا يعوضنا عنها أي كسب أو مربح. إذ ماذا يربح الإنسان لو ربح العالم وخسر نفسه؟!
رفقائي الطلبة
تستهوي الطلبة الزاخرين بالشباب والقوة والأمل الشعارات الثورية. لأنهم في حبهم للحياة وعزها وجمالها، وفي ثقتهم بعزيمتهم، يتوقون الى نسف كهوف التخلف الذليلة دفعة واحدة، ليقيموا بزنود الجبابرة وإرادتهم صروح التقدم والكرامة وقواعد الحياة الجديدة التي يتوقون إليها. هذا من طبيعة الشباب ومن طبيعة المرحلة الاجتماعية التي تمر بها أمتنا، والتي تعاني من مضاعفات الرجعية والتخلف النفسي والمادي فيها ما يكاد يعطل حياتنا ويشوه جمالها ويلغي معناها وغايتها. ولكن الطلبة وهم المسؤولون أولاً تجاه العقل وأحكامه، والمعرفة وهدايتها والخبرة وعبرها، وهم الذين لا تزال نفوسهم خالصة من أدران المنافع، لا يجوز لهم أن ينجرفوا في صخب العواطف الحامية أو ينجروا مع أمواج الغوغاء المسحورة في ثورة خُلّب، معتبرين تشنجاتها ثورية تصلح لتصحيح أوضاعنا القومية والاجتماعية والسياسية والمناقبية المتداعية. كما لا يجوز لهم أن تحدد ثوريتهم وتقرر خطاها انفجارات العواطف المكلومة والكرامة المطعونة أو النقمة المكبوتة من دون الاستناد إلى قاعدة علمية وفي هداية الأهداف الصحيحة. وبخاصة بعد عبرة انهيار الأحلام الثورية السطحية أمام كتائب العدو المنظمة وعقليته العلمية.
الثورية الصحيحة شأن علمي، وموقف وجداني من الحياة أساساً، ومن قواعد الحياة الراهنة التي لا تصلح للحياة الإنسانية الجيدة. وهي أيضاً مسلك رسالي ونهج نظامي لإلغاء القواعد العتيقة وإقامة القواعد الجديدة التي تصلح للحياة الجديدة وتساعد في تحقيق مطالبها الراقية وغاياتها السامية.
هنا يجدر بنا أن نلفت الى الفرق بين الثورة Revolution والإصلاح Reforme . الإصلاح لا يتضمن نظرة جديدة إلى الحياة وإلى الأوضاع تختلف عن النظرة القائمة والمعمول بها. بل يتبنى النظرة العتيقة في أساساتها. فهو ليس إلا محاولة تصويب النظام القائم وتصحيح أخطائه الفادحة وتناقضاته الحادة بقصد تأمين القدرة له على البقاء والاستمرار، وصيانته من رياح الثورة الجذرية التي تبغي نسفه وتغييره. أبلغ ما يستهدفه الإصلاح لا يعدو: أولاً: ضبط أعمال النظام القائم ليتلاءم مع قواعده القانونية والنظرية. مثلاً: نظام الطبقات الرأسمالي. الإصلاح يهدف إلى الحد من معاكسة تطور بعض أفراد الطبقة العاملة من طبقتها الى الطبقة الوسطى، والحد من التدخل لمنع بعض أفراد الطبقة الوسطى من الارتقاء الى الطبقة الرأسمالية من دون إلغاء الكابوس الرأسمالي المهيمن على الحكم وعلى الاقتصاد، والذي يشكل عثرة كبيرة في سبيل تطور العمال الى الطبقة الوسطى وعثرة كبرى في سبيل تطور أفراد الطبقة الوسطى الى الطبقة الرأسمالية الطاغية. ولكن الإصلاح لا يسمح بالبحث في صحة نظام الطبقات الرأسمالي من أساسه. لأن عند ذاك يتعدى النظرة الإصلاحية الى النظرة الثورية.
ثانياً: صقل زوايا التناقضات الحادة في النظام القائم التي تنذر بتهديد سلامته من الأساس، وإلهاء العناصر المؤهلة لنسفه ببعض التعويضات لتهدأ نقمتها وتتخدر ثوريتها. مثلاً: السماح بالنقابات من أجل التفاوض مع أرباب العمل الرأسماليين في قضية رفع أجور العمال وتحسين أوضاعهم. فينال العمال تحسينات تدريجية في أجورهم. ويعود الرأسماليون يعوضون عن خسارتهم برفع أسعار السلع يدفعها المواطنون المستهلكون ومن بينهم العمال أنفسهم. فكلما ارتفعت أجور العمال زاد مستوى المعيشة بحيث يبقى تحسين أوضاعهم بسيطاً ومحدوداً. ولكن البحث في النظام الرأسمالي وفي طبيعة الرأسمال الحقوقية الاجتماعية، وحق العمال في الشراكة بإدارة العمل، وحقهم في أرباح الإنتاج المشترك، فأمر مرفوض كليّاً.
أما الثورة فتعني- كما قلنا- نظرة جديدة الى الحياة أساساً، الحياة في نواحيها المادية والروحية، في شمولها الذاتي والاجتماعي والإنساني، في مثلها وقيمها، في أهدافها وغاياتها، ليبني الثوري على أساس هذه النظرة موقفه من الأوضاع الراهنة ومنطلقاتها ومؤسساتها، ويقيّمها بالنسبة الى هذه النظرة الجديدة. وبكلمة أوضح يجب أن تكون له نظرة فلسفية الى الحياة وعقيدة علمية جديدة تجسدها وتحققها. كما أنه بديهي أيضاً أن يجسد الثوري نظرته وعقيدته في حياته وتصرفاته وأعماله، وأن يكون له نهج واضح القواعد يلتزمه بشجاعة وجرأة وحكمة ويدعو اليه بروحية رسالية مناضلة لإنشاء الجماعة المؤمنة بالرسالة الجديدة والنظام الجديد، والقادرة في إيمانها ونضالها ورساليتها أن تنصرها وتحققها. أي أن تنتصر الرسالة الجديدة في دعاتها واتباعها أولاً. أن تنتصر في أخلاقهم ومناقبهم وأعمالهم،
وفي كل شؤون حياتهم، ومن ثم أن تنتصر بهم في الأمة. لأن الرسالة الجديدة- الثورة – لا يمكن أن تنتصر بمواعظ الفريسيين ومحاضرات البرجعاجيين أصحاب البرج العاجي وفلسفات الكلاميين بمعزل عن النضال الفعلي وعن التجسد والقدوة. شرط الثوري أن يبلغ الإيمان عنده بالثورة وقيمها حدّ العطاء الكلي. لأن الثوري يحيا لقيم الثورة. فإذا ما سقط في النضال تبقى قيمه مستمرة وخالدة في الجماعة الثورية الباقية.
كما أن النضال ذاته إذا لم تقرر خطاه وأهدافه ومراحله أحكام العلم الموضوعية، وإذا لم تنسق أعماله الوحدة الروحية النظامية التي تجمع الثورويين في نظام متين فإنما تهدده التناقضات الفردية والتفسخ النفسي فيصفعه الواقع القاسي الذي لا تشفع عنده الحماسة ولا العواطف ولا الخطب الرنانة، لذلك كان لا بدّ للحركات الثورية من دعامتين أساسيتين: وحدة الروح والعقيدة العلمية الصحيحة، ووحدة النظام، وكل انتقاص من هذين العنصرين الأساسيين يقضي على الحركات الثورية ويعطل قدرتها على البقاء والانتصار.
شرط العقيدة لكي تكون عقيدة أن تشكل نظرة الى الحياة في أساسها وشمولها، تبني عليها بنيتها الفوقية ومبادئها التفصيلية. ولم يعد جائزاً للعقائد في هذا العصر العلمي إلّا أن تستند الى العقل والعلم، فلا تساير العواطف والتقاليد والآمال المتناقضة مع حقائق العلم وأحكام العقل.
وشرط النظام لكي يكون نظاماً أن يكون معبراً عن روح العقيدة، مجسداً لها، ضامناً فعالية الجماعة في «روحية الفريق» الذي تتحد فيه «الأنا» المفرقة مع «النحن» الجامعة وتكتنه بها. أما الأشكال النظامية فإنها تبقى، على كبير قيمتها، ثانوية بالنسبة الى نظام الفكر والنهج الذي يجمع كل أفراد الفريق في إرادة واحدة، ونهج واحد، وهدف واحد.
يقول المعلم: « إن مبادئنا قد كفلت توحيد اتجاهنا، ونظامنا قد كفل توحيد عملنا في هذا الاتجاه».
على ضوء هذه القواعد العلمية المنطقية يجدر بنا، أيها الرفقاء: أن نستعرض سوية في نظرة خاطفة حركتنا السورية القومية الاجتماعية ومنطلقاتها الفلسفية وقواعدها الفكرية لنسبر نظرتها الجديدة وصحة علميتها وعمق ثوريتها.
ولا أنوي مراجعة المبادئ السورية القومية الاجتماعية. فقد أوردها المعلم بوضوح في كتاب «التعاليم» وشرحها في «المحاضرات العشر» وأرسى أصولها العلمية في كتاب «نشوء الأمم» وأوضحها في كتبه وخطبه وأحاديثه ورسائله وحياته. كما استمرت في إيضاحها ومعالجتها المؤسسات الحزبية الرسمية. وهي تشكل الإطار العقدي للنهضة السورية القومية الاجتماعية. ولكنني سأشير إلى أهم المرتكزات الفلسفية والقواعد الأساسية للنهضة.
وقبل البدء لا بد من أن أشير إلى خاصة مهمة امتاز بها الحزب السوري القومي الاجتماعي وهي: التحديد العلمي المسؤول.
مما لا شك فيه أن التحديد العلمي المسؤول للعمل القومي والحزبي في أمتنا والعالم العربي بدأ بسعاده. بالحزب السوري القومي الاجتماعي. ما سبقه كان تململات وجزئيات وتمنيات. وما تبعه تأثر به كثيراً ولكنه لم ينجُ من الترسبات العاطفية والأحكام التعسفية والفرضيات الوهمية المتعارضة مع الأسلوب والنهج العلميين. والتحديد العلمي واجب وضروري لنجاح الأعمال القومية التي تأخذ على عاتقها بعث أمة والنهوض بها، لأنه يوضح الأسلوب والهدف، ويوحد النهج والجهود. ويلغي المناورات والانقسامات، كما يلغي الاستغلال والخصوصيات وعبادة الأشخاص التي تعطل فعالية الأعضاء وتهدر جهودهم وتضحياتهم.
ألمح سعاده الى هذه الخاصة بقوله: « امتاز الحزب السوري القومي الاجتماعي عن غيره بأنه حدد وأوضح. أعطى التحديد D finition للقضايا والأمور التي تواجه الحياة السورية والمجتمع السوري».
أما الشيوعية وقد سبقت طلائعها ظهور الحزب السوري القومي الاجتماعي فإنها عقيدة مستوردة كلياً تتعارض مع خط امتنا النفسي ونظرتها الى الحياة، علاوة عما للنهضة السورية القومية الاجتماعية عليها من مآخذ علمية وفلسفية وردت في دراسات ومنشورات عديدة.