تجارتان مالية لبنانية وسياسية دولية ـ عربية

يوسف المصري خاص

على مقربة من شهر نيسان الماضي، كانت دوائر مفوضية اللاجئين قد أنجزت تسجيل النازح رقم مليون و14 ألفاً في مدوّناتها عن أعداد النازحين السوريين في لبنان، ثم بالتوالي تعلن المفوضية عن تعاظم هذا العدد. وطبعاً المشرفون على هذه الدوائر يدركون أنّ هناك في لبنان عدداً قريباً من الرقم المعلن ينتظرون تسجيل أنفسهم.

وتشدّد مصادر في المفوضية على أنّ هذه الأرقام المسجلة وتلك التي تنتظر على طريق التسجيل، عائدة إلى نازحين سوريين حصراً، وليس بينهم العمال السوريون الموجودون في لبنان. وتلفت إلى أنّ الأمم المتحدة تقوم بتسجيلهم بالتدريج، وذلك لأسباب يتصل بعضها بمدى قدرة كادرها المستنفر في لبنان على الإنجاز، إضافة إلى سبب آخر أساس وهو أنّ التدرّج في إعلان أرقامهم يهدف إلى تجنّب صدم المجتمع اللبناني بالرقم الكلي.

ولكن داخل لعبة إحصاء أرقام النازحين السوريين إلى لبنان، توجد ظلال رقمية مهمة غير مكتشفة أو يتمّ غضّ الطرف عنها عمداً. والحقيقة أنّ وقائع يوميات النزوح السوري إلى لبنان، تظهر معادلة توازن رقمي يومي بين النازحين الواصلين إلى لبنان والخارجين منه إلى سورية. تفيد تقديرات مستندة إلى مصادر في الأمن العام اللبناني، أنه يومياً هناك معدل دخول وخروج للنازحين السوريين من وإلى لبنان، شبه مستقر ومفاده أنه في مقابل 8 آلاف نازح بالغالب يدخل يومياً إلى لبنان، يعود إلى سورية من لبنان يومياً أيضاً، نحو خمسة آلاف نازح. ويعني ما تقدم أنّ الرقم الصافي المتبقي في لبنان هو ألفين، ومعظم هؤلاء غير نازحين عمال أو سوريون يستخدمون مطار بيروت للسفر إلى الخارج. وتشي هذه الوقائع عن حركة الدخول السوري اليومي من/وإلى لبنان، بأن كتلة النزوح السوري المستقرة الآن في لبنان تتشكل من أولئك الذين نزحوا خلال الجولات الأولى من الحرب السورية، أما ما قدم من النازحين خلال الجولات اللاحقة المستمرة منذ عام ونصف العام، فهم غير مستقرّين في لبنان وخلفيات تردّدهم على البلد هو الإفادة من التقديمات التي تمنح لهم بفعل تسجيل أنفسهم كنازحين.

ويؤشر ما تقدم إلى أنّ إحصائيات النزوح في لبنان تحتاج إلى آلية احتساب جديدة تأخذ في الاعتبار ما يمكن تسميته «ظلال أرقام النزوح».

أما قصة إنشاء مخيمات للنازحين السوريين في لبنان، فدونها بحسب خلاصة تقرير هيئات تعمل لدى الأمم المتحدة، عقبات تخصّ مضيفيهم اللبنانيين كما ورد أمس في الحلقة الأولى من هذا التقرير .

ولكن موظفاً كبيراً في الأمم المتحدة يقدم المزيد من المعلومات حول هذه الجزئية، ويحصي نوعين من الأسباب التي تجعل لبنان غير معني بإنشاء مخيمات لجوء للنازحين السوريين، أولها أمني ويتعلق بوجود عقدة لبنانية من فكرة إنشاء مخيمات لمواطنين غير لبنانيين على أرضه. وتقتات هذه العقدة أسبابها من ذاكرة لبنان عن الدور الذي قامت به المخيمات الفلسطينية في الحرب الأهلية اللبنانية. أضف إلى ذلك التخوّف اللبناني وإلى حدّ ما بعض الغرب، من أن تتحوّل مخيمات لجوء النازحين في لبنان إلى تجمعات تقصدها المجموعات السلفية السورية والخليجية المتطرفة، بهدف تحويلها لبؤر أصولية جهادية.

النازح يدفع لكبار التجار ثمن إقامته!

… وثانيها اقتصادي: فطبقة التجار اللبنانيين بمختلف أطياف قطاعاتهم، مستفيدون من حالة فوضى انتشار النازحين، وعدم حصرهم بمخيمات ترعاها الدولة والدول المانحة. ففي الحالة الأخيرة يصبح النازح مقيّداً اقتصادياً واجتماعياً وأمنياً بظروف نزوحه، ويصبح تداخله بالحياة اليومية اللبنانية شبه معدوم، وتصبح دورته الاقتصادية مغلقة ضمن مخيم إيوائه، وتحت سقف مبلغ الـ400 ألف ليرة لبنانية الذي تقدمها لعائلته شهرياً هيئات الإغاثة. أما في الحالة الراهنة لمواصفات الوجود غير المقيد للنازح، فإنه من وجهة نظر أصحاب المصالح الحرة اللبنانية، يشكل فرصة عمل رخيصة في مؤسساتهم. وهذا السبب يشكل أبرز الدوافع التي تجعل الدولة اللبنانية تنصاع لطلب التجار بعدم إنشاء مخيمات لجوء للنازحين السوريين.

وفي إحصائيات أولية لم تنشر، يتبيّن أنّ المؤسسات اللبنانية تقوم بتشغيل النازح السوري بربع أجر العامل اللبناني في أحسن الأحوال، ومن دون أن تمنحه أي تقديمات اجتماعية. وهذا يؤمّن أرباحاً إضافية لهذه المؤسسات.

… بهذا المعنى، فإنّ الفكرة الأساس التي لا تزال مجهولة في ملف النازحين السوريين في لبنان، تتمثل في أنّ النازح السوري الفقير يدفع ثمن إقامته في لبنان للطبقة اللبنانية الثرية. وثمة رأي في الغرب يقول إنه ليس صحيحاً أنّ استضافة لبنان للنازحين غير مدفوعة الثمن، لكن مشكلة لبنان تكمن في أنّ الدولة تفتقر إلى نظام ضريبي قادر على حسم النسبة المطلوبة والعادلة من أرباح التجار الأغنياء التي بات يساهم فيها النازح المتواضع الدخل، لمصلحة الطبقات الأخرى اللبنانية!

نظرية كيري: «تكييف» الاستقرار مع استمرار النزوح

وبحسب هذه المصادر فإنّ زيارة وزير الخارجية الأميركي جون كيري إلى لبنان جاءت لتحضّ الدولة اللبنانية على «تكييف» الاستقرار في لبنان، مع هدف استمراره في تأدية وظيفة استيعاب النازحين السوريين ولو بغياب تقديم المجتمع الدولي ما تعهّد به من مساعدات إليه.

وأوحى كيري وزير خارجية أكبر «دولة ديمقراطية» في العالم بأنّ بلده يفضّل جعل هدف التزام لبنان بالعملية الديمقراطية في درجة تالية، وذلك لمصلحة تحصين استقرار لبنان ملجأ فوضى النزوح السوري في ظلّ معادلة الحكومة السلامية الراهنة التي عليها شراء وقت الفراغ الرئاسي وأيضاً شراء الوقت الإقليمي الصعب في سورية والعراق.

ويبدو أنّ لبنان ارتضى القيام بهذه الوظيفة، حيث كلّ طرف فيه يقايض موافقته عليها بأسباب مباشرة أو غير مباشرة يريدها من المجتمع الدولي، بحسب ما يقول تقرير أوروبي حديث.

ويشكك نفس هذا التقرير بجدية الوعود الدولية للبنان بمساعدته مادياً على نحو يؤمّن له قدرة فعلية على استيعاب النازحين. ومن وجهة نظرها فإنه بات واضحاً للمجتمع الدولي، على رغم المكابرة في التمنّع عن إعلان ذلك، أنّ هناك جهة واحدة قادرة على مواجهة قضية النزوح السوري المقدرة رقمياً بعشرة ملايين نازح خارج سورية وداخلها وهي – أي هذه الجهة – الدولة السورية. ولكن الدوليين ولأسباب سياسية لا يريدون في هذه المرحلة الاعتراف للنظام السوري بهذا الدور، لأنه يؤمّن للأخير حسم ثلاثة أرباع ملف الصراع الداخلي الذي تستغله دول «أصدقاء الشعب السوري» للنفاد منه إلى تبرير تدخلها في الشأن السوري الداخلي.

وخلال الفترة الأخيرة نقلت مصادر مطلعة في بيروت عن زوار أوروبيين على علاقة بالاتحاد الاوروبي قولهم، إنّ اقتراع النازحين السوريين في لبنان للرئيس الأسد وفق المشهد الكثيف الذي رصدته وسائل الإعلام، أغضب الغرب ودولاً خليجية. وسبب هذا الغضب لا يعود بشكل رئيس لكون هؤلاء انتخبوا الأسد، بل لكونه أشار بوضوح إلى أنّ بيئة النزوح السوري يمكن إعادتها إلى وطنها في حال تعاون المجتمع الدولي مع النظام السوري. وأظهر مشهد توافد النازحين بكثافة إلى السفارة السورية في بيروت، أنّ جعل فوضى النزوح السوري قابلة للتنظيم في حالة واحدة، وهي دعوتها لإعادة إنتاج صلتها بالدولة السورية. وعدا ذلك فإنّ هذه البيئة ستظلّ محلّ تشتّت ومصدر قلق من انعكاساتها الأمنية والاجتماعية في الدول التي تقيم بين ظهرانيها.

غداً: طريق النازحين في لبنان إلى دول الغرب

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى