دير مار اليان… شهيد الهوية المسيحية الشرقية

لورا محمود

لسورية أهمية كبيرة في تاريخ المسيحية. فمدينة دمشق تُعدّ مقرّ عددٍ من الكنائس والبطريركيات المسيحية، أبرزها بطريركية أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس، وبطريركية السريان الأرثوذكس، وبطريركية الملكيين الكاثوليك، وغير ذلك.

وهناك عدد من المقدّسات المسيحية المهمة الموجودة على امتداد الأراضي السورية، مثل صيدنايا ومعلولا وصدد ودير سمعان وسرجيلا، وعشرات القرى التاريخية المسيحية التي كانت مراكز القدّيسين في حقبة المسيحية الأولى. ومن هذه المقدّسات، دير مار اليان الحمصي.

دير مار اليان عبارة عن كنيسة أثرية قديمة تقع في بلدة القريتين في ريف حمص الجنوبي الشرقي، وتحوي رفات القدّيس اليان الحمصي، القدّيس المسيحي الذي قُتل خلال الاضطهادات الرومانية في القرن الثالث.

بُنيت الكنيسة وفق الطراز المعماري البيزنطي، وزُيّنت بأعمدة من رخام. طوال فترة القرون الوسطى، لم تدمّر، إنما ثبتت في مكانها. وهناك دليلان ناصعان على ذلك: أيقونة للقدّيس اليان وهي موجودة حالياً في باريس وتعود لعام 1598، وقد أهداها إلى «دير مار اليان» بطريرك أنطاكية وسائر المشرق يواكيم السادس الذي كان سابقاً مطراناً على المدينة. وهناك أيضاً أحد الرحّالة الفرنسيين الذي زار حمص عام 1658، ويتحدّث عن الكنيسة وعن تابوت مار اليان. إلّا أنه ربما هُدمت أجزاء كبيرة من الدير في القرن التاسع، حين أمر المتوكل على الله هدم جميع كنائس حمص. وهو ما يمكن أن يلاحَظ من كون الكنيسة في القرن التاسع عشر كانت مؤلفة من غرفة بطول تسعة أمتار وعرض ستة أمتار فقط، ولا تتسع للمصّلين. لذلك، وُسّعت الكنيسة عام 1843 بجهود كاهنها يوسف وأبناء البلدة، واستمر العمل 45 يوماً؟

عام 1969، قرّر مطران حمص آلِكسي عبد الكريم إعادة ترميم الكنيسة. وخلال الترميم ووضع الكلس على جدران القبة من الداخل، انكشفت جداريات كبيرة تغطّي القبّة، وتصوّر مراحل من حياة يسوع ومريم العذراء والتلاميذ الـ12 والأنبياء. وترقى هذه الجداريات على أقل تقدير إلى القرن الثاني عشر. ولكن، يعتقد بعض المؤرخين في المدينة أنها تعود إلى القرن السادس. وبكل الأحوال، تعدّ هذه الحدارية من أقدم اللوحات الكنسيّة في سورية. وأبلِغت مديرية الآثار والمتاحف في دمشق عن هذا الاكتشاف، فقامت بأعمال الترميم للحفاظ على الأيقونات بحالتها الأصلية عام 1970، كما تم رسم المزيد من الجدرايات على أطراف الكنيسة، من قبل الفنانين جبرائيل وميخائيل موروشان، اللذين وفدا من رومانيا.

اليان الحمصي، قدّيس وشهيد مسيحيّ. ولد في مدينة حمص خلال العهد الروماني لأسرة ثريّة. والده هو كنداكيوس أحد وجهاء المدينة ووالدته أخثتسرا. تلقى المبادئ المسيحية عن طريق مربّيته الخاصة التي تُدعى مطرونة، والتي عرّفته إلى الناسك إيباتيوس الذي كان يقيم في إحدى المغاور قرب الهرمل على نهر العاصي. انخرط في السلك العسكري بناءً على طلب والده، ثم تركه ليدرس الطبّ والصيدلة إذ كان شغوفاً بهما، فأتقنهما وذاع صيته كطبيب في المدينة. فكان يشفي أناساً كثيرين. وإلى جانب ذلك، كان يسعى إلى نشر المسيحية، ونقل الناس من الوثنية إليها. وخلال الاضطهاد الروماني عام 284، ألقي القبض على سلوانس أسقف المدينة، والشماس لوقا، والقارئ موكيوس، وبينما هم يُقادون ليكونوا طعاماً للوحوش ـ وفق القواعد الرومانية في الإعدام ـ تقّدم اليان منهم وشدّهم على عدم الخوف من الموت، وبعد هذه الواقعة، أخذ يبشر علانيةً بالدين المسيحي ويدعو إلى ترك عبادة الأصنام، فقبض عليه الجنود الرومان وسجنوه في مغارة على أطراف حمص، وقاموا بتعذيبه كما تنصّ الرواية المسيحية الرسمية، إذ غرسوا في يديه ورجليه المسامير ثم في رأسه، فاستشهد عام 284 بعدما رفض الارتداد عن المسيحية. وبعد أن هدأ الاضطهاد، نقل مسيحيو المدينة جثمانه إليها، وبنوا كنيسة صغيرة بِاسمه. وعندما أصبحت المسيحية دين الإمبراطورية، وُسّعت الكنيسة وغُطّت جدرانها بالجداريات الضخمة، ولا تزال رفاته حتى اليوم محفوظةً ضمن مذبحها الرئيس.

تعرّضت كنائس ومقامات دينية عدّة في سورية للتفجير والهدم على يد تنظيم «داعش» الإرهابي. بحجة أنها تعارض معتقداته الدينية. وفي محافظة حمص، تعرّضت معالم أثرية عدّة للتخريب. وهدم عناصر «داعش» دير مار اليان التاريخي في السادس من آب الماضي، مستخدمين الجرّافات، بحجّة أن الدير لا يعبد الله. كما نقل التنظيم الإرهابي نحو 110 سوريين من أبناء البلدة، بينهم عشرات المسيحيين إلى مدينة الطبقة في محافظة الرقّة، وخَيّرهم بين «اعتناق الإسلام» أو دفع الجزية.

يُذكر أن الدير تحوّل خلال العقدين الماضيين، وبعد تجديد الحياة الرهبانية فيه على يد الأب دالوليو، إلى مقصد للزوّار والمصلّين. وأضحى مركزاً للحوار بين الأديان في قلب مدينة القريتين التي تُعدّ بدورها رمزاً للتعايش بين المسيحيين والمسلمين في وسط سورية.

ولا بدّ أن نذكر أن عيد القديس اليان يقام سنوياً في السادس من شباط، ويجذب عدداً كبيراً من الحجّاج. وتُنشد جوقة الكنيسة التراتيل في كل قدّاس يُقام في كنيسة الدير، ومنها ترنيمة نظمها الأديب والشاعر داود قسطنطين الخوري 1860 ـ 1939 عنوانها «لكِ يا أرض الشآم»، ومن أبياتها:

يا من استشهدّتَ في ثالث قرن للمسيحِ

ذقت موتاً رغبة في دينه الحقّ الصحيحِ

لم يكن يُثنيك في الإيمانِ عنف الحاكمين

وقبلتَ الموت موت الشهداء الباسلين

يا شهيداً قد تجلّى في البرايا نور فضله

كُن لنا خير شفيعٍ عند مَنْ مُتَّ لأجله.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى