تقرير

نشرت صحيفة «لوموند» الفرنسية مقالاً عن نتائج الانتخابات المغربية، قالت فيه إن حزب «العدالة والتنمية» الإسلامي، الذي يتزعّمه رئيس الحكومة عبد الإله بن كيران، أحرز نتائج جيدة في الانتخبات المحلية التي أجريت في المغرب يوم 4 ايلول الماضي. هذا الحزب، الذي واجه هنا امتحانه الانتخابي الأوّل منذ فوزه في الانتخابات التشريعية سنة 2011، احتل المرتبة الأولى في انتخابات المجالس الجهوية بنسبة 25.6 في المئة من المقاعد ، متبوعاً بغريمه حزب «الأصالة والمعاصرة» ليبرالي، بنسبة 14.9 في المئة من المقاعد . كما احتلّ «البيجيدي»، المرتبة الأولى في خمس جهات من بين الجهات الـ12 في المملكة، بما فيها جهات الدار البيضاء والرباط وفاس. وعلى مستوى الجماعات، أتى في الرتبة الثالثة.

محمد مدني، أستاذ العلوم السياسية في كلّية الحقوق في الرباط، يحلّل نتائج هذا التقدّم الذي حققه «البيجيدي» في الانتخابات على بعد سنة من الانتخابات التشريعية.

ويقول: هذه النتائج تعكس القطبية الثنائية بين «العدالة والتنمية» و«الأصالة والمعاصرة». وهناك ملاحظة أخرى، أنّ هذا الاستقطاب يخدم مصلحة «البيجيدي» الذي عُزّزت حظوظه في الانتخابات التشريعية لسنة 2016. لقد صار لديه حضور قويّ على الصعيد المحلي، خصوصاً أنه حصل على غالبية مريحة في عدد من المدن الكبرى، بما فيها الدار البيضاء والرباط والقنيطرة وأغادير، إذ فرض نفسه بشكل بارز

وهذه النتائج لم تكن متوقعة. لقد حصل «البيجيدي» على هذه النتائج في وقت يتعرض لهجمة شرسة مدعومة من طرف الأحزاب الأخرى، وهامش المناورة لدى الحكومة أمام القصر صار شبه منعدم. فضلاً عن أن الحزب يفتقر إلى أذرع إعلامية. وعلاوة على ذلك، على الصعيد الإقليمي لم نعد نعيش حالة مدّ إسلامي كما كان عليه الحال سنة 2011. إنما العكس تماماً، إذ صارالإسلام السياسي يشهد حالة من الفتور. ناهيك أن العودة القوية لحزب «الأصالة والمعاصرة»، الذي تتوفر لديه أذرع إعلامية ومؤسساتية قوية، كانت ستضعف حزب «العدالة والتنمية». ومع ذلك هاهو يتقدّم.

ويلاحظ مدني أن الأحزاب الأخرى، خصوصاً حزب «الاتحاد الاشتراكي»، حققت تراجعاً على مستوى المدن، في حين أن «البام» يتمتع بحضور قوي في العالم القروي، إذ لا تزال السلطة تتحكم في الناخبين. وهنا يكمن أحد أبرز التحديات التي تواجهه في المستقبل، ذلك أن «البيجيدي» يقوى بشكل ملحوظ في المناطق الحضرية وفي أوساط الطبقة الوسطى، هذه الأوساط لا تشارك الحزب بالضرورة توجهه الأيديولوجي، ولكنها، في ما يتعلق بالنزاهة، تعتبر أنّ «العدالة والتنمية» أفضل من «البام».

للوهلة الأولى، ليس من شأن هذه النتائج أن تثير قلق صنّاع القرار، لأنّ «البام» حزب أسّسه صديق الملك ويُنظَر إليه كحزب مقرّب من القصر حصل على المرتبة الأولى. إلا أن «البييجيدي» خرج من هذه الانتخابات قوياً، وهذا سيبعثر الأوراق التي بُني عليها التعايش بين الحزب الإسلامي والقصر الملكي. على سبيل المثال، فإن «البيجيدي» لا ينتقد الملك أبداً، ولا أيّاً من مستشاريه، كما أنه قَبِل بأن تبقى اللوائح الانتخابية كما كانت عليه. ووفقاً لمنطق التعايش هذا، يجب ألا يقوى حزب «العدالة والتنمية» كثيراً، ويجب ألا يكتسح كل الانتخابات. إلا أنه خلال هذه الانتخابات فرض نفسه بشكل كبير، وبذلك قلّل من هامش المناورة للمؤسسة الملكية. هل سيشكل هذا باعث قلق بالنسبة إلى الملك أم لا؟ يحق لنا أن نطرح السؤال.

أما الجواب، فلا، لا يمثل تهديداً لكنه يمثل مشكلة حقيقية، لأن القصر يريد تعدّدية حزبية يتحكم فيها، والحال هنا أنه وجد نفسه أمام فاعل سياسي بدأ يتقوى خارج نطاق السيطرة ويراهن على الزمن بدأ هذا التقدم منذ سنة 2003 . ويجب أن نذكر أن هذه الانتخابات كانت مرتقبة سنة 2012 إلا أنها أُجّلت بسبب مخاوف من أن يكتسحها حزب «العدالة والتنمية».

إنّ هذا الاقتراع لا يؤثر بأي شكل من الأشكال على المصالح القائمة. أكيد أنه أتى في سياق سلطوي، إلا أنه على المدى البعيد سيفتح آفاقاً جديدة، وسيتيح الفرصة لبعض الطبقات الاجتماعية كي توظف أصواتها وتفرض نفسها سياسياً. فعلى رغم أن شراء الاصوات عادة ظلّ يطبع الانتخابات المحلية منذ زمن بعيد، فإن جزءاً من الناخبين صوّتوا عن اقتناع، وليس بالضرورة لأنهم يشاركون حزب «العدالة والتنمية» توجهه الأيديولوجي، ولكنهم معجبون بخطابه حول محاربة الفساد.

ما يمكن أن يشكّل قوة مضادة لحزب «العدالة والتنمية»، القوى مثل فيدرالية اليسار الديمقراطي التي احتلت المرتبة الثانية في دائرة أغدال ـ الرياض. طبعاً، هذا ليس إلا حيّاً من أحياء الرباط إنما الفيدرالية، إذا نُظّمت أكثر وزادت من جهودها في العمل الميداني، يمكنها أن تحقق تقدماً مهما لأنها تستخدم أسلحة مختلفة كل الاختلاف عن التنظيمات الأخرى. فهي لا تشتري الأصوات، ولكنها تحمل برنامجاً سياسياً، والحملات الانتخابية من هذا النوع هي التي تستطيع أن تشكل إزعاجاً بالنسبة إلى حزب «العدالة والتنمية».

«حركة 20 فبراير»، هذه الحركة التي طالبت بإصلاحات ديمقراطية واجتماعية عام 2011 في سياق «الربيع العربي»، هي نفسها كانت تعبيراً عن التغيّرات العميقة التي عرفها المجتمع المغربي، خصوصاً في المدن. ومن نتائج ذلك الحراك، لحدود الساعة، تقدّم «البيجيدي»، وهو ما يشكل تناقضاً واضحاً لأنّ هذا الحزب لم يشارك في «حركة 20 فبراير»،لا بل العكس، هاجمها، واستولى على بعض شعاراتها الرامية إلى «إسقاط الفساد والاستبداد». وعلى كل حال، فإن هذه التطوّرات العميقة التي يشهدها المجتمع، وطفت على السطح عام 2011، لا تزال جارية إلى اليوم.

الإسلام السياسي الذي يمثّله «البيجيدي» هو إسلام سياسي براغماتي حضري، يريد أن يعكس اهتمامات سكان الحواضر والطبقة الوسطى. يريد أن يغيّر المجتمع ولكنه يفعل ذلك من خلال رؤية محافظة. يدافع عن وجهة نظر محافظة في المواضيع المتعلقة بالمرأة، والاجهاض، والمثلية الجنسية، وعقوبة الاعدام، ويستعين في ذلك بقاعدة شعبية تدعمه. يتولى مهمة الدفاع عن الأسرة في مجمتع تشكل فيه الأسرة رهاناً أساسياً في ظلّ تنامي الطلاق والولادات خارج إطار مؤسسة الزواج. إضافة إلى ذلك، في المجتمع المغربي تيار يسعى إلى إرساء الحرّيات الفردية، والجنسية على الخصوص، ما يقلق بعض الفئات الاجتماعية. كلّ هذه المواضيع يتعاطى معها حزب «العدالة والتنمية» بنبرة محافظة تبعث على الاطمئنان. نستطيع أن نشبّه خطابه، في سياق مختلف، بخطاب الديمقراطيين المسيحيين المحافظين.

من وجهة نظر حسابية، أصبحت عمودية بعض المدن كالدار البيضاء في متناول الإسلاميين، لأنهم فازوا فيها بغالبية مريحة. ولكن، في ظلّ هذه التنازلات التي بُني عليها تعايشهم مع النظام الملكي. فمن الوارد أن يتنازلوا عنها. يمكن مثلاً أن يتنازلوا عن رئاسة عدّة مدن مقابل أن يتولّوا رئاسة جهة. الآن ستبدأ المفاوضات بين الأحزاب من أجل تشكيل التحالفات وانتخاب رؤساء المجالس البلدية والجهوية، وأصوات حزب «العدالة والتنمية» لن تترجم بالضرورة إلى تولّي أعضائه رئاسة المجالس، ولكن هناك أمراً مؤكداً، أنّ أصواتهم ستجعلهم يلعبون دور «صنّاع الملوك» على الصعيد المحلي.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى