تاريخ النهضة الموسيقية السورية في لوحة «مريمين»
لورا محمود
أصدرت سورية في الآونة الأخيرة، عملتها الورقية الجديدة من فئة 500 ليرة، مأخوذة عن اللوحة الفسيفسائية «مريمين»، التي تُعدّ من أجمل لوحات العالم، وهي تمثل مشهداً موسيقياً لعازفات سوريات، تعكس فترة مهمة من تاريخ سورية برزت فيها النهضة الموسيقية. إذ اعتبرت باحثة الآثار الدكتورة البلجيكية دوشيسن جيلمان أن لوحة «مريمين» ذات أهمية كبيرة، وزوّدت العلماء والباحثين بوثيقة فنية عن كيفية العزف على الأرغن في تلك الأيام.
ما قصة هذه اللوحة؟ وإلى أيّ حقبة يعود تاريخ قرية مريمين التي سمّيت عاصمة الموسيقى في سورية.
تقع قرية «مريمين» إلى الغرب من حمص، وكانت تتبع لمحافظة حماة. لكنها أصبحت في منتصف عام 2008 ضمن الحدود الإدراية لمحافظة حمص.
تعتبر «مريمين» من أقدم المدن السورية التي لم تُكشَف أسرارها بعد، إن لم تكن أقدمها على الإطلاق. وقد ورد ذكرها في التاريخ القديم كثيراً. وقدّر الأثري رينيه دوسو أن عهد بناءها يعود إلى ألفَي سنة قبل الميلاد. فيما نستدل من آثارها الحجرية إلى أن عهد بنائها يرجع إلى أواسط الألف السابع قبل الميلاد.
ورد ذكر «مريمين» في الوثائق المصرية بِاسم «مريامون» وتعني «حبيبة الربّ أمون». و«مريامون» من ألقاب رعمسيس أيضاً. وورد اسم «مريمين» في اللغة الحثية «مي أمانا»، وفي الآرامية «مريمين» نفسه لا يتغير، ومعناه المرتفعات.
عُثر في «مريمين» على بقايا كنائس وعلى عددٍ من الأعمدة التي تضمّ كتابات يونانية. وعلى عدد آخر من اللِّقى الأثرية، لعل أبرزها على الإطلاق لوحة الفسيفساء التي تمثّل نساء يعزفن على آلات موسيقية.
في العهد السلوقي، ذُكرت «مريمين» بِاسم «مريامي» كمستعمَرة في منطقة الحدود الجنوبية للامبراطورية السلوقية. وكان يمر فيها طريق يبدأ من ميناء «ماراثوس» عمريت في الساحل، الذي يتجه شرقاً ليلامس وادي النضارة وجبل الحلو من الجنوب، ثم يتجه شمالاً عبر «مريامي» مريمين إلى «آفاميا» وأنطاكية.
وفي العهد الروماني، أصبحت «مريمين» مدينة مزدهرة وتتمتع برخاء اقتصادي ومستوى ثقافيّ وفنيّ رفيع. وأُنشِأت شبكة كثيفة من الطرق فيها، وكلّ الطرق كانت مرصوفة بالحجارة. وكان يمر في «مريمين» الطريق الروماني الدولي الشهير الذي يصل حمص وما بعدها بـ«أفاميا» وأنطاكية، وبقي ظاهراً في عدة نقاط حتى منتصف القرن العشرين.
تدلّ الآثار الفنية المكتشفة في «مريمين» على أن هذه المدينة اجتازت شوطاً متقدّماً في عالم الموسيقى والعزف. وكانت تقام فيها حفلات موسيقية راقية جدّاً يحضرها جمهور ذوّاق. واستُخدمت في هذه الحفلات آلات موسيقية متطوّرة من سائر أنحاء العالم القديم، بما فيها الآلات اليونانية والهندية. وهذا يدلّ على أنها كانت تشكّل قمّة الارتقاء للنهضة الموسيقية في سورية. ما يدعو إلى الاعتقاد بأنّ «مريمين» كانت عاصمة سورية للموسيقى خلال العهد الروماني. فهي تعبّر عن بداية مرحلة جديدة والانقطاع النهائي لمرحلة التقليد والإرث الكلاسيكي الطويل. وتعتبر اللوحة من النماذج الفسيفسائية ذات الجودة الفائقة التي تعبّر عن أصالتها وأصالة المفهوم والمعنى، من خلال إتقان فنّان «مريمين» وبراعته في تنفيذ كعوبها الحجرية الصغيرة، وبهاء الألوان وانسجامها، وتوازن التركيب، فضلاً عن الحياة والحركة اللتين تشعان من أركانها.
إبداع هذا الفنان يتجلّى في التعبير عن مشاهد الصيد في إطار اللوحة، عبر رصد حركات الحيوانات الخائفة، وملامح الرعب والهلع المرتسمة على وجوه بعض الآلهة الماثلين فيها.
كما تظهر حالة الترف والرفاهية والذوق الرفيع التي وصلت إليها مدينة «مريمين» من خلال المنسوجات الفاخرة التي ترتديها عازفات «مريمين».
لوحة «مريمين» موجودة اليوم في متحف مدينة حماة الوطني، وهي تدلّ على أهمية الآثار المُكتشفة في «مريمين»، وعلى أن المدينة كانت مزدهرة وتتمتع برخاء اقتصادي ومستوى ثقافي وفني رفيع.
وتُعتبَر لوحة العازفات المكتشفة في ستينات القرن الماضي من اللوحات النادرة التي صُنّفت بأنها من أجمل لوحات الفسيفساء في العالم، وهي تمثّل مشهداً موسيقياً لستّ نساء يعزفن على آلات موسيقية مختلفة، يرافقهن ملاكان مجنّحان. السيدة الأولى تتمايل بصنجين تحملهما في راحتيها، ثمّ نرى فتاة القيثارة، فتلك التي تقف وراء المنضدة تحمل ثماني آنيات معدنية متماثلة الشكل ومختلفة في منسوب المياه داخلها، فتقوم السيدة بنقرها بوساطة قضيبين تحملهما لتصدر أصواتاً موسيقية مختلفة، وتتموضع فتاة الناي في وسط الرسم، تليها فتاة تعزف على لوحة المفاتيح الخاصة بالأرغن المؤلّف من أنابيب ذهبية بثلاثة أحجام مختلفة. والملاكان المجنّحان يضغطان بأقدامهما الصغيرة على قِربتين جلديتين، كي تصدح أنغام الأنابيب. أما السيدة التي تظهر في الصورة على اليسار، فيُرجّح أنها «المايسترو»، وناظمة تلك الفرقة الموسيقية.
الجدير ذكره أنّ مجلة «تايم» الأمريكية نشرت تقريراً عن عشر دول وضعت صوَر نسائها على عُملاتها الورقية، ومن بينها: إنكلترا، والسويد، والأرجنتين، وطبعاً سورية التي خلّدت ذكرى ملكة تدمر «زنوبيا» برسمها على العملة الورقية من فئة 500 ليرة سابقاً. وتعتبر سورية الدولة الوحيدة الموجودة في القائمة، وأيضاً الدولة العربية الوحيدة التي تُدرِج على عملتها صوَراً لنساء سوريات خلّدهن التاريخ.