السيدة أنجيلا ميركل… أهلاااااا

عدنان كنفاني

كيف يمكننا أن نفسّر صحوة الضمير المفاجئة «كما يبدو» لسيدة ألمانيا أنجيلا ميركل بعد طول سبات استغرق ما يقارب خمس سنوات من عمر الحرب الكونية على سورية لم ترجف خلالها شعرة إنسانية في رأس هذه السيدة، ولا في رأس غيرها من الرؤساء والحكومات الأوروبية الذين يتسابقون الآن لنجدة المهاجرين السوريين!

وحتى لا يدّعي أحد أنه لم يفهم بعد، ولم يدرك، ولم يعرف، ولم يشاهد أو يقرأ أو يسمع بما يجري على أرض وشعب سورية على مدى خمس سنوات من عمر الحرب الكونية، فقد انتشرت صور المجازر انتشاراً واسعاً، لم يبق ركن في مكان، ولا بيت ولا فرد إلا وشاهد واطّلع وسمع، وكلها فظائع تقشعرّ لها الأبدان عانى منها الأبرياء من السوريين، وعانى منها شعبنا الفلسطيني في الداخل وفي الشتات أيضاً، وقد تابع العالم «تفنن» القتلة المرتزقة في ممارسة القتل، حرقاً وشيّاً وبقر بطون وكهربةً وحز رقاب ولوك أكباد وقلوب، وأكثر من ذلك، حجم الدمار الذي خرّب كلّ شيء تقريباً في سورية من بنى تحتية وآثار وتراث…

لم ترجف شعرة واحدة في رأس السيدة ميركل وغيرها من الأوروبيين!

ثم أمام غرق طفل ألقى البحر جثته على الشاطئ تصحو الضمائر فجأة، ويجري التسابق الإنساني لنجدة السوريين الفارّين من جحيم الإرهاب الذين تقطّعت فيهم السبل، في البحر، وعلى عتبات بعض الدول الأوروبية، وفي مخيمات الذلّ التي هيأتها لهم حكومة أردوغان.

فهل هذه «الصحوة» المفاجئة بريئة من أيّ شبهة، أو أي توجّه جديد في مسعى «لضرب» صمود سورية؟ وهل يمكن أن نعتبر هذه «الصحوة» بداية إدراك المجتمع الأوروبي حجم ما تعانيه سورية، وما يمكن أن يصل إليهم من تداعيات على كلّ المستويات، أولها وأكثرها خطراً تمدّد الإرهاب إلى الدول الأوروبية؟

إذا أردنا أن نلج مسارب التحليل من دون أن تطاولنا تهمة أننا نعاني من «عقدة المؤامرة»، علينا أن نفكر بهدوء ونستخلص من بطون الأحداث نفسها بعض أسباب لهذه «الصحوة» المفاجئة، وغير البريئة بالمطلق، علينا بداية أن نخرج من وهم «فجأة» صحوة ضمائر، وأن نخرج بالمطلق من شعار «الإنسانية» الذي رفعوه ويرفعونه في كلّ مناسبة، وكأنه يشتغل على الريموت كونترول ، ونبدأ من حيث وصلت الأمور بُعيّد خروج ميركل ودموعها، وندائها «الإنساني» لدول أوروبا، والذي لقي قبولاً من دول، ورفضاً من دول أخرى، ثم جرى «بالترغيب والترهيب» من السيد «اليانكي» فرض تقويم حاجة «استيعاب» كلّ دولة أوروبية قادرة أعلنت مبدئياً قبول استقبال اللاجئين وبأعداد محددة بدقّة، ولا يزال يجري الأمر على هذا المحور كي يستقيم دور كلّ دولة أوروبية، وحاجتها من «عمالة» شابّة رخيصة، ومن هذا المنطلق بدأت الدول الأوروبية تعلن استعدادها المشروط… دولة أعلنت عن قبول استقبال خمسة آلاف لاجئ، وأخرى عشرة آلاف، بينما أعلنت السيدة ميركل عن قبول ألمانيا استيعاب العدد الأكبر من اللاجئين السوريين، وتمّ أيضاً تحديد المواقع، والأماكن، سواء في المدن الصناعية، أو الأرياف الزراعية، أو الغابات الحراجية، أو في مواقع آبار النفط التي سيجرّ إليها هؤلاء المقبولين.

إذا الأمر ليس بريئاً!

المجتمع الأوروبي، ولأسباب تنتمي بمعظمها إلى التطور الحضاري المتسارع في الدول الأوروبية، وعجلة التصنيع وسطوة الآلة، وما يتطلب ذلك من أياد عاملة، وساعات عمل طويلة لجني أكبر قدر من المال للفرد ليعيش لا أقول في بحبوحة ورغد، ولكن حدّ الاكتفاء، والتمتع بهذه الحضارة «مرتفعة الكلفة»، وإفرازاتها… فرضت على الناس في تلك الدول ضغط احتياجاتهم، والاستغناء «قدر ما تسمح الظروف» عن غير الضروري، أو المُكلف، وأهمّها «تحديد النسل» ذاتياً، وإلزامياً في بعض الدول، وبالتقادم وصلت بعض، أو أكثر المجتمعات الأوروبية إلى ما يمكن تسميته شيخوخة المجتمع ، وانخفاضاً حادّاً في نسب الشباب في المجتمع، وبخاصة في دولة ألمانيا، على عكس المجتمعات في منطقتنا العربية، والتي تعتبر «مجتمعات شابّة» بامتياز، تغلب فيها نسبة الشباب في عدد السكان، وفي سورية على وجه التحديد، وفي دول العالم الثالث، والدول الأكثر فقراً في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، وفي دول أخرى أيضاً صغيرة وكبيرة على مستوى العالم.

الموضوع إذاً ليس بريئاً، ولا هو صحوة ضمير، بل هو موضوع مصالح يجري حسابها بدقّة بما لا يمسّ أصل المجتمعات الأوروبية، والسيادة، وفي الوقت نفسه ديمومة التطور، وهدير الآلات، من خلال عمالة وافدة، مهما كلفتهم «اقتصادياً» في الوقت الدقيق الحالي من نقل واحتواء ومصروف وطبابة وتعليم وغير ذلك من أمور حياتية بالنسبة إلى الوافدين، وهي تعمل، في الوقت نفسه، على تشجيع اللجوء إلى حدّ اكتفاء تلك الدول بما يغطي التشغيل، ومحاولة فعل توازن سكاني يضخ دماء شابة جديدة في مجتمعات تعاني من شيخوخة، إلا أنّ المردود سيكون أضعاف ذلك عندما يزجّ بهم في دوّامة العمالة، ومن ثم النظر بعين خبيثة إلى الأجيال التالية التي ستنفض نهائياً انتماءها لأصولها ومواطنها، وقد يحالفها بعض حظ في أن تشكل طبقة اجتماعية، درجة ثالثة أو عاشرة في الدول التي استقبلتها واحتوتها، كما هي الحال بالنسبة للفلسطينيين الثابتين على أرض فلسطين تحت الاحتلال، أو يهود «الفلاشا» وتصنيفهم الدوني في الكيان «الإسرائيلي».

وفي الوقت نفسه، يشتغل الاتحاد الأوروبي ومن ورائه أميركا الدولة الأكثر إرهاباً في العالم، لتفريغ سورية من كوادرها «الشابّة»، والنُخب إذا استدعى الأمر، مساهمة في محاولات لم تتوقف منذ خمس سنوات بشكل مباشر، ومنذ عقود تآمراً وتخطيطاً لإسقاط سورية «ولا أقول إسقاط الرئيس، أو النظام»، بل إسقاط سورية الدولة والتاريخ والموقع والتأثير، وفك عرى محور المقاومة، وتفعيل التهديد المستمرّ لدول أخرى في مقدّمها إيران وروسيا والصين وحلفاؤهم، وخدمة واجبة مفروضة للمشروع الصهيوني الخادم لمصالح تلك الدول، والمحقق أحلامه الأسطورية، ليس بامتلاك المنطقة من الفرات إلى النيل فقط، بل إلى مدى غير منظور، أو كما يقولون في أدبياتهم، إلى أيّ مكان يصل إليه حذاء الجندي الإسرائيلي .

إذا كانت الغايات، وهي متعدّدة، موضوعة على طاولاتهم قيد التنفيذ، فهي أحلام يقظة، وأوهام لا يمكن تحقيقها كما تقول صيرورة التاريخ، إذ لا يمكن ولن يستطيع أحد تفريغ سورية من كادرها الشبابي والنخبوي، فنحن مجتمع ولود، ومجتمع متجدّد، ومجتمع لا يتفق ومجريات الواقع، الحالي والمقبل «بعد تجاوز سورية محنتها»، إلا إذا كان مجتمعاً شاباً، كان وسيبقى…

صحوة الضمير المفاجئة التي خرجت علينا بدموع «ميركل»، ليست أكثر من ألعوبة سخيفة علينا أن ندرك أبعادها وتداعياتها جيداً، فالإنسان موقف، والسياسة في عرفهم «فن الكذب»، والسؤال الأكثر حضوراً في هذا المجال، أين كانت إنسانية ميركل وغيرها وقد ابتلع البحر آلاف البشر؟ وأين كانت إنسانيتهم وكلّ ما جرى ويجري في سورية وغيرها من دول «الجحيم العربي» من مجازر وقتل عشوائي وتدمير بنى وآثار وقيم وأخلاق؟ آلاف الأطفال قتلوا، وكلّ بطرائق غاية في السادية والبشاعة، سحقت عظامهم، وبترت أطرافهم، وشقت صدورهم… صلبوا وقيّدوا وأحرقوا… آلاف النساء شوّهن وشرّدن وقتلن واغتصبن، وجرى ذبح فلذات أكبادهن أمام عيونهن… قذائف من كلّ شكل ولون تحصد أرواح وممتلكات الناس عشوائياً تطلق على المدن والقرى والتجمّعات السكانية، وعلى البنى التحتية ومعالم البلد وآثارها وأوابدها… ولم يستنهض ذلك كله لحظة إنسانية، ولا رفّة ضمير من السيدة ميركل!

آلاف البشر يموتون جوعاً في كثير من دول العالم الفقيرة، ولم يرفّ لها جفن!

حرب إبادة تمارس على اليمن…

الصهاينة يمارسون القتل المشبع على الصغار والكبار في فلسطين يومياً، ويحرقون بدم بارد عائلة كاملة «الدوابشة»، طفلها الشهيد الأول حرق ومات في الفترة نفسها التي هبّ فيها ضمير السيدة ميركل على الطفل المسجّى ميتاً غرقاً على الشاطئ، لكنها لم تبدِ أسفاً على الطفل والأسرة المحروقة، ولم تستنكر ولم تدن!

نحن، ومثلنا الجميع، نعلم أنّ الإرهاب صنع في أميركا وبمباركة ومشاركة أوروبية، والغريب أنّ هذا الإرهاب نفسه، وقد أفلت من عقاله، وبات يشكل تهديداً جدياً لكلّ دول العالم من دون استثناء، هذا الإرهاب يسمّى إرهاباً في كلّ مكان، إلا على الساحة السورية اسمه معارضة معتدلة !

أيّ نفاق سياسي هذا؟ وأيّ إنسانية مزيّفة هذه؟ وأي ضمير يتحرك على إيقاع مصالح، ويذرف «عند الحاجة» دموعاً تشبه إلى حدّ كبير، دموع التماسيح…

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى