أوروبا الاستعمارية من تقسيم الجغرافيا إلى تسييس الديموغرافيا…
سومر صالح
من قسّم العرب إلى دول متناحرة، ومن زرع الكيان الصهيوني في قلب الجغرافيا الشرق أوسطية، ومن احتلّ واستعمر الجغرافيا المقسّمة تلك لعقود ونهب ثروتها الذهبية واستبدلها بأخرى ورقية فاقدة القيمة؟ أليست هي ذاتها اليوم الدول التي تتقاسم اللاجئين السوريين والعرب اليوم، أليست ذاتها الدول الأوروبية التي تماهت مع الأميركي في عدوانه على الأرض السورية والليبية والعراقية…!
هل الأمر محض صدفة أن تكون الدول ذاتها التي ما زالت تهجّر اليهودي الأوروبيّ لترسله إلى فلسطين المحتلة كرمى لعيون الصهيونية هي ذاتها الدول التي تتقاسم الديموغرافيا السورية والعربية؟!
هذه الأسئلة تلك لا تدع مجالاً للشك بأنّ النوايا ليست إنسانية لدى حكومات تلك الدول، وأنّ النوايا أكبر وقد تكون أخطر مما تبدو عليه تظاهرات البعض المرحبة باللاجئين، فمئوية «سايكس بيكو» العام المقبل، ولعله عام انتهاء الصلاحية لهذا المنتج الاستعماري، وحان وقت استبداله بمنتج آخر على المقاس الأوروبي، فالاتفاق الفرنسي البريطاني الشهير بـ«سايكس بيكو» قسّم جغرافية الأمة إلى دول وكيانات سهّلت لاحقاً احتلالها ونهب ثرواتها، وقد راعى ذلك التقسيم ضمان عدم الاستقرار في كياناتها لعقود عندما عمل على إذكاء نار الصراعات المذهبية والاثنية بين كياناتها المقسمة فضمن مصالحه فيها لمائة عام، ولكن كنتيجة لانتهاء الحرب العالمية الثانية وضعف القدرات الأوروبية آنذاك فرض على السياسة الأوروبية أن تكون تابعة للسياسة الأميركية في تلك المنطقة، ولكن تلك السياسة الأميركية لم تراع المصالح الأوروبية الحساسة اقتصادياً وأمنياً، بل على العكس، حيث مع بداية القرن الواحد والعشرين بدت السياسة الأميركية متجاهلة تماماً للمصالح الأوروبية في الشرق الأوسط، ما انعكس خروجاً فرنسياً عن السياسة الأميركية مراراً وتكراراً والسياسة الألمانية أبدت تحفظاً في مواقف مستجدة، لتأتي أزمة الشرق الأوسط والمسماة زيفاً «الربيع العربي» لتضع القارة الأوروبية بين فكي الكماشة الناتجة عن السياسات الأميركية المتخبّطة، فأفرزت الإرهاب واللاجئين كتهديدات للقارة الأوروبية، الأمر الذي اعتبره الأوروبيون عدم مبالاة أميركية بمصالحهم.
وعلى ما يبدو بدأت تظهر هنا إرهاصات جديدة في السياسة الأوروبية، يمكن تسميتها «نوازع سياسية» أيقظت الحسّ الاستعماري لدى حكوماتها، حيث شكلت اتفاقية «سايكس بيكو» سابقاً حجر الزاوية في السياسة الأوروبية في الشرق الأوسط، لكن السياسة الأميركية وتخبّطها في إدارة الصراع في الشرق الأوسط قادت في النتيجة إلى تفشي ظاهرة تنظيم «داعش» الإرهابي وأخواته، وهو أمر بدأ يهدّد التقسيمات الجغرافية للحدود التي رسّمتها أوروبا الاستعمارية كأساس لأمن دولها من جهة، ويهدّد تلك الدول الأوروبية بأزمات اللاجئين كنتيجة من جهة أخرى، فبدأت حكومات الدول الأوروبية بالتفكير بركائز جديدة لسياساتها في الشرق الأوسط تضمن مصالحها الخاصة على مستويين متقاطعين وهما ضمان التقسيم واستمراره على غرار «سايكس بيكو»، والمستوى الثاني يجعلها لاعباً مهماً في رسم التسويات الكبرى للملفات الأزموية في الشرق الأوسط، والذي تجاهلته الولايات المتحدة الأميركية في صراعها مع موسكو على شكل النسق الدولي، فكانت نتائج السياسات الأميركية الخاطئة عنوان الانطلاق في المشروع الأوروبي، والمقصود هنا ملفي الإرهاب واللاجئين، والملف الأول هو الحافز للملف الثاني، فبقدر تكثيف التواجد الإرهابي في الشرق الأوسط يكون النزوح الإرهابي إلى أوروبا، من هنا تتقاطع السياسات الأوروبية مع الأميركية بما لا يغضب الأميركي، وفي الوقت ذاته تكون أوروبا قد أخذت الوقت الكافي لبلورة مشروعها الجديد والذي يبدو أنه ديموغرافي البنية، على عكس اتفاق سايكس ـ بيكو الذي اتخذ التقسيم الجغرافي أداة للسيطرة على الشرق الأوسط…
وتجنّباً للمبالغة يبقى هذا المشروع في إرهاصاته الأولى غير واضح المعالم حتى الآن، ولكن تقضي الضرورة والواجب أيضاً ألا نبقى عدداً من السنين لنكتشف الدوافع الحقيقية لهذا التباكي الأخلاقي الأوروبي على اللاجئين لذلك سيقدّم الكاتب رؤيته لهذا المشروع الأوروبي الجديد.
بداية وفي الإرهاصات الأولية فبعد مئة عام على اتفاقية «سايكس ـ بيكو» سقطت هذه الاتفاقية بفعل عاملين… أولاً التنظيمات الإرهابية الداعشية والتي بدأت بمحو الحدود التقليدية لهذه الاتفاقية، وثانياً لا عبرة للتقسيم الجغرافي في المفهوم الاستعماري الجديد في عصر العولمة، فالحدود فقدت أهميتها هنا، وفي الجوهر، الرؤية الأوربية لشكل الشرق الأوسط تنطلق من افتراضين الأول أنّ الصراع بين الدول المركزية العربية من جهة والتنظيمات الإرهابية من جهة أخرى طويل وقاس وسيفضي في النهاية إلى إضعاف الدول المركزية، والافتراض الثاني أنّ الولايات المتحدة لن تستطيع السيطرة على كامل الجغرافيا العربية في المستقبل نتيجة عاملين الاستنزاف الحاصل بالقوة الأميركية نتيجة الصراع الممتدّ مع الصين شرقاً ومع روسيا شمالاً، والثاني أنّ تكلفة إعادة الإعمار أكبر من تكلفة الدمار الحاصل وحجم الثروة المتبقي، هنا سينشأ فراغ في الشرق الأوسط سيكون خطراً على الحدود الجنوبية للقارة الأوروبية، وسيكون لزاماً على هذه الدول الأوروبية سدّه لكي لا تتمدّد قوة معادية في دوله أو يكون التطرف عنوانه وهناً علينا التأمّل جدياً بما حصل في قرية الزنبقي بجسر الشغور السورية التي هجرتها التنظيمات الإرهابية وأحلت مكان أهلها عوائل الإرهابيين من أصقاع الأرض، فكان الاتجاه أوروبياً نحو استقبال أكبر عدد ممكن من لاجئي هذه الدول، وخصوصاً صغار السن، فمن جهة يكون حلاً موقتاً للإشكالية الديموغرافية لديها، ومن جهة أخرى تُنشئ هذه الدول جيلاً عربياً في أوروبا ثقافته غربية وهواه غربي يكون أساس سيطرتها على شكل هذه الدول مستقبلاً مستفيدة من التجربة الأميركية بهذا الخصوص… هذا الأمر في إطاره الاستراتيجي وفي الإطار التكتيكي يكون لزاماً على القوتين الأميركية والروسية أخذ وجهة النظر الأوروبية في الحسبان أثناء التسويات الكبرى وفي مقدّمها إزالة التجمعات الداعشية والإرهابية التي أفرزتها الأزمات على شاكلة قرية الزنبقي، لأنّ بقاءها يعني أنّ التطرف والإرهاب العالمي أصبح على حدودها الجيوسياسية، ولأنّ حدوث العكس سيؤدّي في النهاية إلى تقويض هذه التسويات بفعل القوة الديموغرافية التي تمتلكها هذه الدول الأوروبية والتي ستتخذ حكماً أشكالاً سياسية وحزبية إلخ… و قد لا نستغرب إذا رأينا تنظيمات عسكرية من الشباب العربي في هذه الدول تكون منطلقاً للدول الأوروبية لفرض أجنداتها السياسية والعسكرية في دول الشرق الأوسط وعنوانها محاربة التنظيمات الإرهابية، فالرأي الأوروبي أضحى أساساً للحلّ في الشرق الأوسط بحكم هذه الحسابات الدولية…
أمّا عن مصير الأعداد الهائلة من اللاجئين العرب فهو خزان بشري يفرغ على مرحلتين في المرحلة الأولى وتكون مرتبطة بالتكتيك الأوروبي وتكون معها تلك المجموعات البشرية المتقدّمة في العمر جاهزة للتماهي مع التفاهمات الكبرى، فإما العودة إلى بلدانهم وفق الشروط الأوروبية المفروضة على القوتين الروسية والأميركية أو البقاء موقتاً لفرض وجهة النظر الأوروبية، وهو أمر موقت طبعاً تمليه طبيعة المساومات الدولية، وفي المرحلة الثانية وهي مرتبطة بالاستراتيجية الأوروبية يكون معها الجيل الصغير السن قد أصبح جاهزاً لإحداث التغيير الأوروبي في شكل وطبيعة أنظمة الحكم العربية وحتى شكل الدول ذاتها بما يناسب المصلحة الأوروبية وللأمر بقية…
إنّه الحس الاستعماري الأوروبي والذي أيقظه الاستعلاء الأميركي، فأوروبا لن تنتظر ما ستؤول إليه المساومات الروسية الأميركية التي تتجاهل التحديات المنبثقة عن الفوضى الحاصلة في الشرق الأوسط لدول أوروبا، بل ستعمل على إعادة رسم الشرق الأوسط من جديد مستغلة الورقة الديموغرافية التي أنتجتها فوضى السياسات الجيبولتيكية الدولية، والخلاف الحاصل بين دول أوروبا على قضية اللاجئين هو خلاف بين دول منطقها السياسي هو بعث الاستعمار مجدداً بوسائل غير تقليدية ودول أوروبية لها حساسية من تنامي النفوذ الإسلامي في القارة العجوز، إنه «سايكس ـ بيكو» جديد تريد رسمه أوروبا بما يناسب مصالحها ولكن بمسمّى عربي في هذه المئوية الجديدة، وعرابه انبعاث ألماني له تداعياته الدولية.