يقظة روسية وغفلة عربية وثروات سورية تغلفها النار ٣/٢
رياض عيد
التحوّلات الجيو ـ استراتيجية والاقتصادية العالمية وانعكاسها على المشرق عنوان دراسة وضعها الباحث رياض عيد، تناول عبرها موقع الهلال السوري الخصيب في الاستراتيجيات الدولية، وانعكاس صراع هذه الاستراتيجيات على الهلال الخصيب.
لقد تطرّق الباحث في دراسته إلى نظرية «أوراسيا» التي تشكل التحدي الأساس للاستراتيجية الأميركية الهادفة إلى منع قيام «الاتحاد الأوراسي» تسهيلاً للعدوان على مناطق ضفاف أوراسيا سواء في الهلال الخصيب أو في أفريقيا أو في شواطئ آسيا على المحيط الهادئ، وبالنتيجة يصل الباحث إلى 5 خلاصات توزّعت مواضيعها بحسب التالي:
اتجاه العالم إلى التكتلات ما فوق القومية وسط صراع دولي على فرض التعددية القطبية في مواجهة الأحادية القطبية التي تمثلها الولايات المتحدة الأميركية.
التكتلات ما فوق القومية فرضت مفاهيم جديدة للسيادة والأمن وبالتالي أصبحت المحاور المتصارعة ملزمة أن تكون منسّقةً مع أحد المحاور التي تؤمن مصالحها.
سقوط النظام الرأسمالي وضعف القبضة الأميركية على العالم شكّل فرصة لدول الهلال السوري الخصيب لتنفض عنها عبء سايكس بيكو.
إن معركة القرن الواحد والعشرين تُحسم لمصلحة أي فريق دولي يملك السيطرة على الهلال الخصيب نظراً إلى الجغرافيا السياسية العائدة له إضافة إلى موارده الطاقوية.
أفرزت حرب الطاقة التي تُخاض في الهلال الخصيب سقوط النظام العربي وسقوط الإسلام السياسي بشقيه الإخواني والتكفيري، كذلك سقوط العروبة الوهمية وسقوط النظام القومي العربي الذي فشل في تحقيق نظام الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
وبالتالي، فإن الهلال الخصيب بات وسط 3 مشاريع، أولاً، المشروع اليهودي «الإسرائيلي» المتلاقي مع مشاريع خليجية وهابية إخوانية. ثانياً، المشروع الإخواني العثماني التركي المتحالف مع الرباعي الخليجي السعودية ـ قطر ـ الإمارات ـ الكويت . ثالثاً، المشروع الإيراني وهو المقاوم للمشروعين الأولين بتحالفاته الممتدة من لبنان المقاومة إلى سورية إلى العراق إلى اليمن وحتى إلى محور شنغهاي للتعاون، ويخوض هذا المحور معركته ضد أميركا في الهلال الخصيب وفق تحالف سياسي ـ اقتصادي مع روسيا والصين.
لقد أشار الباحث إلى أن هذا المحور قام بتجربة القوى الشعبية الداعمة للجيوش حيث أثبتت هذه التجربة فعاليتها، إضافةً إلى إشارته بأن أحد أهداف الصهيو ـ أميركية هو ضرب الدولة المدنية العلمانية في الهلال الخصيب وهذا ما يجري اليوم ضد الدولة السورية. لأجل هذه الاستراتيجية الغربية ولدت «دولة إسرائيل» لتكون الرقم الأساس في تحقيق المشاريع الغربية الآيلة إلى تفتيت المنطقة وإزالة انتمائها القومي.
في هذا العدد يعرض الباحث إلى الظروف المصاحبة لوصول فلاديمير بوتين إلى رئاسة الاتحاد الروسي وخصوصاً لجهة العجز المالي الواقع في المالية العام للدولة الموروث من فترة يلتسن الرئاسية. يتطرّق الكاتب إلى ردّ روسيا على المخططات الأميركية الهادفة إلى تطويقها وإضعافها، الأمر الذي دفع بروسيا لأن تتحالف مع الصين وتقفان معاً في مجلس الأمن في مواجهة مخططات الولايات المتحدة وخصوصاً المتعلّقة منها بسورية، بحيث أصبحت سورية في صميم الأمن السياسي والاقتصادي والقومي لروسيا.
في النقطة الخامسة يتطرّق الباحث إلى تشكيل منظّمة شانغهاي ودول البريكس إضافةً إلى انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 وانعكاس كل ذلك على الترتيبات السياسية المستقبلية في الهلال الخصيب، كذلك سقوط النظام الأحادي الاستقطاب وبروز حالة اللاقطبية كمقدمة لولادة نظام متعدد الأقطاب.
لقد سلّط الباحث الضوء على المخزون الهائل من الغاز في البرّ والبحر السوريين، وتأثير هذه الثروة على اقتصادات عديدة وخصوصاً منها الأوروبية إضافةً إلى دور الجغرافيا السورية في عملية نقل الغاز إلى أوروبا. كل ذلك معطوفاً على شرحٍ وافٍ للأزمة الاقتصادية الضاربة في عمق النظام الرأسمالي وتقصير الدول العربية في توظيف هذه الأزمة وتداعياتها لنصرة القضية المركزية ـ فلسطين في وقت يذهب فيه المال العربي مهدوراً على المذابح البينية العربية.
4 – وصول فلاديمير بوتين رجل المخابرات الروسية الى سدة الحكم في روسيا عام 2000 بعد مخاض فكري حول سؤال الهوية من نحن، وما هي الأسباب التي أدت الى انهيار الاتحاد السوفياتي وبروز الأوراسية كعقيدة جيوبولتيكية جديدة تحكم تطلعات وسياسة روسيا الاتحادية المستقبلية، وبعد الارتفاع الكبير في أسعار النفط والغاز الذي ساعد روسيا في الخروج من العجز المالي الكبير 300 مليار دولار الذي سببته سيطرة المافيا الروسية على الاقتصاد الروسي في عهد يلتسين حيث استطاع بوتين أن يخرج روسيا من عجزها المالي ويحقق فائضاً مالياً تجاوز نصف تريليون دولار. قرأ بوتين جيداً أسباب انهيار الاتحاد السوفياتي سابقاً وتفككه، وقرأ أهمية الغاز المستقبلية، ولأن روسيا هي الدولة الأولى المنتجة للغاز في العالم، ولأن بوتين قرأ خطورة غاز نابكو على الاقتصاد الروسي، وخطورة المخططات الأميركية على روسيا من خلال نشر القواعد الأميركية والدروع الصاروخية المواجهة لروسيا في أوروبا ووسط آسيا وتركيا وقف مع الصين، عقبة كأداء في مجلس الأمن بوجه المخططات الأطلسية في سورية ومنع إسقاطها بحمايتها بثلاثة فيتوات حفاظاً على مصالح روسيا الاستراتيجية في المتوسط وحفاظاً على قاعدة طرطوس القاعدة الوحيدة المتبقية لروسيا خارج أراضيها بعد القرم ما جعل سورية أيضاً تصبح في صميم الأمن السياسي والاقتصادي والقومي الروسي. 5 ـ تشكيل منظمة شانغهاي للتعاون، هدافها ودورها إلزام أميركا بإخراج قواعدها من آسيا قبل نهاية عام 2015 وتشكيل دول البريكس ودورهما بإنهاء نظام الأحادية القطبية وبروز نظام عالمي جديد متعدد المحاور وموقع الهلال الخصيب كنقطة صدام جيوسياسي لإعادة تشكيل هذا النظام. 6 ـ انتصار الثورة الإسلامية في إيران 1979، وتغلبها على الحصار الغربي لها بسبب ملفها النووي وتقدمها التكنولوجي والصناعي والتسليحي ما حولها إلى دولة إقليمية عظمى ودولة محورية في أي ترتيبات سياسية مستقبلية في الهلال الخصيب ووسط آسيا. وتعاظم النفوذ الإيراني في الهلال الخصيب بخاصة بعد انسحاب الاحتلال الأميركي من العراق وقرب انسحابه من أفغانستان هذا العام ما أعاد موقع العراق مع المحور المقاوم وبروز دور إيران في جيوبوليتيك الطاقة الصينية والروسية وموقعها الجيواستراتيجي في وسط آسيا ودورها في الهلال الخصيب واليمن كداعم أساسي للمقاومات بوجه المخططات الأميركية والأطلسية و«الإسرائيلية» والإقليمية الإرهابية والتكفيرية.
7 ـ سقوط النظام الأحادي الاستقطاب الذي قادته أميركا بعد فشلها الذريع في حل المشكلات السياسية والاقتصادية والبيئة ما أورث العالم وأمتنا كوارث وحروباً لإنزال نواجهها حتى الآن، وبروز حالة اللاقطبية كمقدمة لولادة نظام متعدد الاقطاب بدأ بالظهور، فالإنسانية في وقتنا الحاضر تدخل مرحلة انتقالية من العالم الثنائي القطبين إلى الصيغة العالمية من تعدد الأقطاب، وشاء موقع الهلال الخصيب الجيو استراتيجي أن يكون هو المكون والحاضن لهذه الولادة بعد استعمال روسيا والصين ثلاثة فيتوات متتالية لمنع إقامة منطقة حظر جوي أو استهداف سورية بقوات أطلسية كما حصل لليبيا، إثر الحرب الكونية التي تخاض في سورية وعليها. 8ـ حدوث ثورة اقتصادية عظمى في الصين أدهشت العالم في نهاية القرن الماضي وبداية هذا القرن، ما أدى الى انتقال مركز الثقل الاقتصادي وبالتالي السياسي من الغرب الى الشرق وتحديداً الى جنوب آسيا وما تركه من أثر كبير في تغيير موازين القوى وأولويات الدول العظمى واستراتيجياتها… ودفعت الصين إلى الخروج لتأمين مصادر الطاقة من وسط آسيا إلى الشرق الأوسط وأفريقيا إضافة إلى إحيائها مشروع طريق الحرير التاريخي الذي يصل سورية بشنغهاي مروراً بوسط آسيا، والحزام الاقتصادي لطريق الحرير، لخروج الصين من تطويق أميركا لها بسيطرتها على مضيق ملقا باتفاقاتها الأمنية مع أندونيسيا وماليزيا اللتين تشاطئان هذا المضيق الذي يمر عبره 75 في المئة من النفط الى المصانع الصينية، ما جعل «إيران والهلال الخصيب كأقصر معبر لطريق الحرير وخط سكك الحديد السريع، وسورية كبوابة لطريق الحرير إلى أوروبا وكخزان الغاز على ساحل المتوسط، جزءاً من الأمن القومي الاستراتيجي الطاقوي والاقتصادي الصيني والتي تلاقت استراتيجيتها «البحار الأربعة» مع استراتيجية «البحار الخمسة» التي أعلنها الرئيس بشار الأسد بعد أن قرر الاتجاه شرقاً واعتبار أن أوروبا لم تعد موجودة على الخريطة سياسياً. 9 ـ بروز أخطار الاحتباس الحراري والتغير المناخي بسبب التلوث الذي أحدثته الدول الصناعية بسبب استعمالها المفرط للبترول والفحم الحجري لتحريك عجلة مصانعها وبروز الصراع على الغاز كمادة نظيفة للطاقة بعد التوصية باستعماله من قبل منظمة الطاقة العالمية التي اعتبرت أن القرن الـ21 هوالعصر الذهبي للغاز ونتيجة ضغوط منظمة الطاقة العالمية على الدول الصناعية، لتبني توصيات قمة الأرض في ريودوجنيرو عام 1992 ومؤتمر كيوتو في اليابان عام 1997 بضرورة استعمال الغاز كبديل طاقوي لتخفيف انبعاث ثاني أوكسيد الكربون بنسبة 20 في المئة قبل 2020 والتحذير من كارثة ستحل بالكرة الأرضية إن لم تلتزم الدول الصناعية بهذا الأمر، والتزام أوروبا بهذه المقررات ما جعلها أكبر سوق عالمية ناشئة للغاز، ولما كان استهلاك الغاز العالمي يتضاعف كل عشر سنوات، ولأن أوروبا تعتمد على الغاز الروسي لتلبية ثلث حاجتها من الغاز باتت هي رهن إرادة روسيا الطاقوية التي تضغط بها سياسياً على أوروبا.
وبعد اكتشاف هيئة المسح الجيولوجي الأميركية المخزونات الكبيرة من النفط والغاز في الأراضي السورية ومياهها الإقليمية في المتوسط والتي قدرت باكثر من 700 تريليون م م من الغاز، ما جعل سورية خزان غاز المتوسط وتشبه السعودية يوم اكتشاف النفط… وبعد انكشاف موقع سورية كأقصر عقدة مرور أنابيب الغاز لتحرير أوروبا من احتكار غاز بروم الروسي، ولأن سورية خزان الغاز للمتوسط وعقدة طرقه إلى أوروبا، ولما كان الرئيس الأسد غير موثوق من قبل أميركا وأزلامها وتركيا ودول الخليج العربي، وبعدما رفض مرور أنبوب غاز نابوكو في سورية والذي يحمل غاز قطر و«إسرائيل» وينافس حليفته روسيا في سوق أوروبا، واستعاض عنه بأنبوب الغاز الإيراني الذي سيعبر إيران والعراق وسورية ويكون رافداً لغاز بروم لا منافساً له، وناقل غاز المتوسط مستقبلاً إلى الصين، بدأت الحرب على سورية لإسقاطها لأنها بموقعها الجيو استراتيجي باتت قطب الرحى وعقدة مواصلات أنابيب الغاز العالمية إضافة الى أنها عقدة طرق برية وجوية وبحرية ونقطة التقاء ثلاث قارات آسيا وأفريقيا وأوروبا.
10- على رغم أن عصر العولمة وثورة الاتصالات والمعلوماتية التي اختصرت الزمن والمسافات وجعلت العالم قرية كونية مشرعة الأبواب والنوافذ أمام التدخل الخارجي، هي نتاج النيوليبرالية لاستباحة الكون. إلا أن النيوليبرالية سقطت في بداية هذه القرن بسبب الأزمة الاقتصادية التي ضربت العالم عام 2008 وأفقرت أوروبا وأميركا والعالم الرأسمالي، وبددت مدخرات الخليج العربي ولا تزال تداعياتها وتردداتها من دون حل وترخي بظلالها على الاقتصاد العالمي. حيث يشهد الغرب حالياً أميركا والعديد من الدول الأوروبية أزمة اقتصادية كبيرة، أصبحت ككرة النار تحرق الجميع، أو ككرة الثلج أيضاً كلما تدحرجت كبرت، ولا ينفك قادة هذه الدول عن توجيه النصائح المكررة والمملة لدول العالم الأخرى في كيفية ترشيد إدارتها وزيادة الرفاهية الاجتماعية وحماية حقوق الإنسان وتعميم الديمقراطية… وينسون أو يتناسون التظاهرات الشعبية في بلدانهم الناجمة عن تراجع معدل النمو الاقتصادية وزيادة حالات التهميش الاجتماعي والفقر. ويبحثون في الكتب والمراجع الاقتصادية علّهم يجدون حلولاً لمشاكلهم، ونسوا أو تناسوا أن هذه المشاكل مرتبطة بطبيعة نظامهم الاقتصادي القائم على الاستغلال والظلم والابتعاد من الاقتصاد الإنتاجي وكأن الرأسمالية تقتل الرأسمالية والرأسماليين .
فقبل أشهر عدة شهدت أميركا تحركات شعبية واسعة، تعكس الشعور بخيبة الأمل من الطبيعة الظالمة للنظام الرأسمالي، وما يسببه من كوارث اقتصادية واجتماعية، انعكس انتشاراً للبطالة بين صفوف العمال، وازدياداً لنسبة الفقر بين فئات المجتمع الدنيا، ما يظهر مدى تجذر الأزمة المالية التي يعيشها النظام الرأسمالي العالمي بوجه عام، والأميركي بوجه خاص.
وبالنظر إلى أحدث الإحصاءات عن التفاوت الاجتماعي في الولايات المتحدة، يظهر أن عدد «العمال الفقراء في الولايات المتحدة ازداد بشكل مخيف. ففي عام 2011، كان 47,5 مليون شخص يعيشون في عائلات متوسط دخلها أقل من 200 في المئة من معدلات الفقر الرسمية، وهذا تقريباً خمس العائلات، وهو معدل مرتفع مقارنة بـ 31 في المئة عام 2010 و28 في المئة عام 2007.
أما في القارة العجوز، فالمفارقة لا تكاد تصدق للوهلة الأولى. أوروبا الغنية مهددة بالفقر والتهميش الاجتماعي. فمع العام الرابع على التوالي، وبعد انطلاق الأزمة المالية العالمية، تظل منطقة اليورو الحلقة الأضعف في الاقتصاد العالمي. وفي ظل هذه الأزمة المستمرة يتعرض الاتحاد النقدي الأوروبي منطقة اليورو لصدمة ثلاثية: صدمة مالية، أزمة ديون سيادية، وأزمة للمشروع الأوروبي مهدداً بعواقب سياسية متعددة…
منظمة العمل الدولية حذرت من وجود أكثر من 26 مليون أوروبي الآن من دون عمل، وهذه الأعداد تتطلب خططاً تنموية واسعة وأموالاً كبيرة لدمجها في سوق العمل والإنتاج. منبهة إلى المخاطر التي ترتفع مع ارتفاع البطالة طويلة الأمد وبطالة الشباب على وجه الخصوص، والتي وصلت إلى مستويات حرجة. كما ورد في تقرير أصدرته المنظمة من جنيف لمناسبة افتتاح المؤتمر الإقليمي الأوروبي حول العمالة في أوسلو 08 نيسان 2013 ، إن حالة الأيدي العاملة والتشغيل في أوروبا تدهورت منذ تبني الحكومات الأوروبية سياسات التقشف المالية، وإن مليون شخص فقد عمله في دول الاتحاد الأوروبي خلال الأشهر الستة الماضية. وأضافت أن عشرة ملايين شخص إضافي هم الآن من دون عمل مقارنة ببداية الأزمة المالية عام 2008، وأن معدل البطالة في أوروبا بلغ في شباط الماضي 12.7 في المئة، وفي منطقة اليورو، بلغ مستوى تاريخياً بتسجيله 13 في المئة. حيث تعاني في منطقة اليورو التي تضم 17 عضواً من الركود الكبير في كل من إسبانيا وبلجيكا واليونان وإيرلندا وإيطاليا وهولندا والبرتغال وسلوفينيا. بينما تعاني منه خارج منطقة اليورو بريطانيا والدنمارك وجمهورية التشيك.
المشهد الاقتصادي العام الحالي في منطقة اليورو يبدو سوداوياً، حيث وصلت معدلات البطالة في الاتحاد الأوروبي خلال الربع الأخير من عام 2013 إلى رقم قياسي 11.9 في المائة ، أي أن هناك 26 مليون عاطل عن العمل في 27 دولة أوروبية. معدل البطالة في ألمانيا 5.3 في المئة ، في إسبانيا 26,2 في المئة ، في فرنسا 11 في المئة في اليونان 27 في المئة .
والبيانات تشير إلى تراجع في استثمار الشركات، مع هبوط في الاستهلاك الخاص، ما أدى إلى تراجع اقتصاد منطقة اليورو بنسبة 0.6 في المئة وتراجع للصادرات والواردات بنسبة 0.9 في المئة وانخفاض الناتج المحلي الإجمالي في دول منطقة اليورو بنفس المعدل. في المقابل فإن التوقعات المستقبلية الصادرة عن المفوضية الأوروبية ترسم صورةً مُحبَطة أيضاً: في عام 2015 يتوقع أن يكون معدل البطالة أعلى من 25 في المئة في اليونان وإسبانيا… ومن المتوقع أن يستمر الانقسام الاقتصادي والاجتماعي العميق في منطقة اليورو.
ألمانيا اليوم القوة الاقتصادية الأولى في منطقة اليورو، تعاني من تخفيض تصنيفها الائتماني، و 75 في المئة من الفرنسيين يرفضون التدابير التقشفية… ويقول مارتن وولف في «فايننشال تايمز» حشرجة الموت الصادرة عن النموذج الاقتصادي الفرنسي لا تزال مسموعة، وعلينا أن ننتظر لنرى كيف ستكون النهاية… ، والوضع في بريطانيا ليس أفضل… الواقع أن الفجوة الاقتصادية داخل الاتحاد النقدي الأوروبي من غير الممكن أن تستمر لفترة طويلة كما قال أبراهام لنكولن: «إن البيت المنقسم على نفسه لا يظل قائماً»، وبالتالي من الصعب جداً أن يستمر الواقع الحالي لمنطقة اليورو.
مقابل هذا الضعف والوهن الاقتصادي الأوروبي، تحاول بعض الإمبراطوريات الأوروبية القديمة الهرمة استعادة بعض من نفوذها الضائع وتحشر نفسها سياسياً في أوضاع الشرق الأوسط مباشرة أو بالوكالة، كفرنسا وبريطانيا… وليس سراً أن جهودها هذه ستكلل بالفشل كسابقاتها… فالأزمات والقضايا الكبرى تحسمها الشعوب… وليس قوى الاستعمار القديم الضعيفة اقتصادياً في أوروبا العجوز… والتي تعيش حالة من التخبط والعجز السياسي …لكن الخطر يكمن في لجوء المسؤولين الدهاة في الغرب، على حل مشاكلهم الاقتصادية على حساب بلدان العالم الثالث، التي اعتاد الغرب أن يمتص ثرواتها، ويدمر وجودها البشري. وبذلك يتسع الشرخ القائم بين البلدان المقتدرة والبلدان الضعيفة والمستضعفة، فيزداد الخلل العالمي تفاقماً. وهنا، هنا تحديداً، كان يمكن لبعض البلدان العربية، ولا سيما تلك البالغة الثراء، أن يكون لها دور إيجابي في هذه الأزمة، يفتح للعالم العربي آفاقاً جديدة من الحضور الفعال والاحترام الحق، فيرغم الغرب على تحمل مسؤولياته الجسام إزاء العالم العربي بأسره، بدءاً من فلسطين، وعلى التخلي عن إصراره التاريخي والمزمن على الاستئثار بخيرات الأرض، والاستهتار بشعوبها، إلا أن مواقف معظم المسؤولين العرب، من الأحداث الجارية الآن في العالم العربي، تكشفت مرة أخرى، عن حقائق مخزية، وهي تفاقم انجرار أغلبيتهم كالنعاج، في غباء مفجع، إلى الانخراط في السياسة الغربية الظالمة على كل صعيد، تلك السياسات التي يراد لها أن تفضي بالبلدان العربية كلها، إلى أوضاع سياسية واجتماعية واقتصادية كارثية ومتفجرة، لن تلبث أن تقود سياسييها إلى حفر قبورهم، وقبور شعوبهم بأيديهم…
وعلى الضفة الأخرى من العالم في الشرق، تلوح فرص ضخمة في أحداث التغيير البعيد المدى، فقد نجح آلاف الملايين من البشر في آسيا في الإفلات من براثن الفقر. والآن تظهر باستمرار أسواق جديدة ومجالات جديدة يستطيع فيها المرء أن يستغل فكره وتعليمه ومواهبه، كما بدأت مراكز القوى العالمية في موازنة بعضها بعضاً، على نحو يعمل على تقويض طموحات الهيمنة ويبشّر بنوع مبدع من عدم الاستقرار القائم على التعددية القطبية، حيث يكتسب الناس قدراً أعظم من الحرية في تحديد مصائرهم على الساحة العالمية.
إن النظام الرأسمالي العالمي يدخل مرحلة جديدة، حيث يصبح تحقيق التعاون العالمي أمراً بالغ الصعوبة، فلم يعد بوسع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في ظل ارتفاع مستويات الديون وانخفاض معدلات النمو وارتفاع البطالة وبالتالي انشغالهما بهمومها المحلية، وضع القواعد العالمية الناظمة للكون وتوقع امتثال الآخرين لها. وما أدى إلى تفاقم هذا الاتجاه، أن القوى الصاعدة مثل الصين والهند تقيم وزناً عظيماً للسيادة الوطنية ومبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية، وهذا من شأنه أن يجعل هذه البلدان غير راغبة في الامتثال للقواعد الدولية أو المطالبة بالتزام الآخرين بهذه القواعد ، وبالتالي فهي من غير المرجح أن تستثمر في المؤسسات التعددية، كما فعلت الولايات المتحدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
ويرى كثير من الباحثين أن صعود القوة الناشئة، دول البريكس وغيرها، عامل مساهم في إنهاء القطبية الواحدة وبزوغ عالم متعدد الأقطاب ما يؤدي إلى سقوط الهيمنة الأميركية التي بدأت انحدارها منذ انفلاشها ما وراء البحار ونشر قواتها في معظم مناطق العالم بذرائع محاربة الإرهاب، والدفاع عن حقوق الإنسان. فالصين والهند وبعض دول أمريكا اللاتينية وأفريقيا اتجهت نحو سياسة الاقتصاد الصناعي والتمدن كما فعل الغرب في القرن التاسع عشر، لكن مع إضافة وهي الثورة التكنولوجية والاقتصاد المعولم.
لقد اتَّسعت مساحات الفقر، وازداد عدد العاطلين عن العمل في العالم، ويعيش قرابة المليار إنسان -بمن فيهم أكثر من 80 في المئة من سكان جمهورية الكونغو ومدغشقر وليبيريا وبوروندي- تحت خط الفقر. في حين تبلغ ثروات أكبر خمسين ثرياً في العالم حوالى 1.5 تريليون دولار، ويقول كوشيك باسو -كبير نواب رئيس البنك الدولي وكبير خبرائه الاقتصاديين: إذا افترضنا أن هذه الثروة تدر عائداً يبلغ 8 في المئة سنوياً، فإن الدخل السنوي لهؤلاء الخمسين يقرب من إجمالي دخل أكثر من مليار إنسان يعيشون تحت خط الفقر.
إن الأزمة الاقتصادية والمالية التي تعصف بالنظام الرأسمالي في أوروبا وأميركا، جعلت الكثير من المفكرين في الغرب يرون أن النظام الرأسمالي انتهى دوره التاريخي، وصار عبئاً ثقيلاً يجثم على الإنسانية. والاستنجاد بالدول الغنية ذات الاقتصاد القوي ـ كالصين ـ يهدف إلى ترميم النظام الرأسمالي المتهاوي، وهذا قد يؤجل انهياره، ولكنه لن يمنع نهايته المحتومة، وما شعار «احتلوا وول ستريت…» الذي يرفعه الفقراء في الدول الرأسمالية، إلا تعبير واضح يجسد المدى الذي بلغته أزمة النيوليبرالية..