نكبة العراق
جاد الحاج
ما الذي حصل في العراق في الأيام الأخيرة؟ بين حكايات التواطؤ التي تطاول القادة العسكريين في المناطق المنكوبة، والتوجه نحو تشكيل لجان شعبية تغطي عجز الجيش بين صمت حكام الخليج أو ما يوازي الصمت من خطاب فارغ واستنكار سورية وإيران، وبين استنفار تركيا للأطلسي وتململ السياسة الأميركية بعد التثبت، بدليل دويّ أصوات المعارك، من أضحوكة «الهزيمة الاستراتيجية» التي ألحقتها واشنطن بالإرهاب في العراق، أمرٌ واحد يجمع العالم بشرقه وغربه عليه: تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» يخطو خطوة جديدة في مسعى التحوّل إلى «دولة» بالفعل فصلٌ جديدٌ من بلاء العراق والشام.
تاريخ العراق الحديث جداً يتكرر. في العام 2003، شاهدنا أحد أقوى جيوش المنطقة يتلقى الهزيمة تلو الأخرى في بلاد الرافدين، جيشٌ سبق له أنّ تلقى ضربات شديدة في الثمانينات من دون أن يتفتّت، ومن دون أن تختفي ألوية كاملة من ميادين القتال بعديدها وعتادها. بعد عقد من الزمن، نشاهد بضعة آلاف من مسلّحي «داعش» يحتلّون الموصل، المدينة التي كانت تحميها قوة عسكرية يناهز عديدها الخمسين ألف جندي مدججين بأحدث الأسلحة. والنتيجة، أنّ تلك المدينة، وغيرها الكثير من المدن المهمّشة سياسياً، سقطت في أيدي ظلاميي «داعش»، بفعل خيانة أو تواطؤ أو قوة خارقة. وما سيتبع هذه النكبة الجديدة يذكّرنا أيضاً بتبعات حرب العام 2003، عندما تحوّل جيش البلاد إلى فرق مسلّحة، مذهبية وعشائرية، موالية للشرق أو للغرب، قسّمت المدن والمحافظات وأغرقت العراق في دوّامة من العنف لمّا يخرج منها بعد. وما من نتيجة لمسعى القيادة العراقية اليوم في القيام بالأمر عينه، أي تسليح مجموعات لمساندة الجيش، إذا استمرّ على المدى البعيد، سوى المزيد من التقسيم، وخلق المزيد من المرجعيات، وذلك في ظلّ الشكوك التي تطول ولاءات المرجعيات القائمة أساساً.
بين الشام والعراق اليوم، دويلة، أو دولة إسلامية لا ينقصها سوى اعتراف دولي، تمتدّ حدودها من الفلوجة ومشارف بغداد شرقاً، إلى تخوم حلب غرباً، ومن الأنبار جنوباً إلى اليعربية شمالاً، وفي الداخل مدن كبرى وآبار نفط وحقول زراعية وثروات مائية، وشعب مقهور. بين العراق والشام تنظيم تحوّل، بين ولايتي أبو عمر وأبو بكر البغداديّيْن، إلى دويلة بسرعة مرعبة، وذلك في ظلّ خلافه مع التنظيم العالمي الأم، «القاعدة»، والحرب الأهلية الجهادية التي يخوضها ضد توأمه «جبهة النصرة» والجبهة الإسلامية، وباقي الفصائل الجهادية في سورية، بغية بسط النفوذ على مناطق أوسع من الميدان واحتكار التمثيل.
ما الذي يحصل بين الشام والعراق اليوم؟ انهيار جديد لاتفاقية سايكس-بيكو، في سياق مختلف هذه المرة، بعد أن انهارت بشكل جليّ خلال معركة القصير والقرى الحدودية الشمالية بين لبنان وسورية، وكلّ ما نجم عن تلك المعركة. «داعش» اليوم يجرف الحدود بين نينوى والحسكة، ويستغلّ تلاحم الميدانين السوري والعراقي، ليصنع مدىً حيوياً يحمي مناطق سيطرته الكاملة في الرقة وريف دير الزور السوريتين والأنبار العراقية، يستطيع من خلاله نقل القيادات والمقاتلين والأسلحة والأموال بحرية وأمان.
ربما الوقت تأخر لتحميل المسؤولية والبحث عن الأسباب. ولكن أي منطقة تتعرّض للحرمان والتهميش السياسي، وتفقد مقوّمات اقتصادها الحقيقية من زراعة وصناعة لصالح النفط والسوق النيوليبرالية، وما ينتج عن ذلك من إفقار، وأي منطقة تخرج من حسابات الدولة المركزية لفترات طويلة، وفي غياب أيّ سعي ثوري يتخطى النزعات المتطرفة فيها، تصبح أرضاً خصبة للتطرف الديني، صالحة في هذه الحالة لزرع بذور السلفية الوهابية، والإرهاب، الذي هو بمعنى آخر انحراف عن أيّ قيم قد يحملها الدين في الحالة الطبيعية.
إذا نظرنا إلى التطورات الأخيرة من هذا المنطلق، نرى أنّ «داعش» وصل إلى مداه الجغرافي الأوسع في المشرق، ولا طريق آخر له بعد الآن سوى التراجع أو محاولة الاستماتة في الدفاع عن هذه المكتسبات. فدولة «داعش» باتت على تماس مباشر مع بيئة لا يمكن أن تحتضنها، لا طائفياً ولا مجتمعياً، وينحصر نفوذها الآن في المنطقة التي احتلّتها من الشام والعراق. لا بل إنّها على تماس مباشر مع بعض المناطق التي تسيطر عليها تنظيمات جهادية أخرى تكنّ لها العداء، أكان ذلك لأسباب إيديولوجية أو لخلافات على السلطة.
والأمل الوحيد، إن جاز الحديث عن الأمل في جملة واحدة مع تنظيم الوحوش هذا، يكمن هنا، في أنّ أحداً لا يريد العيش في الدولة التي يبنيها «داعش»، بالرغم مما نراه من اتحاد ظرفي لبعض العشائر ولبقايا نظام معها في شمال غرب العراق، نظام كان السبب في خلق عداوة بين أبناء العراق سببها القمع والحرمان. هي تجمّع أشخاص باتوا بلا أرض ولا هوية، يتملّكهم تطرف ديني وتوق إلى «الاستشهاد»، أشخاص بلا أمل في العالم ولا رادع، ينشرون الموت في هذه الدولة أو تلك. يفرّ السكان من كلّ حاضرة وريف يحلّ فيهما «داعش»، ويستوطن الموت والخراب والبؤس والمظاهر القروسطية. 500 ألف نازح فرّوا في الأيام الأخيرة من «الدولة» في الموصل، وقبلهم كثيرون في مدن عراقية وسورية أخرى. لا مستقبل واقعياً لدولة كتلك، تستأصل الثقافات الأصلية من المجتمعات التي تحلّ فيها، وتذبح كل من يجرؤ ألا «يبايعها»، وتأتي بمرتزقة تربّوا على تعاليمها في دول العالم المنكوبة، وبمجرمين تطلق سراحهم من السجون لبث الرعب في المدن. لا مستقبل لدولة أشبه بثقب أسود يجذب كلّ ما في الأرض من شر وجنون إليه، ولكنّها، في زمن الوقت الضائع الذي نعيش فيه، تنشر الموت والحزن بيننا.
الأولوية اليوم هي للبحث عن حل، ولا حل في نزوات جنونية تحلو للبعض، في استجداء التدخل الغربي وفي تسليم المصير إلى حلف شمالي الأطلسي الذي يساوي «داعش» إرهاباً. الحل الواقعي الوحيد هو في تعاون العراق وسورية، وربما إيران ولبنان، وتضافر جهودها لمحاربة الإرهاب، وذلك لا يتمّ إلا بمنع التمويل السعودي-القطري له أولاً، وبضغط دولي يجعل من مكافحة الإرهاب أولوية، وخصوصاً في الدول الغربية التي بدأت تجني ثمار ما زرعته من إرهاب في مجتمعاتها نفسها. لا حلّ في مجموعات مسلّحة منفصلة عن الجيش تهاجم الموصل والشمال العراقي، بل بالتفات نوري المالكي والنظام العراقي إليها وإلى المعتدلين فيها للقضاء على التطرف.
ما الذي يحصل بين الشام والعراق اليوم؟ لا جديد، بل استعادة للتاريخ المتجهّم تحت رماد الإنكار صمت للإنسانية أمام كلّ هذا الإجرام والتعطش للدم، ومنظمات دولية «قلقة جداً» ودول متواطئة وانكفاء عن محاربة الإرهاب حتى الآن. لا أحد يشعر بالرعب المتفشي في تلك المناطق البعيدة، ولا أحد يسمع أنين البؤس فيها والواقع المؤلم. «داعش» بات مرادفاً للموت والخراب، والإنسان هو الضد.