تركيا في احتراب أهلي يضرب النسيج الاجتماعي
د. هدى رزق
بعد إعلان تركيا انضمامها الى التحالف من أجل الحرب على «داعش» انفجرت المعركة العسكرية مع حزب العمال الكردستاني، والسياسية ضدّ حزب الشعوب الديمقراطي، الذي فاز في الانتخابات البرلمانية بـ80 مقعداً وهدّد سيطرة حزب العدالة والتنمية على الحياة السياسية، بإسقاطه مشروع أردوغان الرئاسي. لكن هذا الأخير، وعوضاً عن تعبئة الداخل ضدّ «داعش» بعد ان كان يستفيد من وجوده في الداخل العراقي والسوري، ويسمح لمقاتليه بالتزوّد بالسلاح، والتداوي في المستشفيات التركية، وللمهرّبين باستيراد النفط، شرّع باب الحرب ضدّ حزب العمال الكردستاني الذي أعطى أردوغان ذريعة لبدء القتال بعد تصفيته لضابطين تركيين بعد عملية سروش التي راح ضحيتها مئات الشبان والشابات بين قتيل وجريح على يد من قيل إنه ينتمي الى داعش.
فعل وردّ فعل، جعل الكثيرين يتهمون حزب العمال الكردستاني بالشعور بفائض قوة، حمل القيّمين على القرار العسكري بعد قتال «داعش» الى جانب قوات التحالف بتوهّم القدرة على فرض أمر واقع كردي على السياسة التركية. هذا الفعل أعطى أردوغان فرصة ذهبية ليجد مخرجاً لمأزق استعادة السلطة وهو يصوّب اليوم على أمور أربعة:
ـ أولها ضرب حزب الشعوب الديمقراطي عبر الترويج بأنه الغطاء البرلماني لحزب العمال الكردستاني، بعدما قام الإعلام التابع للحكومة بشيطنته واتهامه بأنه يغطي طموحات هذا الحزب.
ـ ثانيها إضعاف المعارضة وإحراج حزب الشعب الجمهوري وجعله يبتعد عن حزب الشعوب الديمقراطي بعد إثارة القومية التركية خوفاً من ان يجد نفسه معزولاً خارج العصبية التركية.
ـ ثالثها إلهاء محازبيه ومؤيّديه عن مشاركة تركيا مع دول التحالف بقرار ضرب «داعش» التي تعتبر بالنسبة لعدد كبير من المسلمين المحافظين الأتراك، حيث يشارك عدد كبير منهم في القتال الى جانب «داعش»، كردّ فعل على ما يُسمّيه داوود أوغلو اضطهاد السنة.
ـ رابعها محاولة الإيحاء للغرب بعدم إمكانية القتال ضدّ «داعش» إلى جانب وحدات الحماية الكردية التي تحمل نفس عقيدة حزب العمال الكردستاني السياسية.
نجح أردوغان في تأليب القوميين المتطرفين وإشعال فتيل التفرقة بين الأكراد والأتراك، واستفاقت القومية التركية ضدّ كلّ من ينطق باللغة الكردية حتى لو كان عاملاً بسيطاً. نجح في دفع مؤيديه ومحازبيه للنزول في تظاهرات ضدّ «ارهاب الكردستاني» بعدما حمّل ورئيس وزرائه اوغلو حزب الشعوب الديمقراطي مسؤولية مقتل 100 من أفراد الأمن والعسكريين. كان لا بدّ من غوغاء الشارع لكي تحوّل الحكومة الأنظار عن الاعتراضات على تجميد عملية السلام مع الأكراد التي شكلت سبباً رئيساً في استمرار القتال وتمدّده، والتي أودت بحياة هؤلاء الجنود والأمنيين من أجل تأمين نصر ساحق لأردوغان. مارست بعض الأحزاب المتطرفة العنف ضدّ 128 مقراً وبناء ومحلات وأماكن ترفيه تعود إلى حزب الشعوب الديمقراطي، في مناطق عدة بعدما جرى إحراق المقرّ الرئيسي في أنقره. كما جرت محاصرة قرى كردية بعينها وفرض حظر التجوّل.
سخّر أردوغان مقدّرات الدولة أمنياً لاعتقال أعداد كبيرة من الشبان الأكراد وإرهابهم كما قام بعض الأكراد المنتمين الى العدالة والتنمية والمتحالفين مع الحكومة بمساعدتها على إلقاء القبض على مؤيدين لحزب الشعوب الديمقراطي.
لم يجر استثناء مجموعة «دوغان» الإعلامية ناشر صحيفة «حرييت»، و «سي ان ان» تورك، بعد أسبوع فقط من استهداف مجموعة «ايبك» المعارضة. لا تختلف صحيفة «زمان» المقرّبة من الداعية غولن بالنسبة إلى السلطة الحاكمة عن صحيفة «حرييت» العلمانية في معارضتهما، كذلك شبكات التلفزة المعارضة التي تنتمي الى هاتين المجموعتين. جرت محاولة اقتحام صحيفة «حرييت» مرتين بتحريض من أردوغان الذي انتقد هذه الصحيفة بعدما أدلى بتصريح قال إنه جرى تحريفه، وفيما اعتذرت الصحيفة عن شكل الصياغة وعن تغريدة قام بها احد الصحافيين، لم يتوانَ مسوؤل الشباب في حزب العدالة والتنمية وأحد نواب الحزب مع مويدين ومحازبين بالهجوم على مبنى الصحيفة محاولين اقتحامها ومردّدين هتافات «سنحرقكم كما في ماديماك»، في اشارة الى الحادثة التي جرت عام 1993 في فندق «ماديماك» في المقاطعة الشرقية من مدينة سيفاش حيث قام أحد المحافظين المتطرفين بحرق 35 مثقفاً علوياً كانوا يشاركون في مؤتمر. وفيما قام المحقق العام بفتح تحقيق في شأن تغريدة على «تويتر» ضدّ جريدة «حرييت» لم يفتح تحقيق جديّ حول هذا الهجوم على مقرّ الصحيفة التي تعتبر من أهمّ وأعرق صحف تركيا. بل جرى اعتقال 17 شاباً من المتظاهرين ومن ثم إطلاق سراحهم.
يتطلع أردوغان الى نصر كاسح عبر احتكار العصبية التركية وهو يدّعي أمام ممثل الاتحاد الأوروبي بأنه واقع بين ممارسة الديمقراطية ومحاربة الإرهاب فيما هو يشجع الاحتراب بين الأتراك والكرد، أملاً بتأجيل ارتدادت الأزمة السورية على تركيا، والتي أسفرت عن تراجع العدالة والتنمية سياسياً وانتخابياً. لكن هذا الاحتراب يهدّد بحرب أهلية قد تتخطى حساباته، إذ يحاول التصرف كما بولنت أجاويد الذي فاز في الانتخابات بعد ان أثار القومية التركية ضدّ الأكراد في التسعينات.
تجد تركيا نفسها اليوم في مأزق بعدما وصفت منذ سنوات بأنها واحة الاستقرار في المنطقة. لكن نظرة الى ما يحدث اليوم، يظهرها دولة شرق أوسطية بامتياز حبلى بالمشاكل السياسية واللااستقرار حيث يسود العنف وتنفصم عرى اللحمة الاجتماعية بسرعة فائقة، وتتحطم الصورة التي سادت في الأعوام الماضية حول الديمقراطية والإنجازات الاقتصادية.
عجزت تركيا عن حلّ إحدى أهمّ مشاكلها: القضية الكردية عبر الحوار والوصول الى عملية السلام، فالذين يقبعون في السلطة عطلوا المفاوضات السياسية ويقومون بحملات التشهير من دون النظر الى العواقب المدمّرة على النسيج الاجتماعي. لقد اعتاد أردوغان الانقلاب على حلفائه عندما يرى مصلحة له في ذلك منذ الانقلاب على معلّمه نجم الدين أربكان، الى معاداة حليف الأمس عدو اليوم الداعية محمد فتح الله غولن، كما استبعد حليفه الرئيس السابق عبدالله غول من أجندته السياسية، وجمّد المفاوضات مع العمال الكردستاني، ودخل الحرب معه من أجل مصلحة انتخابية تضرب الوحدة الاجتماعية والثقة بين الأتراك والأكراد الذين دخلوا البرلمان عبر انتخابات لم يسمح لها بالاستمرار.
يفاخر أردوغان في تصريحاته بأنه كان على حزب الشعوب الديمقراطي ممارسة تمثيله للأكراد في وجه العمال الكردستاني في لعبة مزدوجة قوامها محاولة تأليب الأكراد على بعضهم البعض من جهة، او إدانة الحزب واتهامه بتمثيل العمال الكردستاني في البرلمان، وفي الحالتين هناك إعلان للحرب على تجرّؤ الأكراد الاستقلال عن حزب العدالة والتنمية وتمثيل حزب الشعوب لشريحة يسارية مهمّشة داخل المجتمع التركي. فهل ستستمرّ الحرب الى 1 تشرين الثاني المقبل، وهو التاريخ المحدد للانتخابات التشريعية الجديدة؟