تتجلّى الذات في مشهد بصريّ ملموس وترتقي إلى مقام الرؤيا الأرفع
كتب عبد الرحمن الكناني: يرى فنان مدرسة البعد الواحد الطريق الأقصر نحو تحقيق المصالحة مع الذات المتمسكة بمضامين هويتها المهددة بقيم عولمة طارئة، في استلهام الحرف العربي بمضمونه الروحي المقدس في الإبداع الفني المعاصر. البناء التشكيلي في عالم صوفي لا يسلك مسارات النشوة لبلوغ أوج ذروتها، فالصوفية إن لم تكن في الرؤية الإسلامية مذهبًا له شرائعه وأحكامه، فهي مذهب في المبدأ الجمالي المعاصر، يجسد رؤاه بأدوات الفن الحديث في الفنون والموسيقى والتشكيل والمسرح، رغبة في الإرتقاء إلى مقام الرؤيا الأعلى في: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك». لتنتهي المسارات برؤاها الجمالية المتصوفة عند الله جل وعلا، إثر بلوغ أعلى مراحل النقاء. نفس تتربى على قيم السماء، وقلب يتطهر من الدنس الوضعي. وتضحي الصوفية التي تتجلى في «حروفيات عربية» تزكية لفعل ذاتي، صار له شكلاً في أبجدية لغوية، تحاكي الصفاء المنشود. ويضحي البعد الواحد أول الأبعاد التجريدية في اتجاه فني بصري يجسد تراث الأمة والخصائص المعنوية لوجودها من دون محاكاة للزمان والمكان، يجعل من الحرف العربي بعداٌ لا موضوعا، فيتسع: بالجانب الفلسفي والجانب التقني والجانب التعبيري.
يرى مبدع فكرة مدرسة البعد الواحد العراقي الراحل شاكر حسن أل سعيد: «أن تحقيق البعد الواحد بواسطة الحرف العربي هو نزعة تأملية لوجود الذات الإنسانية عند مستوى الوجود الكوني»، لذلك لم يستلهم فنان البعد الواحد عنصر الكتابة بدافع جمالي أو تقني في استجلاء مضمونها اللغوي، فهو اكتفى بمضمونها الفلسفي – الروحي المؤثر في الحواس، وجعل من الحرف وسيلة وليس غاية جمالية. وبدت الحروفيات العربية لدى البعض عبارة عن كتابات عفوية يراها أكثر ارتباطاًُ بمشاعر الإنسان الداخلية من تلك الخطوط المرسومة بقواعد الفن الكلاسيكي، وبدت لدى البعض الآخر بمثابة توجيه الإبداع الفني بطابع حضاري تتميز به هوية الفنان المشدود إلى أرضه. لكن الحروفيات العربية في الحركة التشكيلية الأوروبية ذات شكل فني آخر بدأه الرسام السويسري الألماني بول كيلي الذي لُقب بالأب الشرعي للحروفيات العربية، فكان أول من مثّل التجريديات الحروفية في حركة الفن التشكيلي العالمي الحديث، إذ وجد في الحرف العربي القيمة التشكيلية القادرة على بناء كيان جمالي تجريدي. انتزع فن الخط العربي مكانته كياناً تشكيلياً متكاملاً تتحقق فيه جدلية المعادلة الفنية القائمة على قنوات ثلاث: المبدع، الموضوع، المتلقي.
أضحى اللون مكملاً مضافاً في دائرة النص المكتوب، لما له من تأثير أخّاذ في ذات المتلقي الذي يرى في عالم الألوان قيماً جمالية روحية تفتح أبواب التواصل مع المبدع المتمكن من توظيف أدواته الفنية في صوغ فكرة إبداعية تؤسس لقيمة إخلاقية إنسانية عليا تتجلى في أرقى حالات الصفاء. واستثمار تأثير اللون في الخط العربي أعطى البعد الاجتماعي المفقود في النص المكتوب على قاعدة المدارس التقليدية – الكلاسيكية، فهو فن قائم بذاته تتجسد فيه قيمة تشكيلية راقية، تحتضن الإيقاعات الحركية للحروفيات العربية. وطوى الخطاط الذي يشغل زمنه الراهن تلك المسافة الفاصلة بين اللون والنص المكتوب، رغبة منه في إحياء دور مؤثر جمالي في معنى تربوي مخطوط. ويستذكر الحقيقة المطلقة التي أعلنها الفنان الأسباني الراحل بابلو بيكاسو حين قال وهو في أوج حركة اكتشاف مذاهب فنية جديدة شغلت العصر في القرن العشرين: «اذا كان هناك شيء مفقود في الفن التشكيلي فقد وجدته في جماليات الخط العربي». وتعتبر مقولة بيكاسو تحقيقاً لتلك المقاربة التشكيلية بين مؤثرات الجمال والدقة الحرفية في توظيف الخطوط والألوان في كيان فني متآلف، أتاح للخطاط مساحات يقدم من خلالها أنماطاً جديدة في عالم الفن التشكيلي الذي يجعل من الحرف العربي مفردته التشكيلية.
فتحت الحروفيات في الفن التشكيلي الجزائري المعاصر آفاق المعاصرة على الحركة التشكيلية العالمية محوّلاً الخزين التراثي والروحي إلى فن تشكيلي حديث، مجدداً حضوره الكوني في عالم مفتوح.
جسّد الراحل محمد خدة الانفتاح الأعمق على التراث الفني العربي التجريدي، مستثمراً حركية الحرف الإيقاعية في إشغال الفضاء عبر إحياء خصائص الخطاط البغدادي محمود يحيى الواسطي الذي نأى بعيداً عن تقنيات الخطوط البيزنطية والفارسية، تطبيقاً لمبادئ انعكاس الهوية البيئية.
اتسعت دائرة الحروفيات الجزائرية، التي يرثها جيل عن جيل ويجعلها مذهباً من مذاهب حركة التشكيل الجزائري المنفتح من دون عقد على معطيات معاصرة، وجزءاً لا يتجزأ من جماليات الزمن الحاضر، مانحاً إياها بعداً روحياً صوفياً، نراه يتعالى في حروفيات الفنان الطيب العيدي الذي يجعل من الأبجدية العربية مفردات تشكيلية تزداد اتساعاً في فضاء لوحة تلتزم بخصائص الفن الحديث ويتجلى فيها روح الانتماء، مثلما نراه في منجزات الفنان عبدالحفيظ قادري الذي اقتحم عالم الحروفيات في بداية حياته الفنية، مبرزاً قدرته التقنية الفائقة في بناء عوالم لوحة تجريدية مستوحات بمعناها الروحي من الحرف العربي المقدس.
تأخذ اللوحات التجريدية المتحركة حسياً بتموجات الحرف العربي، روح المنجز الفني الذي تخطى أكبر المخاضات قبل أن يفرض خصائص وجوده في عالم لا يزال يتمسك المتنفذون فيه بالمبادئ التقليدية لقواعد الخط إلى حد الصرامة، ولم يأذنوا بعد في بعث روح الحداثة فيه. فتبرز جماليات الخط التجريدي المعاصر بمضامينها المتمردة على قواعد أصولية ليمنح الحرف العربي المشكل أساساً بالتواءات تشكيلية لها معانيها وحيزها البصري، وروحه المعاصرة بتوظيف تجريدي ينفتح دون انغلاق على مذاهب الفن التشكيلي الحديث.
يضحي الارتقاء بالحداثة في لوحات خطية واستخدام تقنياتها المعاصرة والتحكم في أدواتها إبرازاً للمضمون الإنساني في عمل تشكيلي لا يستقيم بوجوده إلاّ إذا أخذ أشكال الواقع المتخيّل وأعاد صوغها بآليات جمالية، وجسد تجليات الذات في مشهد بصري ملموس.